الفوائد هي ربًا خالص… لذلك التعامل مع البنوك أو العمل بها هو حرام شرعًا.

ترسخت هذه الفكرة في عقول عموم المسلمين لفترة طويلة من الزمن، فخلقت العديد من الموانع والسدود في طريق تعاملها مع البنوك، إلى أن ظهرت وانتشرت بقوة «البنوك الإسلامية»، التي وجدت فيها هذه الفئات ضالتها. ومع سنوات من الممارسة، أدرك البعض أن الفارق الجوهري بين البنوك الإسلامية والبنوك التقليدية هو المسمى فقط.

وهو الأمر الذي ساهم في خفوت الجدل في المجال العام حول «حرمانية» الفوائد وقواعد الاقتصاد الإسلامي.

في دراسته النقدية التقييمية، التي استغرق إعدادها سبع سنوات، يدرس ويُحلل الاقتصادي والأكاديمي الباكستاني «محمد أكرم خان» كافة القضايا المتعلقة بالاقتصاد الإسلامي، في مجلد من 22 فصلاً، تحت مسمى «ما هو الخلل في الاقتصاد الإسلامي»، والذي صدر مؤخرًا (عام 2019) من «مركز نماء للبحوث والدراسات» ببيروت، وترجمه وعلّق عليه الباحث الاقتصادي المصري «عمر السيد علي حسين».

وقد استعرض خان في هذا الكتاب خلاصة خبرته المرتبطة بالاقتصاد الإسلامي، وسرد وناقش فيه الكثير من قضاياه على المستوى التنظيري كعلم اجتماعي مقابل الاقتصاد التقليدي، وعلى المستوى الشرعي فيما يخص مبادئه الأساسية كقضية تحريم الفائدة، وفيما يتعلق بتطبيقاته العملية فيما يخص التمويل والمصرفية الإسلامية والزكاة. وكانت المنهجية المتبعة خلال دراسته هي النقد والمقابلة مع الاقتصاد التقليدي، وكانت له بعض المقترحات للإصلاح من مسار الاقتصاد الإسلامي.


علم الاقتصاد الإسلامي

ظهر الاهتمام بالتعاليم الاقتصادية للإسلام مع صحوة الاستقلال السياسي والالتفات إلى حق الدولة الإسلامية في تحديد مصيرها مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وكانت القيادات الإسلامية مثل «جمال الدين الأفغاني» و«محمد عبده» و«سيد أحمد خان» و«محمد إقبال» في المقدمة لإنشاء هذه الصحوة الإسلامية، ومع ذلك لا تكاد ترى في كتاباتهم وخطاباتهم مصطلح الاقتصاد الإسلامي أو التمويل الإسلامي بجلاء.

ومع ظهور كتابات متأخرة عن ذلك كالتي كتبها «المودودي» و«باقر الصدر»، والأجيال التالية لهم مثل «نجاة الله صديقي» و«خرشد أحمد» و«عمر شابرا» و«أنس زرقا» و«منذر قحف»، اشتهرت هذه المصطلحات بين علماء الشرق والاقتصاديين المسلمين.

وخلال النصف الأول للقرن العشرين، أغلب ما كُتب تحت عنوان الاقتصاد الإسلامي كان من كتابات علماء الدين الإسلامي. في تلك الأيام لم تكن ثمة منابر مستقلة أو جرائد لنشر إسهامات الاقتصاد الإسلامي. بعض الكتابات المتفرقة ظهرت في بعض المجلات الأكاديمية والعامة. وكانت نقطة التحول عندما تم إنشاء مركز بحوث الاقتصاد الإسلامي في جامعة الملك عبد العزيز، بجدة عام 1976.

وخلال سنوات قليلة، ظهرت عدة مؤسسات مالية إسلامية أُنشئت على أساس الغرض المعلن بإقامة معاملات على أساس المبادئ الإسلامية. وخلال الثلاثين عامًا السابقة، كان هناك تطور عظيم في إنتاج ودوران البحوث العلمية والكتاب والمقالات فيما يتعلق بالاقتصاد والتمويل الإسلامي.

ونجد أن حركة الاقتصاد الإسلامي قد بدأت مع ظهور الهدف المنشود من إنشاء فرع معرفي متميز يدرس المشكلة الاقتصادية من إطار شرعي.

ولكن في الحقيقة لم يحقق الاقتصاد الإسلامي الكثير في هذا المنوال. فالأدبيات المكتوبة في الاقتصاد الإسلامي لا تغطي جميع جوانب علم الاقتصاد كفرع معرفي. وأغلب ما كُتب أسلوبه مفاهيمي لا تنظيري بالمعنى الأدق للتعبير، وذلك نتيجةً طبيعية لغياب الاقتصادات الإسلامية من الواقع، ومن ثَمَّ عدم قابليتها للاختبار.

وكان الجذب المركزي للاقتصاد التقليدي شديدًا لدرجة أن أي مُؤلَف تحت مسمى الاقتصاد الإسلامي ما هو إلا إعادة صياغة للاقتصاد التقليدي ولكن بالنكهة الإسلامية (الشرعية) من خلال بعض المراجع ونصوص من المصادر الأصلية للإسلام. وإذا قمنا بإزاحة هذه الاستشهادات التراثية من كتابات الاقتصاد الإسلامي، لن تكون النتيجة مختلفة كثيرًا عما يطرحه الاقتصاد التقليدي.

ومن الناحية الفنية، لم يعالج الاقتصاد الإسلامي المشاكل البشرية، ولم يدرس حتى المشاكل الاقتصادية الخاصة بعموم المسلمين. ورغم إقراره لاستخدام نفس أدوات التحليل الخاصة بالاقتصاد التقليدي، إلا أنه عجز عن إنجاز نظرية اقتصادية كلية أو جزئية خاصة به. بل الأعجب من ذلك أن الاقتصاد الإسلامي يفتقد قانونًا للطلب خاصًا به، الذي هو أساس علم الاقتصاد.


تحريم الربا والتحايل عليه

تُحرم نصوص كتب الديانات السماوية الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام) الربا، وتمنع الفائدة على القروض. بيد أن الطريقة التي فسر بها علماء الديانات الثلاث هذا التحريم لم تنجح في القضاء على التعامل بالفائدة. وبذلك، يمكننا القول إن التاريخ البشري أثبت فشلاً في تجارب تطبيق التفسير البشري للتحريم الإلهي للفائدة على القروض.

ولقد حاولت النخبة المتدينة والمُجددون والمُصلحون الاجتماعيون عدة مرات عبر التاريخ وضع آلية قانونية لإلغاء الفائدة على القروض. فالبعض كافح زمنًا طويلاً من أجل تحقيق هذا الهدف. ولكن لسوء الحظ، كانت تترتب على الحلول القانونية دومًا نتيجتان:

  1. نشوء أسواق غير منظمة (سوداء) للأدوات المُدرة للفائدة على الائتمان. وترتب على ذلك ارتفاع أسعار الفائدة لمستويات أكبر مما كانت عليه، مما أحبط الغرض الأساسي الذي مُنعت لأجله الفائدة بالقانون.
  2. أدت هذه التقييدات القانونية لدفع الناس لسلسلة من الحيل والتمويهات على الربا لأجل تجاوز العقوبات القانونية. ويُستدل على ذلك بقائمة طويلة من الحيل التي وضعتها المؤسسات المالية الإسلامية في الوقت الحاضر.

لقد تعرض هذا الفهم للربا إلى ضغوط شديدة مع ظهور المصارف التجارية الحديثة. ولقد شغلت مشروعية الفائدة التجارية حيزًا من مناقشات المثقفين من المسلمين. ولقد كانت الاستجابة الفورية بشبه إجماع من علماء الأصوليين أن الفائدة التجارية ربًا وأنها مُحرمة في الإسلام. ولقد وافق هذا التفسير استعداد السامعين.

ثم شهد الربع الأخير من القرن العشرين ظهور عدة مؤسسات مالية إسلامية على أساس المفهوم السابق، وهو أن: كل أنواع الفائدة ربًا، وأنه يجب تنظيم العمل المصرفي على أسس غير الفائدة.

وكانت أبرز النظريات المُرشحة لهذا الأمر مفهوم المضاربة الشرعية؛ أي الجمع ما بين المال والعمل في علاقة شراكة، وتوسطه في الخدمات المصرفية (وهو ما سيتم شرحه لاحقًا). إلا أن المؤسسات المالية الإسلامية اكتشفت مع الوقت أن التعامل على أساس المضاربة والمشاركة تحفه كثير من المخاطر غير المقبولة. ولهذا السبب بدأت المصارف تطوير وسائل تتضمن تدفقات مالية ثابتة ومُحددة (كما هو الحال في البنوك التقليدية)، ولكن في نفس الوقت مقبولة لدى علماء الشريعة.

وقامت المؤسسات المالية الإسلامية بإنشاء هيئات للرقابة الشرعية على هذه البنوك تطبيقًا لما أشار إليه علماء الدين، وواجهت هذه الهيئات مشاكل جديدة مع توسع الأعمال والتحديات المتجددة.

ولم تسلم في معظم الأحوال من الفائدة على أموالها بشكل أو بآخر، إما عن طريق استخدام التسميات المختلفة أو عن طريق الحيل القانونية. فهناك الكثير من الحيل الفقهية اخُترعت من قبل المؤسسات المالية الإسلامية وأقرتها هيئات الرقابة الشرعية، والتي تقبل الفائدة على الأموال المصرفية.

اتضح لاحقًا أن دعاوى الإجماع على تحريم الفائدة التجارية لم تكن على أساس صحيح، فلقد كانت هناك أصوات معارضة بين علماء المسلمين، وكذلك فإن ممارسات المسلمين لا تؤيد بشكل نهائي تحريم الفائدة على المعاملات التجارية.

وحتى الحركة المعاصرة المؤيدة للتمويل الإسلامي، رغم كل هذه الجلبة والضوضاء، لم تستطع جذب دعم معظم المسلمين. بل إن المؤسسات المالية الإسلامية الرائدة تُودع أموالها مقابل الفائدة في البنوك التقليدية. وأغلب المشاريع الحكومية في الدول –ذات الأغلبية المسلمة- لا تزال تعمل على أساس الفائدة. ومن ثَمَّ، فإن الإجماع المزعوم على قبول التفسير الأصولي للفائدة، الذي يُعامل جميع أنواع الفائدة كربا غير مدعوم واقعيًا.


كيف تعمل المصارف الإسلامية؟

نشأت حركة التمويل والمصرفية الإسلامية نتيجة الظلم الاقتصادي الواقع من الرأسمالية. وكان هدفها المنشود إنشاء إطار للتنمية الاقتصادية داخل نطاق الأهداف الكلية للعدالة الاجتماعية والرفاه البشري كما يُصورها الإسلام.

كان هذا واضحًا عندما تم إنشاء أول بنك إسلامي في ميت غمر بمصر عام 1963، وكان تركيزه الأكبر على سياسات التنمية الاجتماعية من خلال التمويل الخالي من الفائدة. ولقد بدى للعلماء الأصوليين أن الفائدة على القروض التجارية أداة للاستغلال، وصرّحوا بأن المصرفية القائمة على أساس الفائدة مُحرمة من المنظور الإسلامي.

وكان أهم اعتراضاتهم أن البنك يمنح تمويلاً بمعدلات ثابتة ولا يهتم بالربحية الحقيقية والإنتاجية المترتبة على الأموال التي يمنحونها. فحتى عندما يحقق أحد عملاء البنك خسارة، فإنه ملزم بسداد الفائدة على أصل المال. ومن منظورهم، فإن هذه حالة إجحاف وظلم. ولحل هذه الإشكالية البسيطة، قاموا بتبني فكرة بسيطة.

ذهبوا إلى أن البنوك ينبغي أن تمنح الأموال على أساس عقود المشاركة والمضاربة. وإذا ما حقق المشروع التجاري ربحًا في نهاية المدة، فإنه يُقاسم البنك في الأرباح المُحققة، وإذا حقق خسائر، فإن البنك عليه كذلك أن يتحمل جزءًا منها. وكانت الفكرة في بساطتها الناصعة مُقنعة إلى حد ما، وبدت عادلة ومُحققة للإنصاف.

ولكن، اصطدمت هذه الفكرة بمعوقات التطبيق العملي، التي كانت مستعصية على الحل، مما حدا بالمؤسسات المالية الإسلامية إلى ممارسة مختلف الحيل والخدع لتبني نظام الفائدة في الخفاء.

ومع الوقت، اتجهت البنوك الإسلامية للتقارب مع البنوك التقليدية، وسلكت الطريق الأيسر بتقليدها فيما يتعلق بتطوير المنتجات المالية بدلاً من ابتكار منتجات جديدة تمامًا. وغدت أدواتها مجموعة فرعية من أدوات البنوك التقليدية، حتى غدا التمويل الإسلامي مُكملاً أو إضافة جديدة على التمويل التقليدي، بدلاً من أن يكون منافسًا له.

وقد أعرب العديد من علماء المسلمين عن عدم رضاهم على مسارات تطور المؤسسات المالية الإسلامية، فهم رأوا أن الأساس المنطقي الخاص بالبنوك الإسلامية كان لإقامة نوع مختلف من البنوك يُحقق العدالة والتوزيع العادل للدخل، وصيغ استثمارية أخلاقية لدعم الأهداف الاجتماعية الأوسع للإسلام، والمساهمة في التنمية المتوافقة مع حماية البيئة والمساواة بين الأجيال المتلاحقة، وتحقيق أكبر قدر من الصالح العام. وبإهمال جميع هذه المثل العليا، فإن ممارسة البنوك الإسلامية تحاول تحقيق نفس الأهداف مثل البنوك التقليدية.


رؤية نقدية لنقد الاقتصاد الإسلامي

في تقديمه للكتاب، حرص المترجم على طرح رؤية نقدية لمحتواه ومنهاجيته، وقام بتعديد المغالطات التي عانى منها الكاتب أثناء بحثه، ومنها: مغالطات ناشئة عن سوء فهم أو تصور للكثير من المعاملات الإسلامية ومفهوم الربا. فيذكر المترجم أن غالب احتجاجات الكاتب قائمة على أساس عدم إحاطة وافية بالشريعة، وعدم تقديمها كمصدر للتلقي والعلم.

كذلك يُوجَه النقد للكاتب على محاكمته (الجائرة) لتنظير الاقتصاد الإسلامي، وذلك لعدم وجود مجتمع إسلامي بمعنى الكلمة، ومن ثَمَّ عدم استناد الدراسات على الأدلة التجريبية. فالاقتصاد التقليدي مرّ بمراحل مثيلة في الكتابات الأولى له، ولم يأخذ صورته الحالية إلا بعد أن قام القانونيون والفلاسفة والسياسيون بإعادة تكوين الأساس الفلسفي والمنهج البحثي للاقتصاد التقليدي.

كما نجد أن الكاتب استعرض عدة أدوات نشأت عن النظام المالي الحالي، مثل: التوريق والأسواق الثانوية وأسواق النقد والمضاربات والمشتقات وخصم الديون، وانتقد على الاقتصاد الإسلامي أنه لم يأت ببدائل جيدة لها. وفي الوقت نفسه، وفي مواضع أخرى، كانت من أبرز انتقادات الكاتب للاقتصاد الإسلامي هي عدم الأصالة وأن أغلب أدواته مماثلة لأدوات التمويل التقليدي، وهو ما ينسف منطق انتقاده الأول.

ومع ذلك، يحمل كتاب «ما الخلل في الاقتصاد الإسلامي» في طياته منافع وجوانب إيجابية متعددة للباحثين والدارسين للاقتصاد الإسلامي:

  1. كون الكتاب موسوعة شاملة مختصرة للاقتصاد الإسلامي.
  2. موسوعة لجميع الانتقادات التي يمكن أن تواجهها الأبحاث المقدمة في مجال الاقتصاد الإسلامي.
  3. يطرح الكاتب منهجية جيدة يمكن أن تُخاطب بها لجان التحكيم لقبول الأبحاث الاقتصادية الإسلامية.
  4. يفتح الباب لمزيد من التفكير والمقترحات للرد على الشبهات من المنطلق الاقتصادي الإسلامي.
  5. يفتح مجالات بحثية جديدة، مثل: البحث عن وسائل أخرى غير البنوك الإسلامية لقيام المشاركات والمضاربات، والاهتمام بتمويل المشروعات الصغيرة عن طريق تقاسم الأرباح والخسائر، ووضع دراسات للوقوف على فلسفة علم الاقتصاد الإسلامي، وكذلك دراسات نقدية إسلامية للكتابات الأولى أو التأسيسية للاقتصاد التقليدي.