محتوى مترجم
المصدر
سوثرن كروس ريفيو
التاريخ
2016/08/13
الكاتب
رون ميلر

نشأ نظامنا التعليمي العام لأول مرة في ثلاثينيات القرن التاسع عشر من أجل إتاحة خبرة تعليمية مشتركة وموحَدة ثقافياً لجميع الأطفال، ومع ذلك فمنذ بداية الأمر رفضت مجموعات معينة من المعلمين والآباء وحتى من الطلاب أنفسهم المشاركة في هذا النظام. وتنوعت أسبابهم في ذلك، وبنفس القدر تنوعت أنماط التعليم المدرسي – واللا مدرسي – التي اختاروها كبديل.

إن تاريخ التعليم البديل هو حكاية ثرية عن المصلحين الاجتماعيين وأنصار الفردانية المتديّنين والرومانتيكيّين. وعلى الرغم من اختلافاتهم، إلا أنهم يشتركون في اهتمامهم الكبير والخاص بالتنمية الاجتماعية والأخلاقية والشعورية والفكرية للنَشء، وقد مارسوا مقاربات تربوية تهدف بشكل رئيسي إلى إزكاء تلك الصفات على نحوٍ فيه حرص يتجاوز معظم برامج التعليم العام.

لقد وصف مؤرخو التعليم العام كيف أصبح هناك نموذج ضيق ومحدد من التعليم قائماً بشكل راسخ بوصفه «النظام الأفضل الأوحد» للتعليم العام – خلال الفترة بين عام 1837 (عندما أصبح «هوراس مان»[1] أول داعية مؤثر لأحقية الدولة بالتعليم) وبدايات القرن العشرين (عندما طُبقت نظريات علمية جديدة على علم النفس والتعلُم والإدارة التنظيمية).

كان الهدف من التعليم المدرسي، وفقاً لهذا النموذج، هو التغلب على التنوع الثقافي والتميُز الفردي من أجل صوغ مواطنين يدينون بالولاء وقوى عاملة فعّالة لأجل النظام الصناعي النامي. كما كان الهدف من التعليم بالأساس ضبط الطاقات النامية للنَشء من أجل توحيد اجتماعي وسياسي، بالإضافة إلى نجاح اقتصاد الشركات الناشئ. في بدايات القرن العشرين، تم التعبير عن هذه الأهداف بإيجاز من خلال مصطلح «الكفاءة الاجتماعية»، الذي عادة ما استخدمه القادة التربويون.

ينجذب الكثير من الناس إلى المدارس البديلة لأنهم يشعرون بأن أجندة «الكفاءة الاجتماعية» لا تسمح بتواجد قيم مثل الفردية الإبداعية

ينجذب الكثير من الناس إلى المدارس البديلة والتعليم المنزلي لأنهم يشعرون بأن أجندة «الكفاءة الاجتماعية» تلك لا تسمح بتواجد قيم مثل الفردية والإبداعية وحياة المجتمع الديمقراطي والتنمية الروحية. في الواقع، قوبلت جهود «هوراس مان» الساعية لمركزة التعليم العام بمعارضة منذ البداية من قِبل قادة دينيين ونقاد آخرين جادلوا بأن التعليم هو مسعى اجتماعي، وأسري، وشخصي، وليس برنامجاً سياسياً لكي تتكفل به الدولة.

فعلى سبيل المثال، جادل الكثير من مفكري الفلسفة المتسامية [2] من منتصف القرن التاسع عشر – إمرسون، ثورو، ألكوت، براونسون، ريبلي – ضد جمود التعليم العام، والعديد منهم بدأوا مدارسهم البديلة الخاصة.

كانت «مدرسة المعبد» في بوسطن، بإدارة «برونسون ألكوت» بين عامي 1834 و1838 (مع ابنته «لويزا ماي» كواحدة من الطلاب)، نموذجاً تاريخياً بارزاً للتعليم البديل؛ حيث رفض ألكوت مناهج التدريس السائدة في عصره (التلقين والاستظهار) وشجّع الحوار السقراطي، مع نبرة أخلاقية وروحية عميقة.

تعود جذور الكثير من حركات التعليم البديل في القرن العشرين إلى ثلاثة فلاسفة ومُربيين أوروبيين: جان جاك روسو، يوهان هاينريش بستالوتزي وفريديريك فروبل. قدّم روسو في كتابه «إميل»، الصادر عام 1762، طرحاً مفاده أن التعليم ينبغي أن يتبَع نمو الطفل الطبيعي عوضاً عن احتياجات المجتمع، التي -كما يزعم- تميل لأن تُحبط كل ما هو عضوي وطبيعي وروحي. هذا التأكيد على النمو الفطري للطبيعة البشرية أصبح الأساس الفلسفي الرئيسي للكثير من الحركات البديلة في التعليم. وقد أثّر على المربيين التقدميين بالإضافة إلى أجيال من المفكرين التحرريين.

في مطلع القرن التاسع عشر، افتتح السويسري بستالوتزي ذا النزعة الإنسانية مدارس للأيتام، متبنّياً مبادئ روسو. ألهم عمله مربيين في أوروبا وأمريكا (بمن فيهم ألكوت). وهاجر أحد أتباعه، وهو جوزيف نيف، إلى الولايات المتحدة وأسس مدارس متمركزة حول الطفل في ثلاث ولايات بين الأعوام 1809 و1827. كان فروبل مُعلماً آخراً في مدرسة بستالوتزي، واشتُهر لاحقاً بكونه المؤسس لمفهوم روضة الأطفال؛ ولا يعلم الكثير من الناس أن فروبل تصور جميع مراحل التعليم المدرسي بكونها «رياض» مُغذية لنمو الأطفال التلقائي.

تعود جذور الكثير من حركات التعليم البديل في القرن العشرين إلى ثلاثة فلاسفة ومُربيين أوروبيين: روسو، بستالوتزي وفروبل

هذا التقليد الفلسفي أثّر بقوة على «فرانسيس باركر» الذي أنشأ مع «جون ديوي» حركة التعليم التقدمي في فترة متأخرة من القرن التاسع عشر. ولكونِه مدير مدرسة عامة ورئيس برنامج لتأهيل المعلمين وخطيب ومؤلف ذو شعبية، آمن باركر أن التعليم ينبغي أن يخدم احتياجات الأطفال ويتلائم مع أساليبهم في التعلُم والتفكير.

وعلى الرغم من محاولة باركر نفسه (والكثير من التربويين التقدميين اللاحقين) لإصلاح «النظام الأفضل الأوحد» من داخله، إلا أن تأثيره انتشر إلى الكثير من المدارس البديلة أثناء العقدين الأولين لهذا القرن [3]، كهؤلاء المرتبطين بالمربيين التقدميين أمثال مارجريت ناومبرج، هيلن بارخورست، وكارولين برات، من ضمن آخرين كُثُر.

وفي الوقت نفسه، صمم اثنان من رواد التربية الأوروبيين منهجيات بديلة ذات جذور تعود إلى روسو، بستالوتزي، وفوربل. كانت «ماريا مونتيسوري» طبيبة أطفال/نفسية، درست نمو الطفل بعين علمية شديدة التدقيق بالإضافة إلى إيمانٍ دينيٍ عميق بالجوهر المقدس للنفس البشرية. افتتحت مونتيسوري «بيت الأطفال» الأول الخاص بها عام 1907.

طوّر «رودلف شتاينر»، وهو فيلسوف ومتصوف نمساوي، علماً روحياً سُمي بـ «علم طبائع البشر» إذ طبقه على مجالات الطب، والزراعة، والعمارة، والآداب بالإضافة إلى التعليم. أسس رودلف أول «مدرسة فالدورف»[4] في عام 1919. لقد تطورت كلتا هاتين الطريقتين إلى حركات عالمية مهمة من أجل تغييرٍ تعليميّ.

كان ذلك خلال الستينيّات من القرن العشرين عندما نمى التعليم البديل كحركة اجتماعية واسعة الانتشار. خلال هذا العقد بالطبع، تفجّرت إلى المشهد العام موضوعات الثقافة المضادة التي لطالما كانت مُهمشة وغير مرئية افتراضياً، مثل العدالة العرقية والسلمية والنسوية ومعارضة رأسمالية الشركات. أدّت كل من المظاهرات الحاشدة والمطبوعات وأنماط الحياة البديلة وأعمال الشغب المدينية والاغتيالات التي وقعت في تلك الفترة إلى مُسائلة المجتمع الحديث ومؤسساته.

شنّ مُربون وكُتاب آخرون – بمن فيهم بول جودمان وجون هولت وجوناثان كوزول وهربرت كول وجورج دينيسون وجيمس هيرندون وإيفان إيليتش – هجوماً لاذعاً ضد «النظام الأفضل الأوحد» وأجندته للكفاءة الاجتماعية. مثّلت الفترة بين عاميّ 1967 و1972، بشكل خاص، فترة أزمة للتعليم العام، عندما هزت مظاهرات الطلاب وإضرابات الأساتذة والتساؤلات العميقة عن الافتراضات التقليدية النظام في جوهره.

في هذه السنوات القليلة وحدها أُسست أكثر من 500 «مدرسة حرة» – مدارس ليست عامة قائمة على ثقافة مضادة إن لم تكن أفكاراً ثورية. فأُنشئت مدارس «المغناطيس»[5] (مدارس عامة بالاختيار) والفصول المفتوحة. وبدأت روح روسو وبستالوتزي وفوربل تتسرب إلى الدوائر الأكاديمية والاحترافية، مما أدى، مع نهاية سبعينيات القرن العشرين، إلى ظهور أساليب باتت تُعرف بالتعليم «الإنساني» و«الكلي».

لم تسُد الثقافة المضادة؛ فعلى مدار السنوات العشرين الماضية أُعيد التأكيد بشدة على القيم التقليدية في السياسة والتعليم. كان تقرير «أمة في خطر» الذي أصدرته لجنة الرئيس ريجان عام 1983 عن التميُز في التعليم بياناً قوياً بالأهداف التقليدية للتعليم العام الأمريكي، كمثل الكفاءة الاجتماعية والنمو الاقتصادي، وقد أدى إلى موجة عارمة من مواقف سياسية وتفويضات تشريعية و«إعادة هيكلة» حادة هدُفت بالأساس إلى إنتاج مواطنين وعمّال أفضل.

كانت أجندة جورج بوش (الأب) «أمريكا 2000» هي برنامج بيل كلينتون «أهداف الـ2000»من أجل تسخير طاقات جيل الشباب لاحتياجات اقتصاد الشركات.

أصبحت أجندة جورج بوش (الأب) «أمريكا 2000» هي برنامج بيل كلينتون «أهداف الـ2000»، والتي سُنّت في هيئة قوانين الآن، والتي أكملت هذه الحركة من أعلى لأسفل من أجل تسخير طاقات جيل الشباب لاحتياجات اقتصاد الشركات. وجد هؤلاء الذين عملوا من أجل تعليمٍ تقدمي ومتمركز حول الطفل أو تعليم إنساني، من داخل النظام وأثناء أوج انتشار الثقافة المضادة، دعماً ضئيلاً لرؤيتهم في السنوات الأخيرة، وقد تحول الكثير منهم إلى خياراتٍ بديلة.

هناك الآن الكثير من البرامج البديلة ضمن النظام العام للطلاب الذين هم «في خطر» ترك الدراسة لأنهم يشعرون بالاغتراب بشكل كامل بسبب رتابة التعليم التقليدي. وما زالت هناك مجموعاتٍ مهمة من المربين التقدميين وأخرى ذات صلة – مثل هؤلاء الذين يروجون للمدخل اللغوي الكلي والتعليم التعاوني – لا تزال تُصر على تزويد التعليم العام بمزيد من الغايات الإنسانية والديمقراطية.

لكن بالرغم من واحات التعلُم المتمركز حول الطفل هذه، فقد تأثر المناخ التعليمي خلال العقد الماضي بمزيد من تحكمٍ أشد من قِبل الفيدرالية والدولة على التعليم، مؤدياً إلى مخرجات موجهة سياسياً، ومعايير قومية لا تزال بعيدة عن الاختبار. وهناك أملاً ضئيلاً في مفهوم «المدارس المستقلة» الجديد نسبياً، الذي يسمح للآباء والمٌربين المبدعين أن يتلقوا تمويلاً عاماً مع تدخل بيروقراطي أقل، على الرغم من أن مقدار الحرية الذي سوف يُسمح به لهذه المدارس إذا ما فُرضت المعايير القومية لا يزال أمراً محل نظر.

بينما أصبحت نظم التعليم الحكومي واقعة بشكل متزايد تحت نيّر غايات اقتصاد الشركات، من المحتمل أن تتحول آلاف العائلات والمُربين إلى القيم الأكثر ديمقراطية والمتمركزة حول الفرد التي تمثلها المدارس البديلة والتعليم المنزلي. على مدار القرن والنصف الماضي، أصبحت المدارس البديلة مقاطعات معزولة للثقافة المضادة ذات تأثيرٍ ضئيل على سياسة وأفكار التعليم السائدة. لكن في عصر «ما بعد الصناعة» أو «ما بعد الحداثة» الذي يبدو أنه ينبثق الآن، فمن المحتمل أن نموذج «الكفاءة الاجتماعية» المرتبطة بعصر الصناعة بدأ يصبح مُهملاً.

ربما، كما ارتأى إيفان إيليتش في كتابه الصادر عام 1970 «مجتمع بلا تعليم مدرسي» وكما يصف جيمس موفيت في كتابه الحديث “مبنى المدرسة العالمي”، أن فكرة المدرسة العامة استنفذت غايتها. وفقاً لهؤلاء وغيرهم من المؤلفين، في مجتمع ديمقراطي وغني بالمعلومات، يجب أن يحدث التعلُم في كل مكان في المجتمع، ويجب أن يكون للشباب القدرة على الوصول للموجهين الذين يغذون اهتماماتهم الشخصية المتنوعة وأساليبهم في التعلم. أمامنا طريق طويل علينا أن نقطعه قبل أن يكون هذا النوع من النظام مُتاحاً، لكن إذا تحرك مجتمعنا حقيقة في هذا الاتجاه، لربما سيكون هناك مُربون بديلون يقومون بإنارة الطريق.


هوامش

[1] هوراس مان، هو سياسي أميركي ومُصلح تربوي، عاش بين الفترة 1796 و1859. تقوم أفكاره على أن التعليم العام حول العالم هو الطريقة المثلى لتحويل الأطفال الحرة في أي بلد إلى مواطنين منضبطين يتصفون بالحكمة. ويعتبره المؤرخون التربوين “أبو حركة المدارس المشتركة” التي شاعت في نظام التعليم الأميركي في القرن التاسع عشر.[2] هي فلسفة أصبح لها تأثيرها في أواخر القرن الثامن عشر وفي القرن التاسع عشر الميلاديين. وقد قامت على الاعتقاد بأن المعرفة ليست محصورة في الخبرة والملاحظة، ولا هي مشتقة منهما وحدهما. وقد عارضت بهذا الفلسفة التجريبية التي تنص على أن المعرفة تنبثق من الخبرة. وكان رالف والدو إمرسون الشخصية القيادية لهذه الفلسفة.[3] القرن العشرين، تاريخ كتابة المقال [4] هي مدارس تتبنى تعليم قائم على الفلسفة التربوية لمؤسسها، رودلف شتاينر. تؤكد تلك الفلسفة على الدور المحوري للخيال في التعليم، وتسعى لرؤية كلية للعملية التعليمية من خلال الدمج بين الجوانب الفكرية والعملية والفنية للطلاب. يوجد الآن أكثر من 1000 مدرسة فالدورف مستقلة حول العالم.[5] في نظام التعليم الأميركي، تُعد مدارس المغناطيس مدارس عامة ذات مناهج تعليمية متخصصة. وتشير كلمة “مغناطيس” إلى الكيفية التي تجعل تلك المدارس بها طلابها غير ملتزمة بالحدود التي تضعها السُلطات للمدارس. ظهرت تلك المدارس إلى نظام التعليم الأميركي لأول مرة في فترة السبعينيات من القرن العشرين، كوسيلة لمواجهة الفصل العنصري في المدارس العامة.

ترجمة هذا المقال تأتي نتاج مشاركة المترجم في ورشة الترجمة التعليمية ضمن برنامج معهد القاهرة للآداب والعلوم الحرة (CILAS). وقام بمراجعته كل من حسين الحاج وإيمان عبدالحميد وأمير زكي.