الساعة ١٦٠٠ – يوم ١٤ أكتوبر/تشرين الأول ١٩٧٣ – قيادة الجيش الثاني المصري

كان الرجل الثاني في الجيش، رئيس الأركان الفريق الشاذلي في زيارة عاجلة – الثالثة منذ بدء الحرب – للجبهة، لتفقد أحوال القوات، والاطمئنان على المعنويات، خاصة بعد أحداث صباح هذا اليوم، والذي تجاوزت خسائر جيشه فيه، خاصة الدبابات، مجموع خسائر الأسبوع الأول مجتمعة .

فوجيء الشاذلي بأن قائد الجيش الثاني اللواء سعد مأمون ليس في غرفة عملياته، وأنه في الراحة برفقة طبيبه. وأن رئيس أركان جيشه يتولى القيادة بالإنابة في هذه الساعات الحرجة. توجه الشاذلي إليه فورًا ليطمئن على أهم قادته الميدانيين. فالجيشُ الثاني يضم حوالي ٦٠٪ من مجموع القوات المحارِبَة. ويسيطر على الجزء الشمالي الأطول من الجبهة، من جنوب بورسعيد شمالًا إلى البحيرات المرة جنوبًا.

أُخبِرَ رئيس الأركان أن اللواء سعد لم يتحمل أخبار الخسائر الجسيمة التي حدثت لقواته صباحًا، فأصيب بانهيار عصبي شديد. ولذا استجاب لضغط معاونيه وأخلد للراحة، واستدعوا له الطبيب، والذي أخبر الشاذلي أنه يفضل إخلاءَهُ من الخطوط الأمامية.

رفض اللواء سعد بشدة، وحاول إقناع الشاذلي أنه يتحسن، فطلب من الطبيب أن يطمئنه باكرًا على حالة اللواء سعد، واحتياجه أو عدمه لرعاية طبية خاصة.

والآن سنعود للخلف قليلًا لتكتمل صورة ما حدث.


معركة تاريخية رغم أنف السياسة

تتفرد حرب أكتوبر/تشرين الأول ١٩٧٣، بكونها الحرب الوحيدة التي كانت الجيوش العربية النظامية فيها ندًا لعدو حديث التسليح كإسرائيل، تضم ترسانته نخبة الصناعات العسكرية الأمريكية والبريطانية والألمانية والفرنسية.

كان العدو لحظة اندلاع المعركة، في أوضاعٍ سياسية وعسكرية مثالية. تدعمه الولايات المتحدة أحد قطبي العالم دعمًا مفتوحًا، وتنافحُ عنه في المحافل الدولية. وجيشه لا يزال منتشيًا بانتصار يونيو/حزيران 1967 الساحق، عندما ضاعف الأراضي المحتلة 4 أمثالها في 6 أيام، وسحق أكبر جيشيْن – المصري والسوري – من دول المواجهة. فأصبح مرتكزًا على حدودٍ آمنة، تحصنها مرتفعات الجولان الوعرة، في الجبهة الشمالية.

أما في الجنوبية، فهناك قناة السويس، المانع المائي العسير. وعلى ضفتها خط بارليف الشهير، المكون من ٣٥ قلعة محصنة، يوازيه ساتر ترابي شاهق، وتليه خطوط دفاعية، ووحدات مدفعية محصنة، وقواتٍ مدرعة في أنساق متتالية للتدخل السريع تتجاوز ٣٠٠ دبابة .. الخ.

ويظلل كل هذا، تفوق جويُّ كبير كمًّا وكيفًا عن طيران دول المواجهة مجتمعة وبعد ٤٤ عامًا من حرب ١٩٧٣، لا يزال في جعبتها الكثير من العبر والأسرار، وما زالت بعض قطع ( البازل ) الفارقة في إبراز وجهها الحقيقي ناقصة. ويرجع هذا إلى الداءُ العُضال المتمثل في غياب الشفافية، والمحاسبة النزيهة، والنقد البناء، دون مزايدات أو تخوين.

دخلت السياسة على الخط كثيرًا للمتاجرة بالمعركة العظيمة لاكتساب الشرعية، وللتعمية على كوارث سابقة ولاحقة، ارتكبتها – ولا تزال – دولة يوليو

كما دخلت السياسة على الخط كثيرًا للمتاجرة بالمعركة العظيمة لاكتساب الشرعية، وللتعمية على كوارث سابقة ولاحقة، ارتكبتها – ولا تزال – دولة يوليو/تموز الشائخة، وما يصاحب هذا من مبالغات تسيء كثيرًا لأصحاب التضحيات الحقيقية العظيمة في هذه الحرب. أو إبراز بعض أجزاء المشهد، حتى تحجب ما سواها، كما شاهدنا في زمن صاحب الضربة الجوية.

إضافة إلى محاولة إغفال بعض الأسئلة المُلحَّة في فهم تغيرات مسار المعركة. كأسباب الخلاف الشديد أثنائها بين الرئيس السادات، والفريق الشاذلي في إدارة معركة الثغرة التي كادت تقلب النصر هزيمةً نكراء. حتى وصل الأمر إلى اتهام السادات له في مذكراته – البحث عن الذات – بأنه كان منهارًا بعد العودة من الجبهة. وهذا ما نفاه الشاذلي وغيره مرارًا بعد الحرب.وكذلك أسباب حدوث هذه الثغرة التي تسببت في حصارٍ خانقٍ للجيش الثالث المصري، ووضعت قوات العدو ١٠٠ كم شرق القاهرة.

ولكي يعيد التاريخ نفسه بأحسنه، ويجنبنا عاداته السيئة في تكرار الأخطاء بحذافيرها، سنزيل التراب عما يتم إخفاؤه، ونطرح أرضًا سرديات التاريخ المدرسي المُسَيَّسْ دائما. وسنعتمد على يوميات الحرب في مذكرات الفريق الجمسي رئيس هيئة عمليات الحرب .. طبعة الهيئة العامة للكتاب. ومذكرات الفريق الشاذلي، طبعة مركز بحوث الشرق الأوسط – سان فرانسيسكو.


٦-٩ أكتوبر/تشرين الأول .. أيام الأحلام

٢٨٠ شهيدًا و٢٠ دبابة و٥ طائرات .. هكذا كانت الخسائر المصرية ليوم العبور الأول كما ذكرها متطابقة كل من الرجلين – الشاذلي والجمسي – وهذا معجزة عسكرية حقيقية متجسدة.

اشترك في العبور ١٠٠ ألف جندي، وألف دبابة، و٢٠٠ طائرة، ضد كل الموانع التي ذكرناها، وضد ترسانة أسلحة متقدمة عن أسلحتهم الروسية بأجيال. والخسائر جاءت أقل من ١-٢٪ من حجم القوات. يكفي أن نذكر أن الأصدقاء السوفييت كانوا يتوقعون أن خسائر العبور لن تقل عن ٣٠ ٪.

صمدت المشاة المصرية، بصواريخها المحمولة على الكتف، أمام الدبابات، والمواقع الحصينة لساعات حتى فتح المهندسون ثغرات الساتر الترابي، وأقاموا الكباري. إذ عبرت أول دبابة بعد ٥ ساعات و٥٠ دقيقة. وتأخر العبور في بعض القطاعات إلى ١٨ ساعة.

صمدت المشاة المصرية، بصواريخها المحمولة على الكتف، أمام الدبابات، والمواقع الحصينة لساعات حتى فتح المهندسون ثغرات الساتر الترابي، وأقاموا الكباري

وخلال يومين .. سقط خط بارليف كاملًا سوى موقعيْن. ودمرت أغلب دبابات الدفاع الأول. أما ذراع إسرائيل الطولى فيكفي أن ننقل ما ذكره الجمسى من مذكرات أليعازر – رئيس أركان جيش العدو – أنه في الدقائق الأربعة الأولى من محاولة استهداف قوات العبور، أسقط الدفاع الجوي من حائط الصواريخ الشهير (كان يغطي غرب القناة، وحتى ١٥ كم شرقها) ٥ طائرات. وعصرًا تم التقاط أمر من رئاسة الأركان الإسرائيلية للطيارين بعدم الاقتراب لمسافة ١٥ كم من القناة.

وكان يوم ٨ أكتوبر/تشرين الأول من أيام الله على جبهة سيناء. فقد اكتمل تعبئة احتياطي العدو، وهاجم الجبهة كاملة بحوالي ألف دبابة. فشل الهجوم في كل الاتجاهات بعد خسائر مرعبة للمهاجمين. وفي أحد القطاعات دُمرَت ٣٠ دبابة صهيونية في أقل من نصف ساعة، وأُسر العقيد الإسرائيلي عساف ياجوري وظهر على شاشة التلفزيون المصري مساءً.

وبحلول ٩ أكتوبر/تشرين الأول، كانت القوات المصرية قد حققت الهدف الأوّلي للحرب، فحررت القناة بالكامل، ومدينة القنطرة شرق، وسيطرت على ١٢-١٥ كم شرق القناة. وهو أقصى ما يغطيه حائط الدفاع الجوي.

على الجبهة السورية، كان الوضع أسوأ. فبعد يومين، كان العدو قد استعاد ما فقده، وبدأ هجومًا مضادًا واسعًا، وقصف دمشق يوم ٩ أكتوبر/تشرين الأول. ولم يعتدل الميزان نسبيًا إلا بعد تدخل فرقتين عراقيتيْن بدءًا من يوم ١٠ أكتوبر/تشرين الأول.


١٠-١٤ أكتوبر/تشرين الأول: الوقت الضائع، والثمن الكبير

” … سيادة الفريق أنا مستقيل .. لا أستطيع تنفيذ التعليمات التي أرسلتموها .. “

هكذا رد اللواء سعد قائد الجيش الثاني على الشاذلي بغضب عصر يوم ١٢ أكتوبر/تشرين الأول بعد وصول أوامر الاستعداد لتطوير الهجوم شرقًا خارج حماية الدفاع الجوي، إلى منطقة الممرات الجبلية ( ٤٠ كم شرقًا ).

حدث بعدها اجتماع عاصف في القيادة الرئيسية من ٦-١١ مساءً بين القادة ورئيس الأركان ووزير الدفاع المشير إسماعيل. كان رأي قائدي الجيشيْن الثاني والثالث ورئيس الأركان أن تطوير الهجوم الآن خطأ عسكري فادح. فالجسر الجوي الأمريكي قد عوَّض معظم خسائر المعدات الإسرائيلية، وما زال طيرانهم متفوقًا. وكان الأجدر تطوير الهجوم ٩ أكتوبر/تشرين الأول أثناء تخبط العدو بعد فشل هجومه المضاد، بدلا من الوقفة التعبوية الدفاعية التي أخذتها القوات. أو الاكتفاء بما تحقق على الأرض، وهو كبير.

تعلل وزير الدفاع بمحاولة تخفيف الضغط عن السوريين. أخبره الشاذلي أن العدو الآن يمتلك ٩٠٠ دبابة في سيناء، وهي كافية للغاية مع تفوقه الجوي، في صد الهجوم المصري دون الحاجة لسحب أي قوات من جبهته الشمالية.

رد وزير الدفاع في النهاية .. أنه أمر من القيادة السياسية ولابد من تنفيذه ! فأذعن القادة. وتم تأجيل الهجوم من فجر ١٣ إلى فجر ١٤ أكتوبر/تشرين الأول ليكملوا استعداداتهم.

وكانت الطامة يوم ١٣ أكتوبر/تشرين الأول، أن رصدت الرادارات المصرية تحليق طائرة استطلاع أمريكية خارج مدى دفاعنا الجوي، وصوّرت الجبهة كاملة. أي أن العدو أصبح على اطلاع تام بما يحدث.

وهكذا فقدت القوات المصرية ٢٥٠ دبابة في 3 ساعات من صباح اليوم التالي عندما تم تطوير الهجوم شرقًا صباح 14 أكتوبر/تشرين الأول 1973م.


جهل أم مقامرة أم خيانة ؟!

ورد السؤال العنيف في عنوان الفقرة بنصِّه في مذكرات الشاذلي صـ ٢٧٣، في فصل: « ثغرة الدفرسوار .. القرار السياسي الخاطيء» تعليقًا على ما حدث يوم تطوير الهجوم، والذي يحمل مسئوليته كاملة لتدخل السادات في العمليات العسكرية، ولانقياد – كما يقول الشاذلي – وزير الدفاع له، ضاربين بعرض الحائط آراء قادة الجبهة، ورئيس الأركان.

يذكر الشاذلي أنه كان لمصر ١٧٠٠ دبابة. منها ألف دبابة عبرت القناة، وموزعة على فرق المشاة الخمس المتحصنة في الـ ١٢ كم شرق القناة، لتؤازرها دفاعيًا. فلا تصلح للاشتراك في التطوير الهجومي.

وكان هناك حوالي ٣٥٠ دبابة ( الفرقة ٢١ و ٤ ) كاحتياطي غرب القناة، ليواجه أي محاولة إسرائيلية للاختراق، والعبور المضاد لتطويق الجيشين الثاني والثالث، وقطع إمداداتهما، وتدمير حائط الصواريخ.

تم سحب معظم هذا الاحتياطي، ودعمه بقواتٍ من شرق القناة لتطوير الهجوم صبيحة ١٤ أكتوبر/تشرين الأول.

وهكذا تواجهت ٤٠٠ دبابة مصرية، مع ٩٠٠ إسرائيلية أحدث منها تكنولوجيًا ونيرانيًا، في صحراء مكشوفة، حاولت فيها طائراتنا الدعمَ الجوي، لكنه كان محدودًا أمام الهيمنة الجوية الإسرائيلية خارج حائط الصواريخ المرعب. وهكذا كانت أول هزيمة مصرية في حرب أكتوبر/تشرين الأول.


العدو في الظهر

كان الأخطر من فشل التطوير، أنه لم يعُد لمصر سوى ١٠٠ دبابة في احتياطي غرب القناة. ولذا – كما يذكر الجمسي – سُحِبَ لواء مدرع من القاهرة خلال الأيام التالية لدعم الجبهة.

قامت طائرة الاستطلاع الأمريكية بتصوير الجبهة مجددا ١٥ أكتوبر/تشرين الأول. ثم اندفع العدو بفرقتين مدرعتيْن كاملتيْن بقيادة سيئ الذكر شارون، ضد الميمنة الضعيفة نسبيًا للجيش التاني، قرب نقطة التقاء الجيشين.

وصل العدو بعد خسائر كبيرة إلى القناة، وبدأت قواته تعبر تدريجيًا إلى غربها، ودمرت العديد من مواقع الدفاع الجوي. وهكذا حدثت ثغرة الدفرسوار

والمفاصل بين الجيوش تكون مناطق هشَّة دفاعيًا، وهكذا كانت تُعتَبر منطقة بحيرة الدفرسوار المفصلية، والتي ذكر الشاذلي أن المصريين كانوا يعتبرونها في خططهم، أرجح هدف لأية محاولة اختراق إسرائيلية. ولذا وضعوا الاحتياطي المدرع غرب القناة لمنع ذلك.

وصل العدو بعد خسائر كبيرة إلى القناة، وبدأت قواته تعبر تدريجيًا إلى غربها، ودمرت العديد من مواقع الدفاع الجوي، والمواقع الخلفية للجيشيْن المصرييْن. وهكذا حدثت ثغرة الدفرسوار الشهيرة، والتي كادت تقلب حرب أكتوبر/تشرين الأول نكسةً أخرى، لولا بسالة القوات المصرية والفدائيين في الإسماعيلية والسويس .. ولهذا حديث آخر.

أما اللواء سعد مأمون – قائد الجيش الثاني الميداني – فقد أبلغ الطبيبُ رئيسَ الأركان يوم ١٥ أكتوبر/تشرين الأول بأنه لا يزال بحاجة لرعاية صحية، فنُقِلَ إلى مستشفى المعادي العسكري بالقاهرة، واستُبدِلَ بعدها بيومين.