لا شيء يمكنه تغيير نمط الحياة أكثر من إنجاب طفل.
نيكولاس سباركس

يلتقيان، يعقدان قِرانهما، وبعد عدة أسابيع تستبشر الأم – والعائلة – خيرًا بمن يتحسس باب الحياة في أحشائها بنبضاته الصغيرة. هكذا كانت بداياتنا جميعًا. فمن بين ظلماتٍ ثلاث يولد البشر ليروا نور العالم.

يتلقّون أول صفعة منه حتى يستفيق وعيهم وإدراكهم. تصرخ أفواههم كإشارة أولى على وجود الحياة فيهم. تلك الصرخة التي لا يمتلك المولود سواها فترة من الزمن قبل تعلّم الكلام؛ هي تعبيرٍ عن أي شيء يريده، أو أي شيء يؤلمه، أو أي شيء لا نعلمه!

محظوظون أولئك الذين تمنحهم الحياة فرحة الشعور بموعد قدوم كائنٍ صغير سيملأ فراغًا ما في المنزل. ومن حُرموا ذلك؛ فربما يكمن العِوَض في شيءٍ أفضل. وربما يكون العِوَض في إيجاد حلول بديلة أو الخطة (B)؛ مثل تربية يتامى، أو الإنجاب من خلال تقنيات المساعدة على الإنجاب، أو حتى – في مجتمعاتٍ كثيرة – يلجأ الأزواج لتبنّي طفل ورعايته.

ومهما تعددت الوسائل والأسباب؛ فالجميع يهدف إلى إيجاد طفل في العائلة. ومع تطور الوسائل الحديثة، ربما هناك طرق أكثر تطورًا لإنجاب الأطفال، حتى لو مرت عقود من الزمن.


وسائل مساعِدة

بشكلٍ عام، يلجأ كثيرون ممن تعثر عليهم إنجاب طفل بشكلٍ طبيعي، إلى بدائل لمساعدتهم على الإنجاب. إحدى هذه البدائل، هي «تقنيات المساعدة على الإنجاب – assisted reproductive technologies» المعروفة اختصارًا بـ «ART»، والتي ساهمت بشكلٍ كبير في إعطاء الأمل، ومساعدة الأزواج غير القادرين على الإنجاب في الحصول على طفل. في هذه التقنيات، تتم عمليات التخصيب -أولى المراحل في بدء خلق الجنين- يدويًا خارج الأرحام.

الإخصاب خارج الرحم IVF

إحدى أشهر العمليات، والتي بدأت مبكرًا، هي عملية «الإخصاب خارج الرحم – In Vitro Fertilization»، المعروفة اختصارًا بـ «IVF»، وتعرف عامةً بالتلقيح الصناعي، أو «أطفال الأنابيب – test-tube babies». تتم هذه العملية عن طريق أخذ عينة (بويضة ناضجة) من مبيض الأم، وإخصابها يدويًا في أطباق «بتري» في المختبرات، بإطلاق عينة من ملايين الحيوانات المنوية -المأخوذة من الذكر- في طبق «بتري» الذي يحتويها.

تبدأ هنا عملية تخصيب عادية/ طبيعية، حيث يكون البقاء للأقوى حين يتمكن حيوان منوي واحد من اختراق البويضة، وبذلك يكوم قد تم إخصابها. يتم بعد ذلك زرع البويضة المخصّبة «Zygote» في رحم الأم، لتبدأ رحلة الحياة الجنينية فيه بشكلٍ طبيعي.

في العام 1978، ولدت الطفلة البريطانية «لويز براون – Louise Brown» في الـ25 من يوليو/ تموز، لتصبح أو طفلة بشرية على الإطلاق تولد من خلال تلك العملية. ومنذ ذلك الحين حتى الآن؛ ولد أكثر من مليوني طفل بواسطة عملية «التلقيح الصناعي».

يلجأ الأزواج عادةً لتلك الوسيلة لعدم تمكّن الشريكان من الإنجاب بسبب العقم، أو وجود عراقيل تصعّب تخصيب البويضة. بمعنى آخر، تصعّب وصول الحيوان المنوي إلى البويضة في الرحم، أهم هذه العراقيل الآتي:

1. في الأنثى؛ «انتباذ بطانة الرحم – Endometriosis». وهو مرض يتسبب في خروج أنسجة بطانة الرحم خارجه. تنمو هذه الأنسجة (البطانة) على جانبي تجويف الرحم، ثم تمتد إلى قناتي فالوب ثم إلى المبيضين. أو تسلك طريقًا آخر إلى عنق الرحم مسببة التهابات، والتصاقات وآلامًا شديدة ودورية.

تسلك تلك البطانة سلوك الغشاء المخاطي المبطن للرحم. حيث تبدأ بالاستجابة للهرمونات التي يفرزها المبيض، وتبدأ في إهدارها مما يتسبب في انخفاض نسبة الهرمونات في الدم. بالتالي يؤدي ذلك الانخفاض إلى اضمحلال الأنسجة المبطنة للرحم، وخروجها على هيئة دم الدورة الشهرية. أبرز العلامات على وجود هذه الحالة المرضية؛ هي آلام حوضية، وآلام في البطن، ونزول دم الدورة الشهرية فيما يشبه (النزيف).

2. انخفاض عدد الحيوانات المنوية في الذكر.

3. مشاكل أخرى في الرحم، أو قناتي فالوب.

4. مشاكل الإباضة في الأنثى.

5. الأجسام المضادة التي قد تضر (بالحيوانات المنوية) في الذكر، أو (البويضات) في الأنثى.

6. ضعف الحيوانات المنوية، الذي يتسبب في عدم قدرتها على اختراق البويضة، أو البقاء على قيد الحياة في مخاط عنق الرحم.

7. مشكال خصوبة غير مفسّرة.

الحقن المجهري ICSI

عملية «الحقن المجهري – Intracytoplasmic sperm injection»، أو ما يعرف اختصارًا بـ«ICSI»؛ هي إحدى عمليات «المساعدة على الإنجاب خارج الرحم – ART».

آلية عملها مشابهة لعملية التلقيح الصناعي (السابق ذكرها)، حيث تتم يديويًا في المختبر، لكن المميز فيها؛ هو أنه يتم تحديد حيوان منوي واحد يُختار عشوائيًا من عينة السائل المنوي؛ ويتم حقنه مباشرة في البويضة بواسطة (حقنة).

تم إجراء أول عملية حقن مجهري في التاريخ البشري في عام 1988، لسيدة فشل «التلقيح الصناعي – IVF» العادي في تخصيب بويضتها بسبب «قلة عدد الحيوانات المنوية»، التي من المفترض أن تقوم بذلك. أما حالات الحمل الأولى التي حدثت من خلال هذه العملية -ICSI-، فقد سجّلت في بلجيكا عام 1992.

في عام 2008،بلغت نسبة عمليات التلقيح الصناعي باستخدام الحقن المجهري نحو 64.3% في الولايات المتحدة. أما عمليات التلقيح الصناعي دون استخدام الحقن المجهري؛ فبلغت نحو 35.5% في المائة.

تساعد عمليات الحقن المجهري في علاج عقم الرجال أيضًا، حيث يصنّف عقم الرجال كالآتي:

1. «فقد النّطاف الانسدادي – obstructive azoospermia».

وهي حالة عقم شائعة لدى الذكور؛ حيث «ينعدم» وجود حيوانات منوية في السائل المنوي؛ نتيجة وجود خلل في قنوات توصيلها. وفي كثيرٍ من الأحيان؛ قد يصاحب قلة تركيز الحيوانات المنوية، ظهور بعض التشوهات الكبيرة في شكل الحيوانات المنوية، وحركتها.

2. «فقد النّطاف اللاإنسدادي – non-obstructive azoospermia».

يشير هذا النوع من العقم إلى عدم وجود الحيوانات المنوية في السائل المنوي بسبب إنتاج حيوانات منوية شاذة (غير مكتملة أو بها عيوب). هذا السبب يمكن أن ينتج عن مشاكل هرمونية، أو فشل الخصية، أو الإصابة بدوالي الخصية.

3. «قلة النّطاف الشديد – severe oligozoospermia».

حالة عقم شائعة بين الذكور أيضًا؛ حيث يقل عدد الحيوانات المنوية في السائل المنوي.

مكّنت عمليات استخدام الحقن المجهري من معالجة عقم الرجال في الولايات المتحدة من 84% في عام 2003، إلى 93% في عام 2012.


تجميد الأجنّة

تذكرون بالطبع الطريقة التي صممت للحفاظ على الجنس البشري في فيلم «Interstellar»، والتي كانت مجهزة لتتم عن طريق خطتين. الخطة (A) تنص على نقل البشر بذاتهم من الأرض لكوكبٍ آخر صالح للحياة.

والخطة (B)؛ هي التضحية بالأرض بمن عليها، والمضي قدمًا نحو المستقبل، والبدء من الصفر على كوكب صالح للحياة، حيث سيتم إنشاء مستعمرات بشرية جديدة كليًا عن طريق «تفقيس» البويضات المخصّبة، أو «الأجنّة المجمّدة – Frozen embryos» التي حُمِلت على متن الرحلة!

يطلق على الأجنّة المجمّدة أيضًا اسم «أطفال الجليد – snow babies». ربما فكرة تجميد الأجنة ونشوء (بشر) بتلك الطريقة؛ كانت إحدى أفكار الخيال العلمي فترة من الزمن كحال أغلب ما نراه بجوارنا. إلا أن الشابة الأمريكية «تينا جيبسون» البالغة من العمر 26 عامًا، أنجبت طفلتها الأولى «إيما جيبسون» بعد نحو 24 عامًا من تجميدها كجنين، في الـ24 من أكتوبر/ تشرين الأول عام 1992.

قرر الزوجان «جيبسون» إنجاب الطفلة بعد علمهما بعدم قدرتهما على الإنجاب. فقررا الحصول على بويضة مخصّبة «Zygote» من متبرّعين مجهولين، حيث جمّدت «الزيجوت إيما» في «مركز التبرع الوطني للأجنّة – National Embryo Donation Center» في تينيسي.

تلجأ النساء عادةً إلى تأجيل الإنجاب، وتجميد بويضاتها سواء كانت مخصبّة أم لا؛ بسبب ظروف معيشتهن مثل؛ العمل، أو الدراسة والسفر، أو أي مهمة يمكن أن تعيق القيام بواجب المنزل والعائلة بجانب هذه المهمة معًا. أو قد يكون السبب؛ هو الحفاظ على بويضاتهن من شبح التقدم في العمر، والتسبب بتلفهن خصوصًا في المرحلة العمرية بين 35 و45 عامًا.

آلية تجميد الأجنّة

عملية التجميد؛ تعني تجميد الخلايا كليًا. لكن الخطر هنا في حالة تجميد الأجنّة، هو نشوء بلورات ثلج داخل الخلايا، والتي تعمل بمثابة شفرات حادة صغيرة قد تتسبب في موتها، أو إلحاق الضرر بغشاء الخلية، أو الأغشية المختلفة لهياكل الخلايا التي توجد داخل السيتوبلازم.

تتم آلية تجميد الأجنّة بنمط بطيء، عن طريق إضافة مادة «كريوبروتكتانتس – Cryoprotectants»، إلى المحلول الذي يتم تجميد الخلايا فيه. تعتبر هذه المادة أساس عملية تجميد الأجنّة أو الخلايا، حيث تعمل على حمايتها من تضرر الغشاء، وتمنع التلف الذي يمكن أن يلحق بها بسبب وجود كريستالات الجليد التي تتكون أثناء عملية التبريد؛ وصولًا للتجميد!

صممت المادة كي تتخلل الخلايا وتستقر فيها، وتحل محل أي مياه في الخلايا. حيث تطرد أي مياه، وبالتالي تمنع تكون كريستالات الجليد. المهمة الثانية لهذه المادة؛ هي الحفاظ على الاستقرار في الغشاء، وحمايته من التلف أثناء التبريد. والمهمة الثالثة؛ هي أنها توفر بيئة «هايبر أوزموتيك – hyperosmotic» تساهم في عملية الجفاف، وإخراج الماء من الخلايا.

تتطلب عملية التجميد بهذه الطريقة؛ إضافة متتابعة من مادة «كريوبروتكتانتس» على فترة زمنية من 10 إلى 20 دقيقة، ثم انتظار ما يقرب من ساعتين إلى أن تبرد الخلايا من 0.3 درجة إلى درجتين/ دقيقة؛ وصولًا إلى درجة حرارة النيتروجين السائل (- 196 درجة مئوية).

السبب في بطء العملية؛ هو السماح لمادة «كريوبروتكتانتس» من تخلل الخلايا بشكلٍ كاف، وجفاف الخلايا تمامًا من أي مياه، بحيث لا تشكل أيّ بلورات جليدية داخل الخلايا.

هناك أيضًا تقنية أخرى تسمى «تزجيج – vitrification»، أي تحويل أي مادة سائلة إلى مادة شبيهة بالزجاج، خالية من أي بلورات. وتعرّف بأنها عملية التصلّب من خلال زيادة اللزوجة. تختلف هذه التقنية عن عملية التبريد السابقة (التقليدية)، بأنها عملية سريعة، وتستهلك 3 إلى 4 أضعاف الكمية من مادة «كريوبروتكتانتس» المستخدمة في الطريقة التقليدية.

يصل معدل سرعة التبريد إلى 10 آلاف مرة من الطريقة العادية. يسمح ذلك بمعدلات تبريد مهولة، حيث يمكن تبريد الخلايا بمعدل 10 آلاف – 20 ألف درجة/ دقيقة عن طريق إغراق الخلايا مباشرة في النيتروجين السائل.

تتميز هذه العملية بسرعة التبريد، الذي يمنع سُمّية المستويات العالية من «الكريوبروتكتانتس» أثناء وجودها في درجة حرارة الغرفة، ويساعد على تشكيل الزجاج (عديم البلورات) بسرعة، دون المرور بالمراحل العادية عند تحويل المادة السائلة إلى صلبة!

أهم ما يميّز عملية تجميد الأجنّة؛ هو أن أقصى درجة تبريد تصل إليها هي (- 196 درجة مئوية)، وهي قريبة من الصفر المطلق، لكنها ليست الصفر المطلق ذاته. درجة الحرارة هذه كافية لوقف النشاط البيولوجي داخل الخلايا، بالتالي تحافظ على الخلايا سليمة، لكن دون أن تقوم بوظائفها الحيوية.

يمكن تجميد البويضات، أو الأجنّة، أو الخلايا فترة زمنية تصل إلى 14 عامًا، وأكثر من ذلك. حيث جمّدت «إيما جيبسون» كجنين وحيد ملقى في وعاء خارج رحم والدتها مدة 25 عامًا.

الاستعداد للحياة

حين يختار الشريكان طفلتهما المجمدة، تبدأ عملية عكسية لعملية التبريد. يتم اختيار الجنين المجمّد، وتبدأ عملية «إذابة» يراعى فيها إزالة الجفاف من الخلية دون تفجيرها. تبدأ عملية تخفيف مادة «الكريوبروتكتانتس» التي تمت إضافتها عند التجميد ببطء، وبشكلٍ تدريجي.

يتم بعد ذلك تسخين الخلايا أولًا إلى درجة حرارة الغرفة، ثم إلى درجة حرارة الجسم. تترك الخلية فترة قصيرة لتستريح في وضعها الطبيعي، قبل أن تتم زراعتها في رحم الأم. تستغرق عملية الزرع مدة ساعتين إلى 4 ساعات، من الوصول إلى درجة حرارة الجسم.

أخيرًا؛ يبهرنا العلم دائمًا، وجميع ما سبق حلول واقعية ومريحة أتت ثمارها حول العالم لحل مشكلة تأخر الإنجاب، العقم. لكن عملية التجميد تحديدًا، تعد أكثر حساسية، وحذرًا، خاصةً إذا كان الجنين المجمّد لا يعود لشريكين قررا تجميد أجنتهما واستعادتهما مرة أخرى.

فجميع المجتمعات لن تقبل بفكرة وجود طفل من أبوين أو شريكين غير معلومين، وغير معلوم كيف تمّت تخصيب هذه «الزيجوت»، وذلك لاعتبارات دينية على المستوى الأول في المجتمعات الشرقية. لكن يرى كثيرون أن وجود طفل في العائلة؛ دافع كافٍ لعمل أي شيء، حتى لو اضطر الأمر إلى إنبات ورعاية أجنّة لاتعود إليهما!