18 أبريل/نيسان 1970م.. الطائرات الحربية الإسرائيلية تعربد في المجال الجوي المصري، ممارسةً هوايتَها الدموية المعتادة خلال الأشهر الماضية التي تصاعدت فيها الأحداث العسكرية في جبهة سيناء، فيما يُعرف بحرب الاستنزاف.

كانت ذراعُ إسرائيل الطويلة − هكذا كان يدلّل الصهاينة سلاحهم الجوي − تجوب السماء المصرية حتى العمق، دونما رادع تقريبًا، بعد أن نجحت في تدمير الدفاع الجوي المصري بشكل شبه مبرم في غاراتٍ كثيفة على مدار الشهور السابقة، وكانت القوات الجوية المصرية التي يُعاد تأسيسها بعد تدميرها على الأرض في حرب 1967، أعجز كمًا ونوعًا، من التصدي للطائرات الإسرائيلية الحديثة كالفانتوم الأمريكية، والميراج الفرنسية، والتي تتفوق كثيرًا على الطائرات السوفييتية التي تمتلكها مصر.

فوجئ السرب الإسرائيلي المتجه نحو الدلتا، بسربٍ معادٍ من طائرات ميج 21 السوفييتية، لتدور معركة جوية كبيرة لم يحدث مثلها منذ فترة. على الرغم من نجاح الطائرات الإسرائيلية في إسقاط 3 طائرات معادية، ومن ثمّ العودة إلى قواعدها بسلام، فإن توترًا شديدًا سيطر على غرفة العمليات الجوية الإسرائيلية الرئيسة، إذ التقطتْ أجهزة الاستقبال أثناء المعركة حوارات باللغة الروسية بين الطيارين المعادين.

أكدت تلك الواقعة المخاوف الإسرائيلية التي بدأت تتكثّف في الأسابيع الأخيرة عن وجود مباشر لسلاح الجو السوفييتي في مصر، وهذا يعني أن استمرار العربدة الإسرائيلية بنفس المستوى السابق سيحمل أثمانًا سياسية وعسكرية قد تكون باهظة للغاية.

على مدار الشهرين التاليين للواقعة السابقة، ركز الإسرائيليون غاراتهم على الجبهة دون التوغل كثيرًا في العمق، بعد أن أكدت استخباراتهم أن منطقة الحماية الجوية السوفييتية تقتصر على العمق المصري بعد الكيلو 20 غرب القناة. ألقيت آلاف الأطنان من القنابل خصيصًا على المواقع الخرسانية الحصينة التي دأبت مصر على إقامتها بكل ما أوتيت من قوة وتضحيات مادية وبشرية، وحامت شكوك الإسرائيليين حول أن الهدف من إنشائها هو أن تكون قواعدَ للصواريخ السوفييتية من طراز سام 2 و 3 المضادة للطائرات التي أعاد السوفييت تسليح مصر بها لتغطي سماء الجبهة ضد الطيران الإسرائيلي.

يذكر الفريق الجمسي في مذكراته أن آلاف العاملين المدنيين والعسكريين المصريين على مدار 39 يومًا، دأبوا على إقامة تلك القواعد الخرسانية تحت القصف الإسرائيلي العنيف، الذي أراق دماء المئات منهم (ص182). تم حفر ملايين الأمتار المكعبة من الأتربة، وصبَّ ملايين أخرى من الخرسانة، وإنشاء الكثير من المواقع الحقيقية والهيكلية − للتمويه − وبلغت التكلفة اليومية خاصة في الأيام الأولى حوالي مليون جنيه مصري، وكان مبلغًا كبيرًا آنذاك. لكن هل كان يستحق الأمر كل تلك الكلفة المادية والبشرية؟


قص الذراع الطويلة

في نهاية يونيو/حزيران 1970، كان بانتظار الإسرائيليين أوقاتٌ عصيبة. فوجئت طائرات الفانتوم الإسرائيلية التي كانت تقوم بغاراتها المعتادة على الجبهة بعشرات الصواريخ المضادة للطائرات تملأ السماء.

لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، شهد يوم 30 يونيو/حزيران 1970م الذي تم اعتباره عيدًا لقوات الدفاع الجوي، إسقاط 3 طائرات فانتوم إسرائيلية بواسطة صواريخ سام السوفيتية التي شكَّلت ما عرف بحائط صواريخ الدفاع الجوي المصري غرب القناة، والذي كان مداه يغطي كامل منطقة الجبهة، وكان يعمل على إدارته آلاف الضباط والجنود المصريين، يدربهم مئات الخبراء السوفييت.

نجح المصريون في التمويه على وسائل المراقبة الإسرائيلية، فنُقِلَتْ الصواريخ الجديدة والرادارات على وثبات، معظمها أثناء الليل حتى لا تقصفها الطائرات الإسرائيلية، ونصبت دفعة واحدة تقريبًا بطول الجبهة. بعد يومين، أعاد الطيران الإسرائيلي الكرَّة، فكانت النتيجة إضافة طائرتيْن جديدتيْن إلى قائمة الخسائر، ثم 3 طائراتٍ أُخَرْ يوم 3 يوليو. أصبح هذا الأسبوع يعرف بأسبوع تساقط الفانتوم، ويعتبر من أبرز أمجاد العسكرية المصرية المعاصرة. جُنَّ جنون القيادة الإسرائيلية، وتدخلت الولايات المتحدة في المشهد بثقلٍ سياسي كبير بعد أن صُدمت دوائرها العسكرية لتلك الخسائر غير المعتادة للطائرات الأمريكية الحديثة.

في 8 أغسطس/آب 1970، دخلت مبادرة روجرز الأمريكية للتهدئة لمدة 90 يومًا بين مصر وإسرائيل حيز التنفيذ، تبدأ بعدها مفاوضات لبحث كيفية تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242 الصادر عام 1967، وهو القرار الذي يقضي بانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية، لكن لم يصل أي من هذا إلى شيء، ولم ينكسر الجمود إلا بعد 3 سنواتٍ عندما اندلعت حرب رمضان/أكتوبر 1973م.لكن لتكتمل صورة الأحداث التي بدأناها بهذين المشهدين، لابد من العودة للخلف قليلاً.


الثمن الغالي للصمود والتحدي

منذ مارس/آذار 1969، شنَّت القوات المصرية أعمالًا عسكرية مكثفة ضد المواقع والتحصينات الإسرائيلية على الضفة الشرقية من قناة السويس، وفي أعماق سيناء، ووصلت أحيانًا إلى عملياتٍ فدائية داخل العمق الإسرائيلي، وذلك لاستعادة الثقة واستنزاف العدو الصهيوني بعد هزيمة 1967 المذلة التي فقدت فيها مصر شبهَ جزيرة سيناء في أقل من 6 أيام، بعد أن خضّب أرضَها دماء آلاف الجنود المصريين الذين لم يُعطوْا الفرصة للقتال والمواجهة.

لكن كان لهذا الصمود والتحدي كلفة باهظة من التضحيات. في اليوم الثاني لبدء حرب الاستنزاف 9 مارس/آذار 1969، استشهد الفريق عبد المنعم رياض، رئيس أركان حرب الجيش المصري، أثناء تفقده المواقع الأمامية بالجبهة في الإسماعيلية حيث كان يطلع بنفسه على آثار الضربة المدفعية القوية التي وجهتها مصر للمواقع الإسرائيلية على الضفة الشرقية للقناة في اليوم السابق، وكانت بمثابة ضربة البداية لانطلاق الحرب.

كذلك بدأت إسرائيل في استخدام سلاحها الجوي المتفوق كمَّا ونوعًا في غاراتٍ انتقامية على المواقع المصرية بطول الجبهة، وتطورت إلى ضربات دموية ضد أهداف مدنية في عمق مصر، وصلت إلى مناطق الدلتا وضواحي القاهرة، وكان من أبشعها استهداف عمال مصنع أبو زعبل 12 فبراير/شباط 1970 ليسقط أكثر من 70 شهيدًا مدنيًا، ومجزرة مدرسة بحر البقر بالشرقية التي راح ضحيتها 30 تلميذًا.

ركز الطيران الصهيوني على استهداف مواقع الدفاع الجوي (بطاريات الصواريخ، الرادارات…) لتتمكن من التجول بحرية في سماء مصر، خصوصًا مع ضعف القوات الجوية المصرية التي كان يتم إعادة بنائها بعد تدميرها على الأرض في الضربة الجوية الإسرائيلية يوم 5 يونيو/حزيران 1967م، وكانت تتكون بالأساس من طائرات ميج السوفييتية التي كانت تتأخر بجيليْن أو ثلاثة عن طائرات الفانتوم الأمريكية التي شكّلت العمود الفقري للقوات الجوية الإسرائيلية، فلم تكن الطائرات المصرية تستطيع كمًّا ولا كيفًا التصدي للطيران الإسرائيلي.

يذكر الفريق الشاذلي، رئيس أركان الجيش المصري الأسبق 1971-1973م، في الجزء السادس من شهادته على العصر في قناة الجزيرة، أن الدفاع الجوي المصري بحلول ديسمبر/كانون الأول 1969 كان قد تم القضاء عليه قضاءً مبرمًا، وأصبحت سماء مصر مفتوحة على مصراعيها أمام الطيران الإسرائيلي الذي استغلَّ الفرصة وكثّّف ضرباته على المواقع المصرية بالجبهة، وفي العمق المصري، وأصبح الوضع في منتهى الخطورة.

في نفس هذا الشهر، اجتمع الرئيس عبد الناصر مع قيادة القوات المسلحة ومع الخبراء السوفييت المتواجدين في مصر، لبحث الكارثة القائمة. خلال الاجتماع، لام عبد الناصر السوفييت بشدة لتأخرهم في تعويض الخسائر المصرية في الدفاع الجوي، ثمَّ قرّر عبد الناصر أن يتخذ قرارًا جريئًا وصادمًا.


يناير 1970: عبد الناصر إلى روسيا

الجزء السادس من شهادة الفريق الشاذلي رئيس الأركان المصري الأسبق على العصر، ويذكر فيها كثيرًا من التفاصيل عن التدخل السوفييتي في مصر عام 1970

يقدم الفريق محمد فوزي، وزير الحربية المصري، إبان حرب الاستنزاف، في الفصل العشرين في مذكراته، تفصيلاً لتلك الزيارة الفاصلة لموسكو التي رافق فيها الرئيس عبد الناصر للتفاوض مع القيادة السوفييتية.

كان ذلك هو لقاء القمة الثالث لعبد الناصر مع السوفييت في موسكو، والرابع بعد النكسة، إذ كان الرئيس السوفييتي بودجورني قد زار مصر يوم 23 يونيو/حزيران 1967 بعد أقل من أسبوعين من هزيمة 1967 المروعة، لبحث إجراءات إعادة تسليح القوات المصرية.في تلك الزيارة الثالثة، وعلى مدار أربعة أيام − من 22 إلى 25 يناير/كانون الثاني 1970 − كانت الأجواء عاصفة وشديدة السخونة رغم البرودة القارسة التي تهيمن على أجواء شتاء موسكو.

يذكر الفريق فوزي أن عبد الناصر انفعل كثيرًا أثناء مفاوضاته مع القادة السوفييت وهو يصف عنف الغارات الإسرائيلية على العمق المصري التي لم تفرق بين المواقع المدنية والعسكرية، وأن الانهيار التام للدفاع الجوي المصري قد وضع مصر في الزاوية.

عاتب عبد الناصر القيادة السوفيتية لأنها، في رأيه، لم تعطِ مصر الدعم السياسي والعسكري الكافي مقابل مكاسبها الكبيرة من فتح مصر الأبواب أمام المد السوفييتي في المنطقة العربية، وكان لهذا الأمر أهمية واضحة في أجواء الحرب الباردة بين قطبيْ العالم.

هدّد عبد الناصر السوفييت بأنهم إن لم يسارعوا بالتدخل المباشر لحماية العمق المصري لحين استكمال إعادة تسليح الدفاع الجوي المصري وتدريب قواته، فإنه، ولحماية المدنيين المصريين من المزيد من الخسائر، سيتنحى من رئاسة الجمهورية ويتركها لزميل آخر أقرب للولايات المتحدة الأمريكية ليتفاهم مع الأمريكيين والإسرائيليين، مهما كانت التنازلات! (هل كان عبد الناصر يدري أن أشد من هذا سيحدث في اتفاقية كامب ديفيد، بعد أقل من 8 سنواتٍ، وبعد آلاف التضحيات في الحرب الكبرى التي بدأ خطواتِ الاستعداد لها، ولم يمتد به العمر ليراها؟)

يوم 25 يناير/كانون الثاني 1970، كان الرد السوفييتي على عبد الناصر كالتالي:

  • إرسال أكثر من 85 مقاتلة ميج 21 اعتراضية بطياريها السوفييت لحماية العمق المصري، وتطوير 50 طائرة ميج 21 في الخدمة في مصر، لتحسين أدائها.
  • إرسال فرقة دفاع جوي كاملة مكونة من 32 كتيبة دفاع جوي صاروخي سام 2 و 3 بأطقمها، وكامل تجهيزاتها، لتبدأ العمل فورًا لحين استكمال تدريب قوات الدفاع الجوي المصرية.
  • إرسال راداراتٍ حديثة، ومعدات أخرى لدعم الدفاع الجوي.

كانت تلك هي المرة الأولى التي تتواجد فيها القوات السوفييتية في عملياتٍ عسكرية على الأرض في دولة صديقة منذ الحرب العالمية الثانية.

وبجانب الدعم العسكري السابق، كثَّف السوفييت دعمهم السياسي والضغط على الأمريكيين لإثناء الإسرائيليين عن الهجمات الوحشية ضد العمق المصري، لكن لم يرتدع الإسرائيليون إلا بالسلاح كما عرضنا سابقًا.

في السنوات التالية، تجلت الأهمية الإستراتيجية لهذا الدعم السوفييتي الذي ساعد مصر على إتمام ملحمة حائط صواريخ الدفاع الجوي، عندما قدَّم هذا الحائط غطاءً كافيًا لقواتنا المسلحة في أكتوبر/تشرين الأول 1973، ولولا وجوده لأجهض الطيران الإسرائيلي عملية العبور في ساعات.

والفائدة الأهم لتلك القصاصة التاريخية وغيرها، أن هناك آلاف الصفحات الأخرى التي نحتاج إلى قراءتها خارج قمقم التاريخ الرسمي والمدرسي في رحلتنا للبحث عن الوعي.