هناك مصطلح شهير في فن الرواية يدعى التواء الحبكة «plot twist»: يسير بك تسلسل الأحداث نحو نهاية تبدو منطقية، ثم فجأة يحدث ما لم يتوقعه أحد، أو ينجلي أمر ما كان خفيًا لتسير الأحداث مرة أخرى في اتجاه مغاير.

يفطن قراء الرواية في أحيان كثيرة لتلك الخدعة خاصة إذا وضعت في أماكن غير مناسبة، يموت البطل بعد انقضاء الربع الأول من الرواية على سبيل المثال، لا ينخدع القارئ لوفاة البطل بالطبع، فقط ينتظر كيف ستتحول الأحداث ويعود البطل للحياة.

يحدث هذا في الروايات؛ أما الواقع فهو مليء بالأبطال الذين يموتون في بداية قصصهم، هناك الملايين من قصص النجاح المبتورة بسبب قرار خاطئ أو حتى حادث عارض.

لكن بطل القصة هنا تعرض للكثير من الأحداث التي غيرت مسيرته وخرج منتصرًا في النهاية، بطل واقعي لكنه جاء من الروايات بالفعل، نحن هنا للحديث عن أشياء قد لا يعرفها البعض عن تيري هنري.

يرفق به القدر حينًا ويصنع قدره بنفسه أحيانًا أخرى، رأس حربة شاب ينتظر تألقه الجميع، وفي مباراته الرسمية الأولى يرسله مدربه إلى مركز الجناح ليصبح فيما بعد مزيجًا من رأس الحربة والجناح سويًا دون أن يعطل ذلك مسيرته. يوقعه والده في متاعب قد تعصف بمسيرته الرياضية، فيرحمه القدر ويرتب له مسيرة أفضل مما كان يتوقع. يراهن عليه نفس المدرب بعد مرور السنوات أن يعود كمهاجم فيصبح من أفضل مهاجمي كرة القدم عبر تاريخها.

الحبكة الأولى: البرازيلي أندرسون وخدمة العمر

كان «أرسين فينجر» في شبابه رجلاً يحمل فكرًا ثوريًا في عالم كرة القدم، وإحدى علامات تلك الثورة التي بدأها في نادي موناكو الفرنسي كانت استعانته بطاقم محترف لاكتشاف المواهب الشابة. السيد كاتالانو هو أحد أعضاء ذلك الطاقم والذي شاهد لأول مرة المهاجم الفرنسي «تيري هنري» يحرز ستة أهداف في مباراة واحدة دون حتى أن يتعرق، قرر كاتالانو أن هذا الشاب ذا الثلاثة عشر ربيعًا هو الرجل المنشود.

بعد ثلاثة أعوام، وقبل أن يتم إقالته بأسبوعين فقط، قرر الفرنسي أرسين فينجر أن يستعين بخدمات هنري. كان المهاجم الرئيسي للفريق هو البرازيلي المخضرم في ملاعب فرنسا «سوني أندرسون»، وهكذا قرر فينجر أن يستغل مهارات هنري المتفجرة والتي كانت تتمثل في السرعة الهائلة والقدرة على المراوغة في مركز الجناح الأيسر.

تولى الفرنسي «جان تيجانا» تدريب موناكو خلفًا لفينجر، قرر تيجانا على الفور أن التشكيل 433 هو التشكيل المثالي لما يمتلكه من لاعبين. كان أندرسون هو المهاجم الرئيسي بالطبع، بينما هنري بدأ المشاركة في مباريات قليلة في مركز الجناح.

تزايدت مشاركات هنري كجناح أيسر في المواسم التالية وتطور كثيرًا في ذلك المركز، إذ حصل على أفضل لاعب شاب في الدوري الفرنسي، وساهم في فوز موناكو ببطولة الدوري والظهور بشكل قوي أوروبيًا.

ربما يبدو ذلك أمرًا عاديًا لدى البعض، مجرد لاعب شاب تغير مركزه، لكن الحقيقة أن سوني أندرسون قدم لهنري ما يمكن أن نسميه خدمة العمر. قضى هنري خمس سنوات رفقة موناكو ونصف موسم رفقة اليوفنتوس كجناح أيسر، ولذا عندما عاد هنري إلى مركز المهاجم كان مهاجمًا من نوع مختلف تمامًا.

لعب هنري كمهاجم يميل في تمركزه أثناء الانطلاق للجناح الأيسر. يتمركز هنري عادة بين لاعب قلب الدفاع والظهير الأيمن، هذا التمركز يصيب الظهير بالارتباك وهو ما يؤدي بالضرورة إلى إجبار قلب الدفاع على التحرك من مكانه لمساعدة الظهير، مما يخلق خلفه مساحة خالية في منتهى الخطورة.

 

من خلال تلك الصور تستطيع بوضوح أن تتفهم قدرة هنري على لعب دور هو المزيج بين المهاجم والجناح.

بينما وقف ميسي بين مدافعي الارتكاز تحرك هنري نحو الجناح الأيسر، مما أربك سيرجيو راموس الظهير الأيمن واستطاع هنري أن يتخطاه بسرعته، واضطر مدافع الارتكاز أن يواجه هنري مخلفًا وراءه مساحة فارغة خطيرة للغاية لأنها في مواجهة المرمى تمامًا.

 
نعم، أنا ممتن لسوني أندرسون كثيرًا، اللعب على الجناح بعد أن لعبت لسنوات كمهاجم رئيسي أكسبني مهارات لم أكن لأتعلمها أبدًا، تلك المهارات أفادتني كثيرًا في مسيرتي المهنية.
تيري هنري متحدثًا عن سوني أندرسون

الحبكة الثانية: الانتقال الفاشل لريال مدريد

يقول كتاب «وحيدًا على القمة» الذي يتناول السيرة الذاتية للفرنسي تيري هنري، إن كل شيء بدأ مع ظهور رجل يدعى ميشيل فاسيليفيتش، هذا الرجل الكرواتي الأصل الذي يدعو نفسه وكيل لاعبين، ولكنه لا يحمل ترخيصًا رسميًا من الفيفا بذلك.

في أكتوبر/ تشرين الأول 1996، جلس فاسيليفيتش مع المديرين التنفيذيين لريال مدريد في اجتماع غير رسمي، وأوضح مسئولو الفريق الإسباني طلبهم بانتداب تيري هنري لتدعيم مركز الجناح الأيسر. قرر فاسيليفيتش قبول المهمة، ولأنه لا يملك أي رخصة رسمية لذلك العمل فهو لم يخاطب نادي موناكو ولا حتى هنري نفسه، ولكنه خاطب والد هنري.

تم ترتيب اجتماع بحضور لورنزو سانز رئيس نادي ريال مدريد حينئذ، وخوان أنطونيو سامبر كبير المسؤولين القانونيين في النادي ووالد هنري. تم مناقشة عقد مدته خمس أو ست سنوات مع تيري، سيتحصل خلاله اللاعب على ما يعادل 60 ألف جنيه إسترليني شهريًا. لم يملك والد هنري سوى الموافقة على هذا العرض الذي يفوق بكثير الرواتب التي تدفعها الأندية الفرنسية في ذلك الوقت، بالإضافة لسحر مدريد الذي لا يقاوم.

وفقًا لفاسيليفيتش، أكد والد تيري للوفد أن عقد ابنه مع موناكو سينتهي بعد ثمانية أشهر، أي في 30 يونيو/ حزيران 1997، وهي المعلومة الخاطئة تمامًا، إذ إن عقد هنري كان مستمرًا حتى 30 يونيو/ حزيران 1998.

بحلول منتصف نوفمبر، وقع هنري بالفعل على ما يسمى باتفاقية ما قبل العقد، وتلقى مبلغًا قدره 15 ألف جنيه إسترليني نقدًا. اقتنع هنري من قبل والده أن الأمر سليم وأن نادي ريال مدريد سيعالج الأمر مع موناكو، ولكنه علم بعد ذلك بعدم تحدث أي طرف مع إدارة موناكو.

في يناير/كانون الثاني من عام 1997، أعلن مدريد أنه انتهى من الصفقة بالفعل، هنا جن جنون هنري ودبت خلافات عميقة بينه وبين والده. علمت إدارة موناكو بالأمر وبدأت بالحديث عن مدريد الذي يحوم حول اللاعبين الشباب في موناكو.

صعقت إدارة مدريد وأظهرت العقد الذي يحمل توقيع هنري شخصيًا، كما أنهم أعلنوا هذا العقد تم توقيعه في المدة القانونية أي قبل انتهاء عقده مع موناكو بستة أشهر.

أصبح هنري غير قادر على التركيز في التدريبات، حاول تيجانا حمايته لكنه لم يستطع أن يشركه في المباريات بسبب مستواه. تم تغريم ريال مدريد حوالي 80 ألف إسترليني لمحاولة التعاقد مع لاعب على ذمة نادٍ آخر والتعامل مع وكيل لاعبين غير معتمد.

وقفت إدارة موناكو بجوار هنري، إذ خاطبت اللجنة التأديبية التابعة للفيفا بصعوبة فرض أشد عقوبة ممكنة على اللاعب «حظر لمدة عامين»؛لأن ذلك سيكون مخالفًا لمصالح النادي المتعاقد معه بالفعل. تم تغريم هنري 40 ألف إسترليني فقط، لكنه أصبح هنري آخر تمامًا.

أيقن هنري أنه يجب ألا يعتمد على أحد في إدارة شئونه ولا حتى والده؛ أما على مستوى كرة القدم فقد فهم أنه لن يصلح الأمر سوى هنري ذاته، لكن نجم هنري كان قد خفت بالفعل بعد أن كان حديث كبار أندية العالم.

قررت إدارة موناكو أن تبيعه لنادي اليوفنتوس الإيطالي والذي لم يستطع هنري التأقلم معه أبدًا، وهنا يأتي التواء الحبكة العبقري. بينما تسير الأحداث نحو خفوت نجم واعد للأبد، تدخل رجل كان يعرف ما هي حقيقة هنري وقرر الرهان عليه، إنه الفرنسي أرسين فينجر.

الحبكة الثالثة: الرهان على المهاجم المختلف

قبل شهور قليلة من رحيل هنري عن اليوفنتوس، وعلى متن طائرة متجهة من إيطاليا إلى فرنسا، أخبر فينجر المهاجم الشاب تيري هنري الذي وجد على متن نفس الطائرة بالصدفة أنه يريده معه في نادي أرسنال، وقال له أيضًا: أنت تضيع وقتك في مركز الجناح، أنت مهاجم رقم 9.

قبل أسبوعين من عيد ميلاده الثاني والعشرين، انضم تيري هنري إلى صفوف فريق أرسنال، وسط أجواء من التشكك حيال هذا الجناح الذي يخفت نجمه تدريجيًا.

لكن هنري أتى إلى الأرسنال مهاجمًا، وكان عليه أن يتعلم من جديد كيفية اللعب كمهاجم. لم يسجل هنري في المباريات الثمانية الأولى له رفقة الفريق اللندني، فكر هنري في الحديث مع فينجر حول تغيير مركزه والعودة إلى مركز الجناح، لكنه كان قد تعلم الدرس جيدًا، هو فقط المسئول عن إدارة شئونه ولا يعقل أن يلقي بمسئوليته على أحد.

رأى فينجر كيفية تحرك هنري كمهاجم سريع قادر على التحكم في الكرة، وقرر أن يلعب أمام الهولندي بيركامب بشكل مباشر وكأنه قد أشار للحفل أن يبدأ. الحفل الذي سيستمر لسبع سنوات من الأهداف والبطولات والسحر اللندني الفرنسي المشترك.

لم يكن هنري مجرد مهاجم كلاسيكي يقف بين المدافعين وينتظر الكرة ليضعها داخل الشباك كما هو معروف عن ذلك المركز حينئذ، بل كان دائم التحرك نحو خط الوسط لما لديه من إمكانيات خاصة بالتمرير والتحكم. يجبر ذلك المدافعين على التحرك معه خارج منطقة تواجدهم أمام المرمى، مخلفين وراءهم مساحة خالية تمامًا، وبلمسة واحدة من العبقري بيركامب بانطلاقة سريعة من المهاجم هنري يصبح تيري تمامًا في مواجهة المرمى.

تلك هي المواصفات المنطقية لرأس الحربة الآن، لكن هنري كان أول من غير من مواصفات ذلك المركز ليفطن الجميع بعد ذلك أن رأس الحربة الكلاسيكي لا مكان له في عالم كرة القدم.

تلك هي المنعطفات التي مر بها هنري خلال نسج قصته الأسطورية. ربما يحفظ الجميع أهداف هنري ومسيرته مع أرسنال وبرشلونة بعد ذلك، لكن لا يعلم الكثيرون أن خلف كل ذلك كان هناك رجل يصارع القدر وينسج أسطورته بنفسه.