إذا كنت من عشاق أفلام التشويق فمن المرجح أنك مررت من قبل بمصطلح «Plot Twist» أو «التواء الحبكة»، وإذا لم لم تكن فالأمر يعني ببساطة أن الحكاية تسير بك في اتجاه يقودك لاستنتاجات تبدو واضحة ثم تنحرف الأحداث بشكل مفاجئ تماماً في اتجاه آخر، منذ الفريد هيتشكوك في «Rear Window» وصولاً لديفيد فينشر في «Fight Club».

اعتاد المخرج الأمريكي كريستوفر نولان أيضاً على صنع العديد من التواءات الحبكة في أفلامه، ففي فيلمه «The Prestige»، على سبيل الذكر لا الحصر، يفاجئ الجمهور في مشهد الختام بأن خدعة أحد السحرة في ظهوره على المسرح في مكانين في وقت واحد لم تكن خدعة بالأساس، وإنما كانت ببساطة أن له توأماً، هذا بعد أن قضى الساحر المنافس له عمره كله في محاولة فهم هذه الخدعة!

التواءة الحبكة يجب أن يتم صنعها بحرفية بالغة لتحقق غايتها وهي جذب انتباه المشاهدة والوصول به للحد الأعلى من التشويق والترقب، كما يجب أن يتم الكشف عنها بحذر بالغ أيضاً حتى يتم تصديقها ولا تصبح مجرد خدعة رخيصة لا تنطلي على أحد.

قصص محفوظ القصيرة

«نجيب محفوظ»، أديبنا الكبير، يعرفه الجميع من خلال أعماله الروائية الطويلة والشهيرة. تختلف دلالات هذه الروايات ويتنوع فحواها بين الواقعي والاجتماعي والرمزي، ولكن وسط هذا كله يغفل كثيرون عن أعماله القصصية القصيرة، رغم ما فيها من طزاجة الفكرة ومهارة السرد.

«بيت سيئ السمعة» هكذا تسمى المجموعة القصصية التي نتحدث عنها اليوم، مجموعة صنع فيها محفوظ التواءات حبكة بحرفية هائلة، تجعل من كل حكاية فيلماً ممكناً لكريستوفر نولان، وربما بشكل أقرب للمخرج السويدي صاحب الأفلام الغرائبية والفريدة من نوعها روي أندرسون.

«بيت سيئ السمعة» هو عنوان المجموعة القصصية التي نشرها محفوظ لأول مرة في عام 1965، في الفترة التي يبدو أن محفوظ خصصها لنشر أعماله القصصية القصيرة، بعد أن انتهى من نشر أعماله الروائية المهمة والشهيرة في الخمسينات وأوائل الستينات، ونقصد هنا «الثلاثية»، «أولاد حارتنا»، «اللص والكلاب».

هناك تكنيكات سردية مختلفة لصنع التواءات الحبكة، فمثلاً يمكن أن يقدم الراوي معلومات مغلوطة للقارئ يتم الكشف عن حقيقتها في النهاية، كما يمكن أن يصنع الكاتب فخاً بتقديم شخصية تبدو وكأنها هامشية في منتصف الحكاية ليكتشف القارئ في النهاية أن هذه الشخصية هي البطل.

تكنيك آخر شهير للغاية هو استدعاء معلومات تنكشف معها التواءة الحبكة من خلال رؤية أو حلم أو تداعٍ للذكريات، يمكن أن يتلاعب الكاتب في سرد حكايته أيضاً فلا يروي أحداثها في تتابع زمني واحد. الغريب والمبهر أن محفوظ صنع تقريباً كل هذه التكنيكات السردية في القصص القصيرة المكونة لهذه المجموعة.

وجهاً لوجه

الناس لا ينسون العداوات ولكن من حسن الحظ أنهم يتزوجون رغم ذلك!

في قصة «وجهاً لوجه» يروي محفوظ حكاية رجل وامرأة يبدو بوضوح تام أنهما حبيبان. يتبادلان الحديث في إحدى الحدائق، يبدو أن الحكاية قديمة، ولكنها تجددت بعد أن تقابلا صدفة عقب غياب 15 عاماً. الآن يحاولان أن يعوضا ما فات. وعلى هامش الحكاية تتسرب أخبار عن قرب اشتعال معارك الحرب العالمية الثانية.

تسأل المرأة عن سبب كل هذا، يخبرها الرجل أن الألمان لم ينسوا ما حدث منذ 20 عاماً، لا ينسى الناس عداواتهم، وبينما نحن منشغلون في متابعة حديث الحبيبين عن خطتهما القريبة للذهاب لسينما ركس ومشاهدة فيلم رومانسي، وخطتهما البعيدة للزواج وقضاء شهر العسل في باريس، نفاجأ برجلين يتجهان صوب ماسح الأحذية الذي لم نلاحظ وجوده، وإذا بأحدهما يهوي بهراوة بكل ما يملك من قوة فوق رأسه. تتتابع الضربات، يسقط الرجل غارقاً في دمائه، يتملك الرعب من قلب المرأة وحبيبها، ونعلم في النهاية أن هذين الرجلين قد قتلا ماسح الأحذية وفاء لثأر قديم، منذ 20 عاماً أيضاً.

هكذا صنع محفوظ التواءة حبكة جعلت من شخصية هامشية لم نكن نلاحظها بطلاً للحكاية، هكذا تصبح لأخبار الحرب التي تسربت من الراديو قبلا أهمية ودلالة، وهكذا يصبح لعنوان الحكاية «وجهاً لوجه» معنى جديد. المثير للتأمل أن هذه المجموعة القصصية قد وصلت إلى يدي مؤخراً من خلال التواءة حبكة في الحياة الواقعية. كنت في الأيام الأخيرة من مركز تدريب المجندين الجدد قبل الترحيل لقضاء فترة الخدمة العسكرية الإجبارية في وحدتي. كنت قد تعرفت قبلها ببضعة أيام على طبيب آخر مجند اسمه «عمر».

كان عمر هو من يملك أن يحررنا قليلاً من عزلة الأجواء المملة التي كنا نعيشها، هذا لأنه كان يملك الراديو الوحيد في عنبرنا – الذي يعيش به ما يقترب من 50 إنساناً – في الصباح قليل من موسيقى الجاز، يتلو ذلك عدد لا نهائي من الطوابير، ننتهي منها فنبحث عن مكان هادئ، نفترش الأرض أو أحد الأرصفة، ثم نستمع لبعض أغاني الروك البديل التي تنسينا لدقائق أننا هنا، الموسيقى لها طعم الحرية، لها تأثير على أرواح البشر لا يقدر عليه غيرها.

أتى عمر وترك هذه المجموعة القصصية على سريري، قال باقتضاب «هذه هدية لك»، وجدتها لنجيب محفوظ فابتسمت، ثم قرأت عنوانها «بيت سيئ السمعة» فأخبرته «مناسبة تماماً للأجواء» فضحكنا.

بعدها بيومين كنا نجلس وسط أرض الطابور، نحن وما نحمله من «مخل». ولمن لا يعرف «المخلة» فهي زكيبة كبيرة تحوي كل ما يخص الجندي ويقارب وزنها وزنه. كنا ننصت في ترقب لأرقام الجنود الذين سيرحلون للخدمة في الجيش الثاني والثالث، وهي المناطق من الإسماعيلية والسويس وصولاً لشمال سيناء. تاه عمر مني وسط الزحام ثم قابلته صدفة عقب الانتهاء من جمع زملائنا الذين قادهم قدرهم لهذه المنطقة الملبدة بالصعاب، ابتسمت وحمدت الله أنه لا يزال هنا، افترقنا على وعد أن نتقابل عقب انتهاء الطابور لنستمع لبعض الموسيقى.

وفي مساء هذا اليوم لم أجد له أثراً، وبعد الكثير من البحث والسؤال أخبرني أحد الزملاء أن عمر كان يودع أحد أصدقائه المرحلين فإذا باسمه يتردد في الميكروفون، يبدو أنه سقط سهواً وتداركوه قبل الرحيل، ليتم ترحيله معهم في النهاية إلى الجانب الشرقي الملبد بالمخاطر من مصر في التواءة حبكة غريبة للغاية، أتمنى السلامة له وللجميع، وأتمنى أن نجتمع مرة أخرى لأعيد له مجموعته القصصية ولنضحك سوياً على هذا الـPlot Twist.