ولد رجل الدين، والفيلسوف الإيراني مرتضى مطهري في عام 1920م، في مدينة فريمان بمحافظة خراسان، وتلقى علومه الدينية الأولية في مدينة مشهد والحوزة العلمية بقم المقدسة، ودرس على يد عدد كبير من المراجع الشيعة الكبار من أمثال أحمد الخوانساري وروح الله الخميني ومحمد حسين الطباطبائي.

بعد الانتهاء من دروسه الدينية، رحل مطهري إلى طهران، وانخرط في تدريس العلوم الدينية والفلسفة الإسلامية، وألف مجموعة كبيرة من الكتب المهمة، منها العدل الإلهي، وحول الثورة الإسلامية، والملحمة الحسينية، والإسلام وإيران، وفلسفة الأخلاق، والاجتهاد في الإسلام، كما شارك في أحداث الثورة الإسلامية الإيرانية، وكان أحد قادتها البارزين، بيد أنه قد اغتيل في الأول من مايو سنة 1979م على يد بعض أعضاء جماعة الفرقان المعارضة لحكم رجال الدين.

من بين أهم المحطات الفارقة في حياة مرتضى مطهري، تلك العلاقة القوية والوطيدة التي جمعته بالمرجع الشيعي الأعلى آية الله الخميني، قائد الثورة الإيرانية.

العلاقة بين الرجلين بدأت منذ فترة مبكرة من حياة مطهري، فقد التقى مطهري الخميني للمرة الأولى في الحوزة العلمية بمدينة قم المقدسة، ودرس عليه عدداً من علوم الدين، ويبدو أن مطهري قد تأثر كثيراً بأفكار أستاذه السياسية في تلك المرحلة، إذ شارك في المظاهرات التي دعا إليها الخميني للتنديد ببعض قرارات الشاه محمد رضا بهلوي، وتم اعتقاله على إثر ذلك في الخامس من يونيو 1963م، وظل حبيساً في سجون الشاه لما يزيد على الأربعين يوماً قبل أن يُطلق سراحه بعدها.

مطهري كان أحد اللبنات الأساسية في البناء الثوري الذي عمل الخميني على تأسيسه، ومن ثم فلم تنقطع الصلة بين الرجلين عقب نفي الخميني من إيران في 1964م، ويمكن القول إن مطهري كان أحد أكثر نواب الخميني أهمية وتأثيراً خلال فترة نفي الأخير، فالفيلسوف الإيراني تابع خطة أستاذه في أسلمة الثورة من خلال الخطابين الديني والفكري، فأسس حسينية الإرشاد في 1967م، وداوم على إلقاء الخطب التوعوية من مساجد الجواد وجاويد وأرك، مما عرضه لملاحقة السلطات الشاهنشاهية، ودفعهم لإلقاء القبض عليه أكثر من مرة.

في 1976م، سافر مرتضى لزيارة الخميني في النجف الأشرف، وبعد سنتين سافر مرة أخرى ليزور أستاذه في منفاه الجديد في فرنسا، وتم تكليفه وقتها بمهمة تشكيل مجلس قيادة الثورة الإسلامية.

الرؤية السياسية عند مطهري، اتسقت مع أفكار آية الله الخميني السياسية، والتي دعا فيها إلى ضرورة قيام الملالي والفقهاء بأدوار سياسية تتناسب مع مكانتهم الدينية في إيران، ومن هنا نجده في كتابه «الأئمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، يؤكد النشاط السياسي والاجتماعي للأئمة الإثنا عشر، في تعارض ملحوظ مع الرأي الشيعي الإثنا عشري التقليدي، الذي يذهب إلى أن هؤلاء الأئمة قد ابتعدوا عن السياسة بشكل كامل بعد كربلاء، وأنهم قد ركنوا إلى التقية، ولم ينشغلوا بالحكم، ابتعاداً عن الصدام مع السلطات الأموية والعباسية.

أما في كتابه الضخم «الملحمة الحسينية»، والذي كان قد ألقاه في شكل دروس ومحاضرات متتابعة، فقد اتخذ مطهري من مأساة الإمام الحسين، نموذجاً يُحتذى به في الدعوة إلى العمل السياسي الثوري، وذلك من خلال نقد كثير من الروايات الأسطورية الضعيفة التي يلصقها الشيعة بكربلاء، والتي غلبت على العقل الشيعي الجمعي، فدفعته دفعاً إلى الانغماس الكلي في الخوارق والغيبيات، دون استفادة حقيقة من تجربة حفيد الرسول.

في معنى العدل

في بداية كتابه، يعمل الفيلسوف الإيراني مرتضى مطهري على توضيح المنهجية التي سيتبعها في بحثه، وهي منهجية مؤسسة على خلفية دينية محافظة، ومن ثم فلم يكن من الغريب أن نجد مطهري يذكر في الفصل الأول من الكتاب، عقيدته في الله، عز وجل، وملكوته وقدرته، فيقول «الله سبحانه هو مالك الملك على الإطلاق، وليس له شريك فيه، ولا بد أن نقول بكل معنى الحقيقة ودون أية شائبة من مجاز: له الملك وله الحمد وإليه يرجع الأمر كله»، ثم يبني على ما سبق اعتقاده الأولي في مسألة العدل الإلهي، فيقول:

على هذا يعتبر أي تصرف لله في العالم إنما هو تصرف في شيء هو منه وله، ولا يملك أحد بالنسبة إلى الله أي حق ولا أولوية، فالظلم إذن في حق الله غير وارد، ليس من جهة كونه قبيحاً والقبيح لا يفعله، وليس من جهة أن الحسن والقبح لا معنى لهما بالنسبة إلى الخالق، ولكن من جهة أخرى وهي: مع فرض أن قبح الظلم صفة ذاتية للظلم، ومع فرض كون الحسن والقبح الذاتيين حاكمين على فعل الله كما هما حاكمان على أعمال البشر، فإنه بالنسبة إلى الله لا يمكن عملياً أن نجد مصداقاً لذلك، لأنه لا ملكية لأي أحد وبالنسبة إلى أي شيء هو تحت تصرفه في مقابل ملكية الله ليمكن عملياً تحقق الظلم.

بعد ذلك، يوضح مطهري طرق التعاطي المختلفة من جانب المتكلمين/الأصوليين المسلمين مع قضية العدل الإلهي، فيذكر أن هناك طريقين واضحين في تلك المسألة؛ الطريق الأول وهو طريق أهل الحديث والأشاعرة من أهل السنة والجماعة، ويقول أصحابه إن صفة العدل منتزعة من فعل الله، فكل فعل يصبح عدلاً حين يكون فعل الله، وبحسب وجهة نظرهم لا يوجد للعدل ضابط، فليس بمقدورنا أن ندعي أن الله، سبحانه، سوف يفي بصورة قاطعة بما وعدنا به في القرآن الكريم، بل «إذا أثاب الله فاعل الخير وعاقب فاعل الشر كان ذلك عدلاً، وإن تصرف بعكس ذلك فعاقب فاعلي الخير وأثاب فاعلي الشر فإنه يكون عدلاً أيضاً».

وقد تفرع عن ذلك الاعتقاد أن الأشاعرة أنكروا صفتي الحسن والقبح العقليين بصورة جذرية، فقالوا إن الشرع وحده هو الذي يعرفنا على الحسن والقبيح.

أما الطريق الثاني، فقد عارض أصحابه من المعتزلة والشيعة، أفكار الأشاعرة، فقالوا إن العدل معروف بذاته، وأن باستطاعة العقل وحده أن يعرف القبيح والحسن، دون الاضطرار للاستعانة بأوامر الشرع، وقادهم ذلك للقول «إن العدل بذاته حسن، والظلم بذاته قبيح، ولما كان الله سبحانه عقلاً غير متناه، وهو الذي أفاض نعمة العقل على مخلوقاته، فهو إذن لا يترك عملاً يحكم العقل بحسنه، ولا يفعل عملاً يحكم العقل بقبحه».

بعد ذلك عمل مرتضى مطهري على مناقشة مفهوم العدل ومعناه، فذكر– معتمداً بشكل رئيس على القرآن الكريم والأحاديث النبوية- أن هناك أربعة معان للعدل؛ أولها «الشيء الموزون»، وضرب على ذلك مثالاً بما ورد في الحديث النبوي «بالعدل قامت السماوات والأرض»، وثانيها «التساوي»، وثالثها «رعاية حقوق الأفراد وإعطاء كل ذي حق ماله من حق»، وهو المعنى الشائع في الأعراف الاجتماعية المطالبة بالعدالة، أما المعنى الرابع، فهو «رعاية الامتناع عن الإفاضة والرحمة حيث يتوافر إمكان الوجود أو إمكان الكمال».

المعنى الرابع تحديداً هو الذي يسلط مطهري الضوء عليه في كتابه، إذ يعمل على شرحه بقوله «كل موجود، وفي أي رتبة من الوجود، يملك استحقاقاً خاصاً به من حيث قابليته لاكتساب الفيض. ولما كانت الذات الإلهية المقدسة كمالاً مطبقاً وخيراً مطلقاً وفياضة على الإطلاق، فهي تعطي ولا تمسك، ولكنها تعطي كل لكل موجود ما هو ممكن له من وجود أو كمال وجود».

من أين يأتي الشر؟

لما كان السؤال حول الشر ومصدريته، هو أحد الأسئلة الأكثر إلحاحاً، والتي انبثقت من مناقشة مسألة العدل الإلهي، فإن الفيلسوف الإيراني قد أفرد في كتابه مساحة واسعة للرد على هذا السؤال.

يقول مطهري، إن وجود الخير والشر في العالم، قد حدا بالإنسان على مرِّ التاريخ للتفكير في مصدرهما الأول، وأن الكثير من المنظومات الدينية والفلسفية قد حاولت تقديم إجابة مريحة على هذا السؤال الشائك.

الإجابة الأولى التي يناقشها مطهري، كانت إجابة العقائد الفارسية القديمة التي اعتنقت النظرة الثانوية للكون، بحسب ما يذكر المؤلف فإن الإيرانيين القدماء قد قسموا الكون إلى قطبين: الخير والشر، فاعتبروا النور والشمس والمطر والأرض من مصاديق الخير، ووضعوا القحط والزلازل والبراكين والأمراض في قائمة الشر، واعتقدوا أن كل مظاهر الخير إنما تصدر عن الإله يزدان إله الخير، بينما تتفرع كل الشرور من جانب الإله أهريمان إله الشر، وقد ساد هذا الاعتقاد بين الإيرانيين، فعرفوه في كل من العقائد الزرادشتية والمزدكية والمانوية، وغير ذلك من العقائد التي عُرفت وانتشرت في بلاد فارس قبل الإسلام.

بعدها يشير مطهري إلى آراء بعض الباحثين والمفكرين الذين اعتقدوا أن فكرة الشيطان التي عرفتها الديانات الإبراهيمية، كانت فكرة متحورة بالأساس عن الإله الفارسي أهريمان، وأن الديانات التوحيدية التي أقرت بوحدانية الله في الخلق، قد اصطنعت فكرة الشيطان، لتحمله المسؤولية عن كل الشرور الموجودة في العالم، الأمر الذي يعارضه مطهري بشدة، إذ يقول:

لأن الرؤية الإسلامية للكون لا تقسمه إلى قسمين: خير وشر، ولا يوجد شيء قد خلق وما كان ينبغي خلقه أو خُلق سيئاً. كل شيء قد خُلق جميلاً وفي موقعه المناسب، وكل شيء قد خلق من قبل الله الواحد القهار.

لِمَ وقع التفاوت في الخلق؟

السؤال التالي الذي يطرحه مطهري، هو السؤال الذي يدور حول الحكمة من الخلق المختلف، فلماذا كان إنساناً قبيحاً وآخر جميلاً؟ ولماذا كان هناك إنسان كامل وآخر ناقص؟ ولماذا كان الإنسان وحده هو المستعد للتكليف والثواب والعقاب من بين جميع المخلوقات؟

تُعدّ هذه الإشكالية تحديداً، إحدى أهم الإشكاليات الواردة في الكتاب، إذ عمل الفيلسوف الإيراني على الرد عليها من خلال اللجوء لمجموعة من الأفكار ذات الطبيعة الفلسفية العرفانية، تلك التي امتاز بها مطهري بين معاصريه من العلماء ورجال الدين.

يقول مطهري، إنه لا وجود للترجيح في عملية الخلق، وإنما الموجود هو الاختلاف، «فالترجيح هو التفرقة بين الأشياء المتساوية في الاستحقاق وهي تعيش في ظل شروط موحدة. أما الاختلاف فهو التفرقة بين أشياء غير متساوية في الاستحقاق. وبعبارة أخرى: فالترجيح يكون من قبل المعطي أما الاختلاف فيكون من قبل الآخذ».

الفيلسوف الشيعي ضرب مثالاً مهماً لتوضيح تلك النقطة، إذ يقول إننا لو أخذنا إناءين يسع كل منهما عشرة لترات ووضعنا أحدهما تحت حنفية الماء وسكبنا فيه عشرة لترات من الماء، ووضعنا الآخر تحتها وسكبنا فيه خمسة لترات منه، فهذا ترجيح، لأن منشأ الاختلاف هنا ليس من ناحية الإناء وإنما من المالئ للإناء. أما إذا كان لدينا إناءان يسع أحدهما عشرة لترات، والآخر يسع خمسة لترات، وغمسنا كلاًّ منهما في البحر، فإن الاختلاف بينهما سيستمر، لأن اختلافهما ناشئ من ناحية استعداد كل منهما وسعته وليس من ناحية البحر أو قوة اندفاع الماء.

ولكن من أين أتى الاختلاف القائم بين الموجودات وبعضها البعض إذن؟

يجيب مطهري على هذا السؤال الصعب بقوله الغامض «اختلاف الموجودات ذاتي من ذاتيتها ولازم لنظام العلة والمعلول»، ثم يعمل بعدها لشرح هذه الإجابة المعقدة، فيقول إن النظام الكوني في الخلق مقسم إلى نظامين فرعيين، الأول هو النظام الطولي، والثاني هو النظام العرضي.

المقصود من النظام الطولي هو العلة والمعلول، والترتيب في خلق الأشياء «أي الترتيب في فاعلية الله بالنسبة إلى الأشياء وصدورها منه، فقد اقتضت قدسية الله وعلو ذاته أن تكون الأشياء رتبة بعد أخرى… وفي هذا النظام يحتل الله، سبحانه وتعالى، صدر قائمة الموجودات، أما الملائكة فهم المنفذون لأمره. وتوجد بين الملائكة سلسلة مراتب…».

فإذا كانت ألف علة لباء، فلأجل خاصية في ذات الألف تجعلها علة للباء، وكذلك الباء إذا كانت معلولة للألف فلأجل خاصية في الباء تجعلها معلولة للألف، «فرتبة أي موجود هي عين ذاته، ولا تقبل التخلف، تماماً مثل مراتب الأعداد»، أي أننا لو حاولنا أن نغير شيئاً من خواص الرقم 5 مثلاً، بأن نزيد رتبته بعض الشيء أو نقللها، فإن هذا سيؤدي بالتبعية لتحويل الرقم 5 إلى رقم 6 أو إلى رقم 4، وبالتالي يفقد الرقم 5 وجوده الفعلي، وهي النقطة التي يشير لها مطهري مستعيناً بالآية رقم 164 من سورة الصافات «وما منا إلا له مقام معلوم»، بمعنى أن كل موجود قد أخذ رتبته في الكون من الخصائص المحددة التي استقرت في ذاته.

أما فيما يخص النظام العرضي، فالمقصود به الشروط المادية اللازمة لإيجاد ظاهرة معينة، يقول:

وعلى أساس هذا النظام فإن تاريخ الكون يكتسب صفة قطعية وعينية، فكل حادثة تظهر في مكان وزمان خاص بها… وكل ظاهرة معلولة لسلسلة من العلل الخاصة، ومرتبطة بشروط معينة. فأي حريق لا يحدث دون ارتباطه بعوامل وحوادث أخرى…

الشر: بين العدمية والنسبية

يرى مطهري، أن فكرة تقسيم العالم إلى ثنائية الشر والخير، هي فكرة سطحية إلى حد بعيد، ذلك أن النظرة الفاحصة والمدققة للكون ستتأكد أن نظام الوجود «خالياً من كل شر. فالموجود كله خير، والنظام المتحقق أحسن نظام وليس من الممكن أن يوجد أجمل منه». هذا الأمر يتضح من خلال دراسة سمتين مميزتين للشر، وهما على الترتيب عدمية الشر، ونسبيته، وهما الصفتان اللتان أفرد لهما مطهري مساحة واسعة لمناقشتهما في كتابه.

فيما يخص الصفة الأولى– عدمية الشر- فيشرحها مطهري بقوله إنه من المؤكد أن الشرور موجودة في العالم، وأننا جميعاً نشعر بها بصورة من الصور، فلا نستطيع إنكار وجودها وتأثيرها، ولكن الحديث هنا عن أن تلك الشرور إما أن تكون عدماً أو فراغاً، أو أن تكون مصدراً للعدم والنقص والفراغ، «فالشر ليس من ألوان الوجود، وإنما هو خلاء وعدم، وينفي الأرضية التي تقف عليها الثنائية زاعمة أن للوجود فرعين بل جذرين».

مثلاً، عندما نتحدث عن العمى– وهو بالقطع مظهر من مظاهر الشرور- فلا ينبغي الظن بأن العمى شيء خاص وواقع ملموس بحيث يوجد في العين شيء يسمى عمى، وإنما العمى هو فقدان الرؤية وعدم البصر وليس له أي واقع متميز. في سياق آخر، فإن أنواعاً أخرى من الشرور، كالمخلوقات المفترسة أو المؤذية، ومنها الثعابين والأفاعي، فهي ذات وجود واقعي، ولكنها تستلزم العدم عندما تمارس دورها كشر في حياة الإنسان، وفي السياق نفسه، يمكن القول إن الجهل هو فقدان العلم وعدم له، وإن المرض هو فقدان الصحة، وإن الفقر هو انعدام الملك، أما الموت فهو فقدان الحياة.

ومن هنا ندرك عبثية البحث عن مصدر لوجود الشر، فالشر إما اعتباري يظهر مع غياب الخير، وعلى سبيل المثال، فأننا لو وضعنا شيئاً ما في الشمس، لنتج عنه شطر مشمس، وآخر مظلم من الظل، فالظل هنا ليس سوى انعدام النور، وهذا هو الذي قصده الحكماء من قولهم «إن الشرور ليست مجعولة بالذات، وإنما هي مجعولة بالتبع والعرض».

أما فيما يخص الصفة الثانية– نسبية الشر- فيفرق المؤلف بين نوعين من الصفات، وهما الصفات الحقيقة، كالبياض والسواد، والحياة والموت، والصفات النسبية، مثل الصغر والكبر، والطول والقصر. ففي الصفات النسبية وجب الاحتكام إلى مرجع قبل الحكم «ذلك أن كل شيء يمكن أن يكون صغيراً وكبيراً في نفس الوقت، والمهم أن نعرف ما هو المعيار والمقياس الذي اعتبرناه». فالشرور التي بذاتها أمور وجودية مثل السيول والزلازل والزواحف السامة والحيوانات المفترسة والمكروبات والأمراض، فلا شك أن الشر فيها صفة نسبية، «ذلك أن سم الحية ليس شراً للحية نفسها، وإنما هو شر بالنسبة إلى الإنسان أو الموجودات الأخرى التي تجد ضرراً منه، والذئب شر بالنسبة إلى الشاة ولكنه ليس شراً بالنسبة إلى نفسه أو إلى النبات…».

بعدها يحاول مطهري تبيان بعض الميزات الإيجابية للشرور في الكون، ومن ذلك أن الشرور لازمة لإظهار الأشياء الجميلة، فلو لم تكن مقارنة ومقابلة بين القبح والحسن، لم يوجد قبيح ولا جميل، «ولو كان الناس جميلين، لم يكن أحد منهم جميلاً… فالقوة الجاذبة عند ذوي الجمال تكتسب حدة من القوة الطاردة عند ذوي القبح».

ويجيب مطهري عن الاعتراض الذي قد يبديه البعض فيما يخص تلك النقطة، فلم يُظلم فرد قبيح من أجل أن يصبح الكون جميلاً؟ ولم يُختر هذا الفرد بالذات دوناً عن غيره من الأفراد الذين تمتعوا بدرجة من درجات الجمال؟

مرة أخرى، يستعين المؤلف بنظريته فيما يخص النظام الكوني وما تفرع عنه من نظامي الطول والعرض، فيقول ضارباً المثل ببعض الأشكال الهندسية، عندما نقول إن خاصية المثلث هي كون مجموع زواياه يساوي مجموع زاويتين قائمتين، وخاصية المربع هي كون مجموع زواياه يساوي مجموع أربع زوايا قائمة، فليس معنى ذلك أننا قد أعطينا ذاك خاصية المساواة لقائمتين، وأعطينا هذا خاصية المساواة لأربع قوائم، ولهذا فلا مجال للتساؤل بأنه: لماذا ظلمنا المثلث ولم نمنحه خاصية المساواة لأربعة قوائم؟

المثلث لا يمكن أن يكون بغير خاصيته المعينة، فالمثلث لم يجعله أحد مثلثاً، بمعنى أن المثلث كان من قبل في وضع آخر وبخواص أخرى ثم جاء شخص وبدله إلى المثلث. أو أن المثلث والمربع كانا في مرحلة من مراحل الوجود وفي مرتبة من مراتب الواقع فاقدين لجميع الخواص، وبعد ذلك جاءت قوة قاهرة وقسمت بينهما الخواص وشاءت رغبتها أن تمنح المثلث خاصية غير خاصية المربع «ونظير هذا اختلاف الموجودات في الكون، فانعدام النمو والإدراك والجمادات، وانعدام الإدراك ووجود النمو في النباتات، ووجودهما معاً في الحيوانات، كل هذا ذاتي المرتبة… وقد ضغط ابن سينا هذه الحقيقة في جملة معروفة فقال: ما جعل الله المشمشة مشمشة بل أوجدها». ويستدل المؤلف هنا بالآية رقم 50 من سورة طه «ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى»، ويلاحظ أن الضمير– الهاء- قد أضيف إلى الخلق، ويعلق على ذلك «أن لكل شيء خلقاً خاصاً هو له وحده، أي أن أي شيء يستطيع فقط أن يقبل لوناً واحداً من الوجود، والله سبحانه يمنحه ذلك اللون نفسه».

هل وفق مطهري في عرض المسألة؟

عمل مرتضى مطهري على مناقشة قضية العدل الإلهي وما ارتبط بها من قضايا كالشفاعة والشر وعمل غير المسلم، من خلال مجموعة من الزوايا الجديدة نوعاً ما، إذ لم يركن لمتابعة الجدال الكلامي القديم بين الأشاعرة والمعتزلة حول القضية، بل عمل على مناقشتها في ضوء منظومة العرفان الصوفي الشائع بين عدد كبير من الفلاسفة الإيرانيين المعاصرين من جهة، كما عمل على استقراء الكثير من الآيات القرآنية ليخرج منها ببعض الأفكار الجديدة من جهة أخرى.

أهم ما يميز كتاب مطهري، أنه قد عكس شخصية مؤلفه، فنراه– أي الكتاب- قد انتهج منهجاً فلسفياً صوفياً بامتياز، كما أنه قد اصطبغ بالصبغة الفارسية الشيعية، والتي ظهرت في الاقتباسات المتعددة التي اقتبسها المؤلف من أشعار الأدباء الإيرانيين القدامى من أمثال حافظ وجلال الدين الرومي وسعدي وناصر خسرو وغيرهم، كما ظهرت في رجوعه المتكرر للمدونات الشيعية الكبرى، مثل كتاب الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني المتوفى 329ه، وكتاب بحار الأنوار لمحمد باقر المجلسي المتوفى 1111هـ.

في رأيي، كان شرح المؤلف لمقولة «اختلاف الموجودات ذاتي من ذاتيتها ولازم لنظام العلة والمعلول»، وتفسيره لذلك الاختلاف بالنظامين الطولي والعرضي، من بين أهم النقاط التي أفلح الكتاب في تقديمها على الإطلاق، لا سيما فيما يخص مسألة اتفاق الرتبة مع الذات، أيضاً، نجح مطهري في عرضه لمسألة عدمية الشر ونسبيته، كما وفق في الأمثلة التي ضربها لشرح وجهة نظره.