لا يمر عام دون أن تُطرح عشرات الموديلّات الجديدة من الأجهزة الرقمية الحديثة في الأسواق، من هواتف سامسونج وأبل إلى الأجهزة اللوحية، علاوة على شاشات الكمبيوتر والتلفزيون الكبير منها والصغير، المسطح ذي الانسيابية الشديدة والقديم التقليدي شبيه الصندوق.

ومع التجديد المستمر، تتجدد الرغبة في تحديث ما يملكه المرء من أجهزة؛ تلك الأجهزة التي تصبح أعمارها الإفتراضية –من حيث سلاسة الاستخدام– أقصر وأقصر. لا يكاد يمر وقت قبل أن يصبح هاتفك أثقل وأبطأ، ومع خدمات المشاهدة الجديدة والاهتمام المتزايد بتحسين تجربة المشاهدة تتوافر دقة أعلى فأعلى لتتطلب شاشات ذات قدرات أكبر وتصبح شاشات الماضي القريب تكنولوجيا بدائية.

بهذا الشكل يصبح لدينا ما يقرب من 50 مليون طن من المخلفات الإلكترونية كل عام[1].

وبما أننا نعيش في عالم لا تظهر فيه المواد من العدم ولا تذهب فيه إلى العدم، فإلى أين تذهب كل هذه الأجهزة المغضوب عليها أو المعطلة؟ يبدو أن سكان الدول المستهلكة لها يظنون أنها تختفي في الهواء –حرفيًا– محترقة وتتم إعادة استخدام معادنها النادرة كما يخبرهم مسئولو بعض شركات إعادة التدوير.

أما الحقيقة؟ فكابوس محقق تعيشه مدينة عشوائية شديدة الفقر على أطراف أكرا عاصمة غانا؛ هناك حيث يفترس أكبر مكب للمخلفات الإلكترونية في العالم صحة ما يقرب 40 ألف مواطن غاني بين مراهقين وأطفال، وحوالي 80 ألفًا من جيرانهم إضافة إلى سكان العاصمة ذاتها.


انتكاس الريادة

كانت غانا الدولة الأفريقية الأولى التي تحصل على استقلالها من استعمار أوروبي. نشأت حدودها من تجميع لمستعمرات صغيرة متفرقة لتصنع دولتين في دولة واحدة: واحدة في الجنوب حيث التطور والازدهار النسبي، وواحدة في الشمال حيث العشوائية والفقر المدقع.

عاش سكان غانا في تاريخهم المبكر حياة قبلية ثم ملكية إلى أن اكتشف البرتغاليون أهمية المنطقة التي أطلقوا عليها آنذاك اسم «ساحل الذهب». انتعشت المنطقة كطريق تجاري وكعبة لتجارة العبيد التي عرفها السكان بينهم وبين بعضهم فيما قبل عن طريق الغارات بين الممالك والقبائل. جرّ ذلك المزيد من القوى الأوروبية إلى المنطقة من بينها السويد وإنجلترا التي ستصبح المسيطر التام مع بداية القرن التاسع عشر، وفرنسا وغيرهم.

في خضم عملها الاستغلالي للمكان، قامت الدول المستعمرة ببناء المدارس وتطوير الزراعة. ولأن هذه التطورات قد تمركزت في الجنوب، فإن الشمال ظل متخلفًا عن ركب الحداثة الصوري والنظام بالمقارنة بنظيره. ومرّ الزمن وازدادت الضغوط، ومضى استعمار وأتى غيره على ظهر نظم سلطوية قاسية.

من هذا الشمال الفقير، أتى راشدون وأطفال للعمل في أماكن وظروف غير آدمية سعيًا وراء كسب لقمة تقيم أودهم. لا يجني هؤلاء أكثر من دولار يوميًا في المتوسط عن عملهم المضني كل يوم. مع بزوغ الثورة التكنولوجية والصناعات الحديثة، أصبحت غانا تواجه وحشًا جديدًا يضاف إلى سلسلة المآسي التي تعاني منها[2].

في غانا يمكنك أن تجد أكبر مكب للنفايات الإلكترونية والكهربائية في العالم؛ هناك في أجبوبلوتشي عند عشوائيات العاصمة وضفة نهر مقتول.


مقبرة التقنية

على أطراف العاصمة الغانية المكتظة «أكرا – Accra»، تكوّنت أحياء الفقراء من أمثال «فاداما – Old Fadama» المتصلة بمنطقة «أجبوبلوتشي – Agbogbloshie». ورغم تاريخ غانا الطويل، فقد تم إعادة اكتشاف المنطقة في بداية الألفية الجديدة كمكان للتخلص من المخلفات الإلكترونية، والكهربائية المتزايدة يومًا بعد يوم في الدول الغنية مرتفعة الاستهلاك.

تأتي السفن إلى غانا محملة سنويًا بما يصل إلى 215 ألف طن من الأجهزة المستعملة والخرِبة من غرب أوروبا والولايات المتحدة، وأحيانًا من آسيا. تتم إعادة تهيئة نسبة منها لإعادة الاستخدام الغاني، أو الاستخدام في جرائم إلكترونية بسبب إمكانية استعادة المعلومات المخزنة على هذه الأجهزة، بينما تذهب النسبة الكبرى منها إلى أطراف أجبوبلوتشي حيث يتم حرقها للتخلص من البلاستيك والحصول على كميات هزيلة من المعادن والمواد التي يشتريها السماسرة بأسعار لا تكاد توفر لقمة عيش بالمعنى الحرفي.

يتم إضرام النار في كميات مهولة من الثلاجات القديمة وأجهزة التصوير والشاشات الحاسوبية الكبيرة وغيرها من المخلفات للتخلص من البلاستيك بإطلاقه في الهواء في صورة دخان ضبابي كثيف وسام للغاية متسببًا في دمار البيئة الطبيعية للموقع الذي كان يومًا ما عبارة عن ضفة جميلة لنهر أوداو Odaw river. كل هذا من أجل جرامات من المعادن يبيعونها لقاء ثمن وجبة غداء.

مع كل عملية حرق، تذهب مكونات البلاستيك المختلفة إلى الهواء الذي يتنفسه الناس هناك بينما تتغلل المواد الكيميائية بنسب مرتفعة للغاية في التربة لتقتل أي حياة قد تنمو بها. لا يقف الأمر عند هذا الحد حيث تتسرب هذه العناصر الخطرة من التربة إلى مياه النهر الضحل ثم إلى المحيط، أو تذهب إلى أيادي الأطفال العاملين هناك بغرض البيع دون أي احتياطات صحية تذكر. هكذا تكوّنت مأساة كبيرة.


مكوّنات الحساء القاتل

يدخل عدد كبير من العناصر في صناعة الأجهزة الإلكترونية والكهربائية، من المعادن إلى المواد المستخدمة في تصنيع البوليمرات البلاستيكية. بالإضافة إلى الرصاص تجد عناصر يمثل تراكمها مشكلة صحية ضخمة كذلك من نوعية البيريليوم والكادميوم والكروم والزئبق والأنتيمون والثاليوم وكلها متواجدة بمستويات أضعاف مضاعفة لما تقره منظمة الصحة العالمية آمنا.

أما البلاستيك – مثل «الكلوريد عديد الفينيل PVC» الأكثر استخدامًا في الإلكترونيات – المحترق، فإنه يطلق في الهواء واحدة من أكثر عائلات المركبات الكيميائية سمية، ما يعرف باسم «الفثالات – Phthalates».

ولأننا نتحدث عن أجهزة إلكترونية قديمة في مكب نفايات، فإن احتمال وجود أجهزة قديمة للغاية تحتوي على مواد قد تم منع إنتاجها لاحقًا لخطورتها، سيكون احتمالًا واردًا للغاية. يتمثل هذا الموقف في كميات مركبات «ثنائيات الفينيل عديدات الكلور – PCBs» التي تم تحريم صنعها في السبعينات، لكنها تظهر في آسيا وأفريقيا على شكل نفايات.

في دخان الأجهزة المحترقة بإمكانك أيضًا إيجاد أبخرة المواد المستخدمة كـ«مانعات احتراق – Flame-Retardants». عادة ما تحتوي موانع الإحتراق تلك على الكثير من «البروم، ومركبات الكلور والبنزين» –أو كلاهما معًا- و«الديوكسينات – Dioxins» المحبوسة بداخل هياكلها الجزيئية.

تتميز هذه المركبات –خاصة «PBDEs» بثباتها في البيئة، مما يعني معدلات تراكم مرتفعة مع كل عملية حرق جديدة. كما أن من هذه المركبات –مثل ثلاثي فينيل الفوسفات- ما يعد تسربه للحياة المائية قضاء مبرمًا عليها[3].

هكذا يصبح الهواء والماء والتربة في منطقة أجبوبلوتشي جحيمـًا محمومًا يعيشه عمال صغار لم يبلغوا بعد من العمر ما يمكنهم من تخيل الأضرار التي سوف يتعايشون معها لاحقـًا. تؤثر كل من هذه المواد على التطور الجسماني والعقلي للأطفال المتواجدين هناك.

كما تدمر صحة الكبار منهم، تحت وطأة سموم الجهاز العصبي، وتلوث الدم، وفشل الأجهزة الحيوية في الجسم والرئة المهترئة جرّاء استنشاق الدخان المحمل بكل سموم العصر الحديث، تصبح «أجبوبلوتشي» بؤرة لكل المعاناة التي يمكن تصورها على كل الأصعدة.


شحنة لا يريدها أحد

كان على ولاية فيلاديلفيا في عام 1986 التخلص من كميات ضخمة من رماد المحارق. لم يكن لديها مكان يمكن دفن هذه الكميات فيه، لذا فقد تم التعاقد مع شركة رصف لتتخلص من 14000 طن من الرماد المذكورين. أرسلت شركة الرصف بالشحنة إلى شركة في جزر الباهاما، لتتخلص منها لحسابها بعد أن تقاضت مبلغًا ضخمًا لأداء المهمة.

تم تحميل الشحنة غير المرغوبة على سفينة عرفت باسم «بحر خيان – Khian Sea»، واتّجهت نحو سواحل العديد من الدول الفقيرة في محاولة للتخلص منها هناك. رفضت جمهورية الدومينيكان، وغينيا بيساو، وبيرمودا استلام هذه الشحنة، كما فعلت لاحقًا المغرب، سريلانكا، وسنغافورة.

في النهاية، اختفى من الشحنة 10 آلاف طن، تم اكتشاف أنها قد ألقي بها في المحيطين الهندي والأطلنطي، بعد سنوات من محاولة إدخالها للعديد من الدول بطرق غير قانونية. أما الباقي، فقد تم تزوير طبيعته كمخصبات، وانتهت 4 آلاف طن من الرماد الذي يحتوي على مختلف العناصر الضارة على أراضي هايتي، رغمًا عن الحكومة.

في أواخر الثمانينيات، وعلى ضوء مثل هذه الحادثة التي تتكرر مئات المرات وتنجح في العديد منها، تم توقيع «اتفاقية بازل» بعد مفاوضات دامت سنتين لمنع تصدير المخلفات الخطرة من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة، ومنع تصدير المخلّفات من الشمال للجنوب. كان النشطاء البيئيون قد استطاعوا الضغط من أجل موقف كهذا، بعد بيان التأثير الخطِر الجلي للكثير من الكيماويات المستخدمة في الصناعة إن لم يتم التخلص منها بطريقة سليمة.

كانت مركبات «الكلوروفلوروكربون» على رأس هذه الكيماويات. ولأن تصديرها إلى بلاد تفتقر للبنية التحتية اللازمة للتعامل مع هذه المخلفات، كان الأمر ينتهي بتلك المركبات إلى طبقة الأوزون، وهكذا يتراكم خطر هذه المواد مسبِّبًا الضرر للجميع. اتفقت دول العالم المتقدم على تنفيذ الاتفاقية – ولو أن الأمر كان صوريًا إلى حد كبير على أرض الواقع – ولم تصدق عليها الولايات المتحدة بعد.

طورت أوروبا العديد من اللوائح التي تجعل الالتزام بحماية بيئة أراضيها مما تسبب في ميل السماسرة -من أمثال شركة الرصف- أكثر إلى الاتجاه للدول الأفقر التي تعوزها هذه اللوائح. وبسبب اتفاقية بازل فقد أصبح التصدير يتم على أنه تصدير لأجهزة مستعملة لا لمخلفات. ليستمر الوضع في التدهور.

رغم وجود مراكز بحثية محلية ومنظمات بيئية تعمل في هذه المناطق المعذبة، فإن كلها لا حيلة لها دون الدعم المادي والسياسي الكافي، بالإضافة لتعاون حكومات الدول الغنية ذاتها. في عام 2013 منعت الحكومة الغانية استيراد الثلاجات المستعملة بسبب كميات الكلوروفلوروكربونات فيها مما أدى لمصادرة مستوردات بريطانية كانت تحتوي عليها. لا تعني القوانين الكثير دون التزام حقيقي بتنفيذها[4]

يبقى لنا تساؤل. هل من الممكن حل المشكلة من الجذور؟ هل من الممكن أن يتم استبدال العناصر السامة وبالغة القابلية للتراكم في الصناعات الإلكترونية بعناصر أقل ضررًا وأسهل في الحصول عليها ثم التخلص منها أو إعادة تدويرها حفاظًا على حياة البشر؟

عندما ظهرت خطورة الرصاص للعيان، ووُضعت القوانين للحد من كمياته المستخدمة في المنتجات المختلفة، أدى الأمر رويدًا رويدًا إلى البحث في بدائل له قادرة على القيام بنفس الوظيفة. هل يصبح ذلك مصير الكادميوم والرصاص ومركبات البروم في الأجهزة الإلكترونية؟

سيمر الكثير من الوقت حتى تظهر لنا نتائج برنامج إعادة تأهيل منطقة «Korle»، ونهر أوداو. فماذا سنفعل في هذه الأثناء غير توليد كميات أكثر من المخلفات؟

المراجع
  1. E-waste – the hidden side of IT equipment's manufacturing and use, United Nations Environment Programme, January 2005, p.1
  2. A Manufactured Global Health Crisis: Electronic Waste in Accra, Ghana – Gabriella Yusim Meltzer. Chapter 1 and 3
  3. Greenpeace research laboratories.Technical note 10/2008
  4. A Manufactured Global Health Crisis: Electronic Waste in Accra, Ghana – Gabriella Yusim Meltzer. Chapter 1 and 3