محتوى مترجم
المصدر
aeon.co
التاريخ
2017/06/13
الكاتب
جيسيكا بارون

من الصعب تصديق أن الأطباء الغربيين في العصر الحديث، بمستشفياتهم المكلَّفة ملايين الدولارات وأدواتهم ذات التقنية العالية، يحملون كثيرًا من الشبه بأترابهم القدماء. حتى القرن التاسع عشر، احتل الأطباء مكانة منخفضة نسبيًا في المجتمع.

من العصر الروماني وخلال العصور الوسطى الأوروبية، أذعنوا أحيانًا لإهانة تذوق بول مرضاهم كوسيلة تشخيصية، مما أكسبهم لقبيّ «ذوّاقة البول»، و«نذير البول». يتمتع الأطباء عمومًا في الوقت الحالي بظروف عمل أفضل، لكن بشكل مدهش بقيت القواعد الأساسية المرشدة لأساليبهم، ولباسهم، وتهذبهم ثابتة على مدى الـ2500 عام الماضية.

في اليونان القديمة كانت الكشوفات الطبية تجري في العلن، وكان هناك متفرجون، ولم توجد المستشفيات حتى بناها المسلمون في القرن التاسع الميلادي

ظلّ مظهر الأطباء هو الأشد خضوعًا للمراقبة من بين كل الطبقات المهنية في التاريخ، بالإضافة إلى الشرطة والجيش. (ربما ليست مصادفةً بما أن ثلاثتهم يتعاملون مع الحياة والموت.) في اليونان القديمة، كانت الكشوفات الطبية تجري في العلن؛ حتى في المنزل، كان هناك عادةً متفرجون. ولم توجد المستشفيات كما نعرفها حتى أول بيمارستان بناه المسلمون في بغداد في القرن التاسع الميلادي.

لسبب وجود المشاهدين غالبًا، كان شيء من الازدهار العمليّ متوقعًا. على ما يبدو، تقمص الأطباء اليونانيون الشخصية حقًا، ما اقتضى أحد المؤلفين أن يحذِّر من «أغطية الرأس المترفة والعطور الفوّاحة من أجل جذب الزبائن … لأن الإفراط في الغرابة سيكسبك سمعة سيئة، لكن القليل سيُعتبر ذوقًا جيدًا».

ما زلنا نتوقع أن يبدو أطباؤنا أنيقين، دون إفراط في الزينة، سأذهل إذا رأيت طبيب الرعاية الأولية مرتديًا الكثير من الألماس أو وشاح هيرمس. مع أنه لا يزال بإمكانهم إظهار بعض الأناقة الشخصية، إلا أن لهذا حدوده عمومًا. بدأت تلك القيود مع الطبيب اليوناني القديم أبقراط، أو للدقة أكثر، «الأبقراطيين».

يتفق المؤرخون بوجه عام على أن عددًا من الناس أسهموا في كتابة حوالي الستين نصًا طبيًا التي تقدم بعضًا من أول التوجيهات في التاريخ عن كيف تصبح طبيبًا جيدًا. مجموعة النصوص الأبقراطية هي منشأ الأخلاقيات الطبيبة، مَصدرُ قَسَمٍ لا يزال الأطباء جميعًا يقسمون به في نهاية تدريبهم.

في النص الأبقراطي المعنون بـ«التهذُّب»، يُوجَّه الأطباء لأن «يرتدوا ملابس محتشمة وبسيطة، دون مبالغة في التفاصيل، لكن تستهدف عوضًا عن ذلك السمعةَ الحسنةَ، وملائمةً للتفكير والاستبطان والمشي». علَّم مؤلف أبقراطي -كتب عن الجراحة- الأطباء تفصيلات وقفاتهم ووضعيات أطرافهم خلال العمليات الطبية، وأوصى على أن «يكون الرداء محبوكًا جيدًا، بغير ثنيات، كله استواء، ومناسب لحركة الأكتاف والمرافق.»

واليوم، ما زالت مجموعة قوانين السلوك في كلية ستانفورد الطبية تلزم طلبة الطب بـ «أن يرتدوا ملابسهم بشكل مهني ومتحفظ»، مع معاطف بيضاء «نظيفة ومكوية وأن يرتدوها طوال الوقت». كلية الطب بجامعة ولاية يوتاه تملي تفصيلات حتى القماش المناسب للسراويل أو البناطيل، التي يجب أن تكون «مصنوعة من قماش مقوّى للمحافظة على المظهر المهني».

لكن هل ملابس طبيبك أو عطره أو حُليُّه تستحق حقًا كل هذا الاهتمام؟ تشير الأبحاث إلى أن ما يبدو تدقيقًا مبالِغًا في الزيّ له أهمية في الطب أكبر بكثير مما قد تظن؟

في دراسة لـ 337 مريض رعاية حرجة من 2013، وجد الباحثون أن الأشخاص محل البحث وعائلاتهم اعتبروا الأطباء المرتدين للمعاطف البيضاء أكثر علمًا وصدقًا وكفاءة من هؤلاء الذين ارتدوا ملابس اعتيادية، كملابس يظهر فيها المرفقان عاريين. في دراسة أخرى، تم إخبار المرضى بالحقيقة (الصحيحة) القائلة إنه يمكن لمعطف الطبيب الأبيض نقل المرض، لكنهم ظلوا يفضلونه على الأحذية الرياضية والجينز.

في السبعينيات، بدأ علماء الاجتماع يقترحون أن التفاعلات الاجتماعية يمكن النظر إليها كـ«أداءات تمثيلية». ربما تكون هذه هي الطريقة الأفضل لوصف زيارة الطبيب. هناك إطار نموذجيّ، ودَوْران على الأقل لتأديتهما، وزيّ مناسب لكل شخصية. في أشد حالاتها تبسيطًا، لرؤية الطبيب سيناريو أساسيا: سرد المريض للأعراض، واستجواب الطبيب له، والاختبارات والنخزات الطقوسية، والإعلان عن سبب المشكلة، والنصيحة (أو الوصفات) من أجل العلّة، ومشهد يشير إلى نهاية الموعد.

واحد من الأشياء المميزة للطبيب عن المريض في هذا اللقاء هو المظهر. الأناقة والمهنية والحيوية للأول تقابلها حالة الضعف والاستنجاد لدى الأخير. في الطب المعاصر، غالبًا ما يُحدد المريض بالرداء الورقيّ الشعائريّ والأقرب للإهانة، بينما الطبيب في أفضل حلة ونظام، غالبًا بلمسة نهائية متمثلة في معطف معمليّ أبيض حديث.

المعطف هو تطور حديث نسبيًا، حلَّ بديلاً عن اللباس الأسود الكئيب الذي كان الأطباء يرتدونه عادةً حتى أواخر القرن التاسع عشر

المعطف هو تطور حديث نسبيًا، حلَّ بديلاً عن اللباس الأسود الكئيب الذي كان الأطباء يرتدونه عادةً حتى أواخر القرن التاسع عشر. بعد ذلك، بدأ الأطباء في تقديم أنفسهم مرتدين الأبيض، محاكين زيّ عاملي المختبرات من أجل إعطاء المصداقية المهنية.

لكن بينما يخدمُ المعطفُ الأبيضُ فرضَ السلطة الطبية، أحيانًا يتجاوز في هذا الحدّ. صار معروفًا أن الناس يعانون من «متلازمة المعطف الأبيض»، حيث يرتفع ضغط دمهم ويتزايد توترهم بمجرد دخول الطبيب إلى الغرفة (بالطبع، يعاني البعض من المتلازمة في حضور أيٍّ من أفراد الطاقم الطبي، بصرف النظر عن الزيّ، إنما الأمر ليس بالشيوع نفسه حين تتعامل معهم الممرضات).

«آداب الرعاية» هي صفة أخرى ترسخ توقعُنا لها من أطبائنا. في «التهذب»، يحذر المؤلف من أن «القسوة منفرة لكل من السليم والمريض،» ويشير إلى أن الطبيب ينبغي أن يكون «هادئا وواثقا مما يقول»، و«أن يراعي أسلوب جلوسه، وتحفظه، وترتيب ثيابه، وحزم قوله، وإيجاز حديثه، واتزانه». يُرشَد الطبيب الأبقراطي لأن يكون دمث الأخلاق، وواثقا، ورزينا، لا يسهل إثارته أو إغضابه، وعطوفًا على المرضى وعائلاتهم بغير نزوع إلى «المرح المفرط» أو الضحك.

حتى الآن، يوجد دليل متزايد على أن شعور المريض بشخصية الطبيب يؤثر على النتائج الصحية. يميل المرضى لأن يكونوا أمناء وراضين مع الأطباء حين يشعرون بهم كمتعاطفين، لا قادرين فقط أو أكفاء. ثبت أن إبداء التعاطف يحسّن النتائج في المرضى المعانين من حالات كالسمنة والسكرى وارتفاع ضغط الدم والربو والعدوى الرئوية والفُصَال العَظْمِيّ.

هيئة الطبيب، إذن، جزء مما يُرسي الثقة والسلطة في علاقة الطبيب بالمريض. ومع ذلك، فبروز الطب المتمحور حول المريض، وقدرة المريض الحديث على تسليح نفسه بالمعرفة الطبية يغيّر هذه الدينامية – يُدفع المريض لأن يصير أقرب إلى المستهلك أو الزبون عنه كمستنجدٍ. على أطباء القرن الواحد والعشرين الاحتفاظ بموقفهم المهني لكن إزالة أيّ زوائد سلطوية متبقية. للمرة الأولى منذ القرن الخامس قبل الميلاد، يمكن أن يشتمل حوارُ السيناريو الطبيّ على عدد متساوٍ من الأسطر لكل شخصية.

Aeon counter – do not remove
Aeon counter – do not remove