قد يكون من المضحك أن يتحدث ترامب عن رغبته في طرد المهاجرين الحمقى من «وطنه» أمريكا، كما كان من المؤلم أن يتحدث الأسترالي عن طرد المهاجرين المسلمين من «نيوزيلاندا» قبل أن يقتلهم داخل المسجد، لكن ماذا لو كان ترامب والإرهابي الأسترالي مجرد مهاجرَين؟

القرن الثامن عشر، وحيث كان المتبع وقتها أن تنطلق الجحافل الأوروبية الهاربة من بلدانها، حيث الظلام والفقر والأوبئة، نحو بلدان جديدة أطلق مقاتلوهم عليها «أرض الذهب»، وقد كانت التسمية ذكية وعبقرية في الحقيقة، فالأراضي التي سكنتها قبائل «الأبورجينال» أو سكان أستراليا الأصليون، وهي بر أستراليا وتاسمانيا وغيرها من الجزر الأسترالية، كانت غنية بالطبيعة الخصبة الممتلئة بالزروع والحيوانات.

ولذلك فقد كانت تلك الأراضي مطمعًا مناسبًا لمن جاءوا من أوروبا يلتهم الجوع أوردتهم، فأحدثوا المذابح البشعة في السكان الأصليين، حتى تبقَّى في النهاية من هؤلاء الأصليين 2.4% يعيشون في مناطق متفرقة من أستراليا، ومسلسل للأطفال، يُقدم حيوانًا شرسًا أحمق لا يحسن التفكير ولا التحدث، واسمه «تاز المشاكس» نسبة لتسمانيا البائسة.


كيف كانت البداية إذن؟

أواخر القرن الثامن عشر، على وجه التحديد عام 1788، كان الوصول الأول للقوات البريطانية إلى محيط الجزر الأسترالية، لتدخل في مواجهة عديمة التكافؤ مع سكان القبائل الذين بلغ عددهم في ذلك الوقت ما يقارب 250 ألف شخص، بحسب بعض الإحصاءات.

وعلى الرغم من أن القوات الواصلة لم تكن بنفس عدد المواطنين الأصليين، لكن الأمر لم يكن يشكل أي صعوبة، فالسكان وقتها كان موغلين في البدائية؛ يصيد الرجال الحيوانات، ويحرثون الأرض، وتقوم النساء بشئون المنازل والأطفال، ولا شيء فوق ذلك، أي أنه لم يكن أحد من هؤلاء يمتلك عتادًا أو سلاحًا، أو قدرة على المواجهة.

وقد كانت النتيجة غاية في المنطقية، فانخفضت الأعداد بصورة مخيفة، إثر عمليات القتل والاستعباد الجماعي، لتصل إلى 60 ألف شخص بحلول 1920، أي بعد ما يزيد عن 130 عامًا من الاستعباد والقتل الممنهج، ونشر الجُدري.


من داخل قعر الجحيم

نجحت أفلام الويسترن دائمًا في أن تقدم صورة مُقربة لخوف الرجل الأبيض من أن يهاجم أحد العبيد السود نساءه، ليكون رد فعل الرجل الأبيض أن ينال هو من امرأة الرجل الأسود الذي يخشاه، فيكسر ما قد ينمو داخله من فعل للمقاومة أو الوقوف صامدًا، وقد ذكر الراحل المبدع د. أحمد خالد توفيق ما يحوي ذلك المعنى في رواية يوتيوبيا قائلًا على لسان أحد أبطال الرواية:

ذكرت بعض المصادر التاريخية أن عدد المذابح التي ارتُكبت بحق السكان الأصليين زاد عددها عن 250 مذبحة، مُورس خلالها العديد من الفظائع، بداية من ربط سكان القرى بأغلال ضخمة في رقابهم، وصولاً إلى قتلهم بصورة جماعية، متضمنًا ذلك اغتصاب بعض ممن قد يكن مناسبات من النساء، وصولاً إلى نشر مرض الجدري بين سكان القرية، ليقتلهم دون وجود أي دواء.

من بين أساليب التعذيب التي مورست مع السكان الأصليين، غير القتل الجماعي، كان الإخصاء لمنع إنجاب المزيد من السلالة الأصلية، وقتل الأطفال، لمنع استمرار الجنس الأسود من الوجود في الأراضي الأسترالية بشكل عام.


من داخل أقفاص الحيوانات

بمرور الوقت وجد المهاجرون البيض أن قتل السكان الأصليين وحده، قد لا يكون مجديًا تمامًا، لذا فقد ظهرت على السطح استراتيجية بديلة، وهي استغلال الموجودين في أعمال قاسية، دون طعام أو دواء، ليكونوا جزءًا من بناء حضارة لن يروها فيما بعد.

فقد ذكرت التقارير أن النهج المتبع خلال تلك الفترة هو اعتبار هؤلاء السكان «حيوانات برية» يجب الحذر منها، لذا فقد كان العمال يقومون بأدوارهم خلال اليوم مقيدين بأغلال ضخمة، وحينما ينتهي الدور، يُقيمون في غرف بداخلها أقفاص عملاقة كأقفاص الحيوانات، لم يكن المحتجزون يغادرونها، إلا للعمل خلال ساعات النهار.

وقد تحدث الصحفي الأسترالي وصانع الأفلام الوثائقية «جون بيلجر»، في مقال رأي نُشر على صفحات «الجارديان» في مارس/آذار 2014، عن مستقبل الأطفال الذين أنجبهم السكان الأصليون، حيث أكد أن ما يقارب 14 ألف طفل من القبائل الأصلية قد أخُذوا من أهلهم، في استراتيجية جديدة بدلاً من القتل الممنهج.

وقد ذكرت بعض الدراسات أن الأطفال المبعدين عن أهلهم قد جرى معاملتهم بمزيد من العنصرية الفجة، فحرمتهم السلطات من التعليم ومن الحقوق الموازية لحقوق الأطفال البيض، وجرى تدريبهم على العمل كمزارعين وكعمال دون أن يتوافر لهم أي خيار آخر.

وإذا كنت تعتقد أن هذه السياسات تتعلق بالماضي وحسب، فالأمر لم ينته بعد، حيث إن الحكومات الأسترالية حتى الآن لا زالت تتعامل مع من أصبحوا «أقلية» في أستراليا بأنهم فئات غير مرغوب فيها اجتماعيًّا، كما صرح رئيس الوزراء الأسترالي السابق «توني آبوت» عام 2015، في أحد المؤتمرات، متحدثًا عن النسيج الاجتماعي الأسترالي، والخطر الذي تشكله العديد من الفئات الموجودة في المجتمع الأسترالي، ومن بينهم من تبقى من السكان الأصليين، خاصة فيما يتعلق بأولئك الذين يتحدثون بلغتهم الأم حتى الآن، ومحتفظين بعاداتهم القديمة، ومتجاهلين للثقافة الأسترالية الحديثة.


التساؤلات المنطقية

بإمكانك أن تصفع خادمك كل يوم ويبتلع الإهانة ويصمت، لكن أن تدخل بيته وأن تنال من امرأته فهو أمر يحتاج لكثير من التفكير، فإذا ما فعلت ذلك وصمت، فأنت في مأمن إلى الأبد.

واليوم وفي وسط حالة من الهدوء الذي اعتادت عليه نيوزيلاندا منذ سنوات طويلة تفاجأ الجميع بإرهابي أسترالي، من أصول بريطانية، يقيم في نيوزيلاندا، وقد دخل بسلاح ثقيل على مسجد في مقاطعة كريست تشرش، مُطلقًا النيران بكل غلظة وكراهية على جموع المصلين المسلمين العزل، وهم يؤدون صلاة الجمعة، في مشهد أفزع الإنسانية بأكملها، رغم تهليل البعض الآخر له. وقد كان الدافع الذي أعلنه ذلك الإرهابي هو تخليص بلاده من الغزاة المسلمين، الذين يهدد وجودهم حياة الرجل الأبيض.

وهنا يأتي وقت السؤال: هل كانت أستراليا ونيوزيلاندا موطنًا شرعيًّا لمن يقيمون في أرضها الآن؟ أم أنها مجرد مستعمرة حصلت عليها الجحافل الأوروبية المتعطشة للخصوبة والخضار؟

قد لا يكون من الغريب أن يعلن سفاح أستراليا أن ترامب هو مثله الأعلى في مواجهة المهاجرين، فكلاهما ينحدر من الأصول الرومانية الأوروبية نفسها، وكلاهما وصل إلى أرض ليست له، وانتزعها من أيدي سكانها، ليُقيم حضارة فوق الأشلاء، لكن الغريب هو أن سفاح أستراليا قد دوَّن العديد من التواريخ والأحداث، فوق هيكل سلاحه الثقيل، الذي ارتكب به جريمته البشعة، لذا فمن الواضح أنه من المطلعين على التاريخ، لكنه ربما لم يقرأ جيدًا تاريخ الدولة التي ينتمي إليها.

وقد ظهر بوضوح اليوم مدى تشعب العنصرية والكراهية في الأراضي الأوروبية، والتي ظهرت بوضوحٍ في تعليقات المتابعين على صفحات الأخبار الأجنبية، مهللين محتفلين بالأمر، في حين أصاب البعض الآخر الفزع والصمت تجاه الكارثة، ومن المتوقع أن تسفر الأيام القادمة عن المزيد حول هذه الكارثة.