بعد مرور عامين على آخر تحديث للبيانات حول وضع تلوث الهواء في العالم،أعلنت منظمة الصحة العالمية تحديثًا جديدًا ورقعة بيانات أوسع تكشف الحقيقة الصادمة والمتوقعة في آن واحد. من هذه البيانات الجديدة تبين أن 90% من البشرية تتنفس هواءً ملوثًا.

ارتفع عدد المدن التي تقوم المنظمة برصد حالة الهواء المستنشق فيها وعلاقته بالأمراض إلى 4300 مدينة في 108 دولة. مع ذلك، لا يدعو الأمر للتفاؤل كثيرًا، حيث من بين 47 دولة في إفريقيا تلقت المنظمة بيانات حول الهواء من 8 فقط، كما ظهر نقص شديد في البيانات التي وفرتها الصين عن حالة هواء مدنها. بهذا الوضع نجد أن بعض أكتر الدول تلوثًا ما زالت لا تراقب معدلات التلوث فيها.


التأثير على الصحة

رصدت المنظمة أن ما يقرب من سبعة ملايين حالة وفاة سنوية يعود سببها إلى استنشاق هواء ملوث بمستويات مرتفعة، 94% من هذه الوفيات بدورها تتمركز في الدول متوسطة ومنخفضة الدخل في جنوب وشرق آسيا وإفريقيا.

تسبب تلوث الهواء الخارجي في نحو 4.2 مليون وفاة في حين كان تلوث الهواء الناتج عن أنشطة المنزل، كالطبخ على مواد محترقة غير آمنة، مسئولاً عن 3.8 مليون وفاة تقريبًا.

كان تقرير عام 2017 الذي أصدرته منظمة «معهد آثار الصحة» (HEI) بالاشتراك مع معهد قياسات الصحة (IHME) قد بين مسئولية معدلات تلوث الهواء المرتفعة عن حوالي ربع حالات الجلطة في العالم وربع حالات الوفاة للراشدين من الأمراض القلبية، إضافة إلى ما يقرب من نصف حالات الانسداد الرئوي المزمن وما يقرب من ثلث حالات سرطان الرئة. لذلك، فلا يعد رقم الوفيات الذي أعلنته منظمة الصحة العالمية مفاجئًا.

يعود ذلك إلى قدرة هذه الجسيمات الفائقة على التغلغل إلى داخل الرئة وإحداث مختلف الأضرار بسبب حجمها. كذلك، بإمكان الميكروبات التواجد على أسطح الجسيميات مما يجعلها مركبة فعالة لتوصيل هذه الكائنات الممرضة إلى داخل الجسم. على حسب مقدار التعرض للجسيميات، يختلف مستوى خطرها وخطورتها على الجهاز التنفسي ما بين نوبات ربو شديدة ومشاكل خطيرة بالقلب والأوعية الدموية.


أخطار دقيقة

كان محور التركيز في الدراسة الجديدة للبيانات التي أجرتها (WHO) هو «المواد الجسيمية – Particulate matter». تعرف المواد الجسيمية على أنها جسيمات من المواد الملوثة كالكربون الأسود والكبريتات والنترات في الحالة الصلبة أو السائلة لها القدرة أن تظل معلقة في الهواء ولها أقطار تقاس بالميكرون (واحد على المليون من المتر).

ركزت الدراسة من بين هذه المواد الجسيمية على الجسيمات الدقيقة Fine Particulates التي تتراوح أقطارها بين 2.5 و10 ميكرون (يطلق عليها PM10) والجسيمات ذات القطر 2.5 ميكرون فأقل (PM2.5). يتسبب التعرض إلى جسيمات «PM2.5» إلى خفض متوسط العمر المتوقع لسكان الأماكن الملوثة بها إلى حد كبير بما يصل إلى 8.6 شهرًا. كانت منظمة الصحة قد توقعت قبلاً أن متوسط العمر قابل للزيادة بما يقارب 20 شهرًا في حالة خفض مستويات التلوث بالجسيميات في الأكثر تلوثًا، وها هي تعود لتؤكد على تأثيرها الخطر.

تصل هذه الجسيميات إلى الهواء إما عن طريق ضخها فيه مباشرة أو تكونها وانطلاقها في أو إلى الهواء من مواد أكبر أو أقل حجمًا صلبة أو غازية. بإمكان مختلف الأنشطة تكوين جسيميات، فبينما تتسبب المحروقات المستخدمة سواء في النقل أو الطبخ أو التدفئة في تكوين كميات كبيرة من الجسيميات وتصاعدها للهواء، بإمكان الأراضي الزراعية المسمدة أيضًا أن تمد الجو بجسيميات تحتوي على الأمونيا.

كما هو متوقع، سيطرت الهند على 14 مركزًا من الخمسة عشر مركزًا الأولى في قائمة أكثر المدن تلوثًا، كما أظهرت مدن آسيوية أخرى كبشاور الباكستانية مستويات مهولة من تركيز الجسيميات في الهواء. جذبت «الجبيل» السعودية أيضًا الأنظار ومعها القاهرة لما لهما من مستويات تلوث مرتفعة للغاية.

في مقارنة أخرى بين الوضع في المدن النامية والمدن ذات الدخل المرتفع، نعود لنرى أنه بينما لا تتواءم 97 بالمائة من مدن العالم الفقير والمتوسط مع نسب ومعايير الأمان التي وضعتها منظمة الصحة، ينخفض الرقم إلى 49% من المدن في العالم الغني. لا يقف الأمر عند هذا الحد، حيث وجدت منظمة الصحة أن العديد من المدن الضخمة Megacities -التي يتعدى عدد سكانها العشرة ملايين، ويتعداها بكثير في معظم الأحيان- فإن نسبة الملوثات تتخطى المستوى المسموح به بخمسة أضعاف.

رغم أنه لا يمكن ادعاء الصدمة أو اصطناع الدهشة جراء الأرقام التي أدلى بها التقرير الجديد لما لها من آثار ظاهرة للعيان في مختلف مدن العالم خاصة النامية التي لا تكاد تظهر ولا يكاد المرء يتبين سكانها في الصور التوثيقية من كثرة السخام، إلا أن ما ترجوه منظمة الصحة هو أن تحث هذه الأرقام والتوثيقات الحكومات على اتخاذ تدابير حقيقية للتعامل مع حجم المشاكل الحقيقية التي تواجهها.