في محاولة جديدة لتبرير قراره بغزو أوكرانيا، شبّه الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين قراره بغزو أوكرانيا بالغزوات التوسعية التي خاضها القيصر الروسي بطرس الأكبر طوال 21 عامًا، بعدما أدخل تحسينات ضخمة على الجيش الروسي وسّع خلالها مساحة دولته على حساب الإمبراطورية العثمانية والسويد.

على إحدى تلك قطع الأراضي التي اقتنصها من السويد أمر ببناء عاصمة جديدة لإمبراطوريته هي «سانت بطرسبرغ» محل ميلاد بوتين.

وخلال زيارته معرضًا مخصصًا لإحياء ذِكرى القيصر الروسي الشهير، صرّح بوتين بأن العمليات العسكرية الأخيرة لم تأخذ شيئًا من أحد، هي فقط «تعيد ما كان لروسيا في الماضي»، وأشاد بدور القيصر الشهير في بناء دولة روسية حديثة معتبرًا إياه «المصلح العظيم».

فمن هو بطرس؟ وماذا فعل ليستحق هذا الثناء من بوتين؟

ما قبل بطرس

خلال القرن الـ17 عاشت روسيا أوضاعًا مذرية، حتى وُصفت بأنها إحدى أكثر دول القارة الأوروبية تخلفًا، ففي الوقت الذي كانت فيه أغلب الدول الأوروبية تنعم بنهضة صناعة وفكرية كانت روسيا غارقة في مفاهيم القرون الوسطى.

سادها الجهل والخرافات وفقدت مؤسسات الدولة هيبتها وسيطرت فئة قليلة من الإقطاعيين على اقتصاد البلاد، كما عانت حصارًا جغرافيًا من ممالك قوية متاخمة لحدودها على يدي الدول العثمانية والبولندية والسويدية، وهو ما أضفى عليها المزيد من الانغلاق الفكري والديني.

وهو الوضع الذي ازداد سوءًا على يدي أسرة روريك (Ruric) سويدية الأصل التي حكمت روسيا بالحديد والدم حتى سقطت مُخلّفة فوضى اجتماعية عارمة طمعت بموجبها بولندا والسويد في اقتناص المزيد من أراضيها.

وسط هذه الأجواء اختار الأمراء ميخائيل رومانوف إمبراطورًا لروسيا عام 1613م، والذي حاول إضفاء البريق على بلاده مستغلاً حالة الضعف التي بدأت تضرب في أساسات الدولتين السويدية والتركية.

عقب رحيل رومانوف تولّى ابنه ألكسي الحُكم، والذي حقّق أول إنجاز عسكري روسي منذ عقود وهو استرداد أوكرانيا الشرقية ومدينة كييف من أيدي البولنديين. بعد ألكسي حكَم ابنه فيدور مدة 6 سنوات لم يقم فيها بإنجازٍ يُذكر، وبعدها تولّى أخوه بُطرس الحُكم، فكانت تلك الخطوة كفيلة بتغيّر الكثير من أوضاع روسيا.

بطرس على العرش

حين اعتلى بطرس عرش القيصرية عام 1682م كان في الـ9 من عُمره، فظلَّ تحت وصاية أخته لمدة 7 سنوات خلالها كان قد كبر وتلقّى من العلوم والمعارف بما يكفي حتى شكّل أعوانًا مخلصين له مكّنوه من الهجوم على أخته وحبسها.

عند اعتلائه العرش كانت روسيا تعيش حصارًا جغرافيًا خانقًا؛ فالسويد تسيطر على سواحل بحر البلطيق، والدولة العثمانية تمنعها من الوصول إلى البحر الأسود، وبولندا تمنعها من الاتصال بوسط أوروبا، وكان بطرس في حاجة لفتح نافذة تفتح بلاده على أوروبا، وهي المهمة التي استلزم منه 36 عامًا من حُكمه لتطوير دولته بما يكفي لتحقيق تلك الأغراض.

تصف كتب التاريخ بُطرس بأنه كان لا يطيق البقاء من دون عمل، ويعيش في حركة دائمة، لا يكفُّ عن السفر داخل إمبراطوريته لإصدار وقيادة وحدات الجيش، كان يخطط المدن الجديدة، ويبني المنازل ويُجري العمليات الجراحية للناس! كما أنه تنازل عن أملاكه للدولة ولم يتسلم من خزينتها مالاً إلا راتب نجار في الأسطول الحربي.

شرارات الحرب

عام 1695م أطلق بطرس العنان لجيوشه للمرة الأولى، ووجّهها تجاه الإمبراطورية العثمانية، بعد أن استولى على ميناء آزوف الواقع على مصب نهر الدون، وهي الخطوة التي أثارت ضجة في أوروبا مُعلنةً قيام عملاق جديد من الأراضي البيضاء ومضاعفًا من متاعب الأتراك الذين وقّعوا معاهدة مهينة مع الأوروبيين في كارلو فيتز عام 1699م تنازلوا بموجبها عن عددٍ ضخم من أراضيهم، وبهذا ضمنت روسيا لنفسها نافذة بحرية على العالم لأول مرة منذ عقود.

بعدها أتى الدور على السويد التي كانت حينها إمبراطورية ضخمة تضمُّ في حدودها ما نعرفه اليوم من مساحات دول فنلندا وإستونيا وغيرها من دول البلطيق، وفي عام 1700م تقابل الجيشان الروسي والسويدي لأول مرة فنال الروس هزيمة ساحقة، طمع على إثرها تشارلز الـ12 ملك السويد في المزيد من الانتصارات فقرر الزحف نحو موسكو في 1708م.

وهي الخطوة التي واجهها بطرس بالسماح للسويديين بالتوغل داخل بلاده حتى حاصرهم المناخ السيئ ونقصت إمداداتهم حتى بدأ بطرس في الهجوم عليهم محققًا الانتصار تلو الآخر، أشهرها موقعة يولتافا الشهيرة التي قتل فيها الروس قرابة 9 آلاف سويدي، ولا تزال حتى اليوم تُعتبر من أروع المعارك الحربية التي خاضها الجيش الروسي، بعدما دفعت الملك السويدي إلى الهرب من جيشه وبلاده إلى تركيا والاحتماء في ظِل الخليفة العثماني.

منحت تلك المعركة منفذًا عملاقة لروسيا على بحر البلطيق، بعدما ضم كامل مساحة أوكرانيا الشرقية لبلاده وأمر النبلاء الروس بالإقامة على مساحات شاسعة في القوقاز ليغرس فيها ثقافة بلاده، بل وأكثر من ذلك أمر ببناء عاصمة جديدة لإمبراطوريته الآخذة في التوسّع منها اسمه، وهي المدينة التي نعرفها اليوم بِاسم «سانت بطرسبرج»، وهي مشتقة من اسمه.

وخلال السنوات التالية، حقّق الروس انتصاراتٍ متتالية على السويد مكنتهم من الاستيلاء على فنلندا حتى اضطر ملك السويد لتوقيع اتفاقية صُلح لإيقاف الحرب مقابل الاعتراف عن كافة أقاليم شرق البلطيق لصالح روسيا، وهو ما مكّن موسكو من فتح «نافذة على أوروبا» على حد قول الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين.

نهضة الإمبراطورية

انتقى بطرس لعاصمته أن تكون مُطلة على بحر البلطيق حتى تكون حلقة اتصال مع الغرب تُساعده على نهل العلوم والثقافة الغربية وحقنها في بدن دولته المعزولة عن العالم، بعدما اعتبر أنه من المستحيل عليه تغيير الحياة في موسكو التي تمركز فيها كل ما هو همجي وبدائي وقديم.

أمر بطرس بتعليم أطفال النبلاء إجباريًا في الخارج، كما أسّس أول أكاديمية روسية للعلوم، كما بنى 10 كليات لتعليم السياسة الخارجية ومبادئ الحرب وقواعد العمل في البحرية والمالية والضرائب والتعدين والتجارة، كما أمر بترجمة كُتب العلوم السويدية إلى الروسية.

علاوة على ذلك، أنشأ بطرس مصانع الحديد والنحاس والنسيج، كما شجّع النساء على العمل بشكلٍ كبير. لم يكن الوضع مثاليًا كما قد نعتقد، فكل هذه الإصلاحات كانت تبغي استنزاف الشعب الروسي حتى آخر قطرة لتحقيق أحلام بطرس في بناء إمبراطورية عُظمى، فالعامل الواحد كان يعمل 16 ساعة يوميًّا بأجر متواضع.

هذه الجهود أثمرت في النهاية نتائج ملموسة، فأصبحت روسيا الدولة الأولى في أوروبا إنتاجًا للحديد، وتوقفت نهائيًا عن استيراد الأسلحة والمعدات الحربية من الخارج.

كما أجبر بطرس الفلاحين على زيادة مساحات الأراضي المزروعة وأجرى تحسينات كثيرة على أساليب الزراعة، وفي المقابل فإنه طبّق نظام «رقيق الأرض» الذي سمح للدولة بإجبار الفلاحين على زراعة مساحات الأراضي بالسُخرة، وهو ما مكّنه من إنتاج عددٍ ضخم من المحاصيل، لكنها أتت على حساب حرية الفلاح الذي عاش حياة العبودية في ظل الحُكم القيصري.

أيضًا، سعى بطرس إلى إجبار الروس على التخلّي عن عاداتهم الهمجية في حياتهم والتي عرفوها من طول احتكاكهم بقبائل المغول، فأمر بالتوعية قواعد الموضة والإتيكيت كما يمارسها الغرب، حتى أنه فرض على الروس واحدة من أغرب الضرائب التي عرفها التاريخ، وهي «ضريبة اللحية» لإجبار الرجال على الكفِّ عن عادة إطلاق لحاهم بلا تهذيب.

آخر أيام حياة بُطرس

مثّل نجاحه في حروب الشمال عام 1721م بتحقيق كل ما حلم به بطرس بشعوره أنه حقّق ما يكفي تجاه دولته ولم يعد يطمع في المزيد. فعاد إلى بطرسبرج وأمر بإقامة الحفلات في أنحاء روسيا بأسرها.

كان في غاية السعادة؛ فارتدى ثيابًا نفيسة وأنفق على ألعاب البارود 12 ألف روبل، واجتمع المجلسان الكنسي والحكومي وقرّر بالإجماع منح بطرس لقب «الأب الاكبر لروسيا» و«أب البلاد».

ولم يُعمّر طويلاً بعد هذا التبجيل، فعانى من متاعب صحية بدءًا من عام 1723م حتى مات إثر نوبة مرضية أودت بحياته وهو في الـ53 من عُمره، بعدما خلّف وراءه إمبراطورية شاسعة مترامية الأركان، لا يزال الروس يعيشون على مجدها حتى اليوم.

المراجع
  1. كتاب “بطرس الأكبر“، الدكتور علي شعلب