الجزء الأول: هنا..

يعتبر الإغريق المصدر الرئيسي الأول المؤثر على المجرى العام للكتابة التاريخية الغربية القديمة، وقد تأثرت كل الكتابات التاريخية للشرق القديم بالثقافة الإغريقية، باستثناء الكتابات العبرانية الأولى؛ حيث تطورت كثيرًا في القرن السادس قبل الميلاد، بحيث تحوّلت الكتابة من الشعر إلى النثر، مع وجود الأسلوب السهل والفكر الناقد للأساطير الشائعة، وقد ساعدت حركة الاستعمار الإغريقي والتجارة والسفر إلى الشرق على تطوير الثقافة الإغريقية، مما ساهم في نمو الفلسفة والأدب والكتابة التاريخية التي اتجهت نحو العناية بالوصف الجغرافي، والدراسة الاجتماعية، وأصول الشعوب وعباداتها[1].

الرؤية التاريخية للإغريق

كانت البدايات الأولى لعِلْم التَّاريخ عند الإغريق مكبَّلة بأغْلال الأسطورة والخيال، لعلَّ أبرز مثال على ذلك ملحمتا “الإلياذة”، و”الأوديسة” لهوميروس، بالرغم من خيالِها الخصْب إلا أنها تكشف عن تاريخية حرب طروادة.

لكنَّ التاريخ كعلمٍ يُعْنى بأخبار الماضي، يرجعه الكثيرون إلى عهْد المؤرِّخ اليوناني (هيرودوت)، الذي ينسب إليه البدْء بفنِّ كتابة التاريخ، ولقب بـ “أبي التاريخ”، وقد استخدم كلمة (Istoria) اليونانيَّة عنوانًا لكتُبِه التسعة، وهي كلمة تعني البحث والاستفسار من أجل فهم الحوادث التاريخيَّة، وبِهذا نقل هيرودوت التَّاريخ من عالم الآلِهة المتعدِّدة “الآلهة البولياديَّة” إلى علم يهتمُّ بِنشاطات البشَر على الأرض.

وقد أخذ هيرودوت على عاتقه تعريف مواطنيه بمزيد من الحقائق عن الشرق، ووُفّق في ذلك توفيقًا عظيمًا – كما يقرر المؤرخ موريس كروازييه – كما وُفّق في القيام بدراسة ميدانية عظيمة الفائدة، فراح يسأل الناس، ويزور الآثار، ويقف على كل شيء، مثل العادات والقوانين ونُظم الحُكم والديانات، دون أن يكون متأثّرًا بأفكار سابقة أو ميول معيّنة، وإنما كانت مشاعره عبارة عن مزيجًا ومزيدًا من الدقة والاستعداد للتصديق، مع فضول لا يقف عند حدّ، واحترام للأديان، وقد اعتبر هيرودوت الحروب الفارسية صدامًا بين نمطين مختلفين من الحضارة، هما الحضارة الهلّينية، والحضارة الشرقية، وبفضل حيادته أمام هاتين الثقافتين المتصادمتين، وبفضل نظرته التاريخية البعيدة، تمكّن هيرودوت من أن يصف شعوب غرب البحر الأبيض المتوسط والعالم الآسيوي في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، وصفًا ممتعًا حيًا، وجاءت هذه المادة خليطًا بين التاريخ الثقافي والدراسة الاجتماعية الوصفية[2].

كما أنجبتِ اليونان مؤرخين آخرين سطع نجمُهم في مجال الكتابة التاريخيَّة، خاصَّة (تيوسيدس) الذي عاش في القرن الخامس ق.م، وتَميَّز بحسِّ النَّقْد للرِّوايات التاريخيَّة، وطوَّر هذه الملَكة عمَّا كانت عليه عند “هيرودوت”، خاصَّة في كتابته لتاريخ الحرب البلبونيزية بين أثينا وإسبارطة؛ إذ استبعد الأساطير والخرافات، والقصص المسلِّية التي كانت سائدة في كتابات هيرودوت التاريخيَّة، لكن مع (أرسطو) أخذ التاريخ شكلَه العلمي؛ إذ ميَّز بين الكتابة الشعريَّة والتاريخ[3].

وعلى كل، فقد اتسمت الكتابة التاريخية الإغريقية بالإغراق في الأسطورية، وسيادة العناصر البلاغية الملحمية على تلك الكتابات، ولم يعد التاريخ يتذكر إلا ما كتبه هيرودوت من مشاهداته المهمة عن تاريخ اليونان والشعوب الشرقية كما في مصر وسوريا.

التاريخ عند الرومان

لم يكن الرومان ميّالين بطبعهم إلى الأسلوب الميثولوجي من صنع الأقاصيص حول الآلهة كما الإغريق، ومع ذلك فإنهم أوتوا شغفًا بالغًا بالسجلات التاريخية، ومن بين هؤلاء الذين اهتموا بالتاريخ كنظرة عامة متماسكة بعيدة عن الخرافات نجد بوليبيوس (204 – 122 ق.م)، الذي اهتم بفكرة العلّة والسببية ودورها في صنع التاريخ، وقد تتبع قيام دولة الرومان، وتوقع نهايتها اقتناعًا منه بوجود عملية دورية في التاريخ.

على أن مؤرخًا رومانيًا آخر، وشاعرًا أكثر شهرة من بوليبيوس كان له رؤية أخرى للتاريخ، ذلك هو فيرجيل (70 – 19 ق.م) الذي رأى أن العناية الإلهية هي التي راعت إقامة الإمبراطورية الرومانية، وأن فكرة الاضمحلال التي تناولها من قبله بوليبيوس لا تروقه لأنها تعارض “العناية”، وكشف عن ذلك في منظومته الشهيرة الإنيادة التي عارض بها إلياذة هوميروس في الحضارة الإغريقية[4].

إن محور الاهتمام المسيطر على المؤرخ اللاتيني إنما هو تاريخ روما: أصلها وأحوالها الداخلية وحياة كبار زعمائها وامتداد رقعة سلطانها، وجرت العادة في الجملة ألا تُذكر الشعوب الأخرى إلا من حيث علاقتها بالتاريخ الروماني، وهنا نستطيع أن نوجز الإشارة إلى اثنين فقط من المؤرخين، هما ليفي (59 ق.م – 17م) و تاكيتوس (54 – 117م). ويُغطي كتاب “تاريخ روما” الذي وضعه ليفي مدة طويلة من الزمن، واقتناعًا منه بأن سجايا الشعب الروماني هي التي بوّأت روما مكان العظمة، حاول الإشارة إلى الفضائل التي أفضت بها إلى ما أحرزته من صنوف النجاح، والرذائل التي عادت عليها بالكوارث[5].

أما كتابات تاكيتوس فهي تدور حول فترة وجيزة من التاريخ الروماني، “وهي فترة طفحت بما فيها من كوارث وزخرت بالحروب الرهيبة، وتمزّقت بالنزاع المدني، بل إنها مُترعة بصنوف الرعب حتى في زمن السلم” بحسب تعبيره الذي ينقله عنه ويدجري، ومع أنه كثيرًا ما استخدم عبارات مثل “غضب السماء” فإنه لم يلتمس للتاريخ أي تفسير لاهوتي ولا ديني[6].

لقد رأى تاكيتوس أن التاريخ ينبغي أن يدعم الأخلاق العامة والخاصّة، كذلك اعتقد تاكيتوس أن أسمى وظائف المؤرخ هي ألا يترك عملاً ذا قيمة دون أن يُبرزه، ولقد أدخل نظرية أن التاريخ يعيد نفسه في مجال الأخلاقيات، وبحسب هاري بارنز فإن مؤلفات تاكيتوس كانت تنقصها خطة عريضة؛ إذ أفسدت كتابته كثرة التفصيلات الثانوية المتداخلة، و”هكذا احتجبت صورة تطور الإمبراطورية الرومانية في كتابته خلف إسرافه في العناية بسير الأفراد، فضلاً عن التيّارات المعقّدة من الدسائس والأعمال الحزبية[7].

وفي العصور الرومانية القديمة المتأخرة، كان للتاريخ مكانته في التعليم عندهم، باعتباره فرعًا من فروع البلاغة التي كانت أهم موضوعات الدراسة والتعليم في المدارس آنذاك، ويمكن تعريف البلاغة بأنها “فن الإقناع كتابة وخطابة”؛ إذ كان التلميذ في المراحل النهائية في المدارس الرومانية ينال من التعليم ما يُؤهله لكي يكون خطيبًا على استعداد للتحدث في المجالس العامة أو في ساحات القضاء، وكما كان عليه أن يتعلّم أساليب مخاطبة الجماهير، وجب عليه أيضًا أن يتسلّح بالثقافة الأدبية السائدة والتي تليق بكرام الرجال، قبل أن ينتهي من تعليمه، كان يتعلم كيف يكتب وكيف ويتحدّث في أسلوب رشيق؛ ففنّ الإقناع يعني ضمنًا القدرة على مخاطبة عواطف الجماهير واجتذابها، وهنا برزت قيمة التاريخ عندهم؛ لأن رواية القصص والحكايات على سبيل المثال واحدة من أفضل وسائل اجتذاب السامعين، وهكذا كان الخطيب يستولي على ألباب سامعيه بأن يقصّ عليهم القصص عن فضائل الرومان القدماء وعزوفهم عن الرذائل[8].

وعلى الرغم من أن المؤرخين الرومان لم يكونوا مبتكرين، وكانوا دائمًا في كثير أو قليل تحت تأثير المدرسة الإغريقية البلاغية؛ إلا أن أهمّ ما امتازت به كتاباتهم أنها كانت أكثر صدقًا، وأقرب إلى علم كتابة التاريخ مما جاء بعدها من كتابات رجعت بالتاريخ إلى الوراء، وجعلته يخضع لتأثير الأساطير والتعصّب الديني[9]!


* باحث في التاريخ والتراث..

[1] ملخص كتاب “منهج البحث التاريخي بين الماضي والحاضر”، سلسلة مقالات بهميدن عمر – الحوار المتمدن، العدد 4508.

[2] هاري إلمر بارنز: تاريخ الكتابة التاريخية، ترجمة محمد عبد الرحمن برج 1/ 50، 51. الهيئة المصرية العامة للكتاب.

[3] مولاي المصطفى البرجاوي: تطور الكتابة التاريخية بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية، مقال بموقع الألوكة على الإنترنت.

[4] آلبان. ج. ويدجري: التاريخ وكيف يُفسرونه، ترجمة عبد العزيز جاويد 1/ 115 – 117. الطبعة الثانية، الهيئة العامة للكتاب.

[5] ويدجري: التاريخ وكيف يُفسّرونه 1/ 122.

[6] ويدجري: التاريخ وكيف يُفسّرونه 1/ 123.

[7] هاري بارنز: تاريخ الكتابة التاريخية 1/ 62.

[8] بيريل سمالي: المؤرخون في العصور الوسطى، ترجمة قاسم عبده قاسم ص22. دار المعارف، الطبعة الثانية.

[9] هاري بارنز: تاريخ الكتابة التاريخية 1/ 63.


اقرأ المزيد:

أنشودة رولان.. المسلم في الملحمة الشعبية الصليبية! (1)

البيمارستان القلاووني .. دُرّة شارع المعز!