لا شك أن العالم يتغير في هذا العصر تغيرات حافلة تتوالى بسرعة مذهلة، فالتفاعل في المجتمعات يتزايد بين الداخل والخارج، ويكتسب العامل الخارجي تأثيرًا متزايدًا في الوضع الداخلي. وبات التناقض العميق الكامن في عالمنا المعاصر يتحدى قدرة البشرية كلها على التكيف مع الوجود المعاصر. وبرزت لأول مرة وحدة الوجود البشري.

وانطلاقًا من هذا النهج، لقد استطاعت الرأسمالية أن تقدم نموذجًا معاصرًا أكثر قدرةً على البقاء. وبفضل الثورة العلمية والتكنولوجية الراهنة، استطاعت الرأسمالية أن تتكيف مع الأوضاع الجديدة في العالم، وهي أوضاع شهدت تقلصَ قاعدتها الإنتاجية، وحرمتها من الخامات الطبيعية الرخيصة التي اعتمدت عليها في الماضي، وأصبحت معامل البحث والتطوير هي المستودع السحري الذي لا ينفد منه الخامات والمنتجات على السواء.

وهكذا يجري الآن بصورة تلقائية، وأحيانًا واعية، تدويل مضطرد للحياة الاقتصادية في كل بلد على حدة

وإذا كانت قاعدة الرأسمالية قد تقلصت جغرافيًا خلال القرن الماضي فإنها قد أثبتت مع ذلك أنها أكثر قدرةً على الحياة مما كان يتصور خصومها. لقد تغلبت على أخطر التناقضات في اللحظة المناسبة. وهكذا نواجه الآن رأسمالية معاصرة تتميز بالاستجابة الحيوية لمقتضيات العصر، استطاعت أن تجدد قواها الإنتاجية وأن تعيد تنظيم علاقاتها الإنتاجية حتى لا تفلت من سيطرتها، كما استطاعت أن تستعيد مستعمراتها القديمة لتظل رغم استقلالها أطرافًا لمراكز الرأسمالية الرئيسية. فلقد تغيرت في الواقع أشكال عمل قوانين الرأسمالية وآليات حركتها. وإذا كان صحيحًا أن الرأسمالية قد قامت ولا تزال تقوم على الملكية الخاصة لرأس المال، فإن صورة هذه الملكية الخاصة تغيرت من مرحلة إلى أخرى.

لذلك تختلف الرأسمالية المعاصرة اختلافًا بينًا عما كانت عليه في مطلع القرن الماضي. ولقد جرى بالفعل تحديثها بصورة مذهلة. وقامت رأسمالية ما بعد الصناعة حيث أصبح العلم نفسه قوة إنتاجية خلاقة. وفي ظل هذه الثورة العلمية، لم يعد الوعاء القُطري كافيًا لتوسيع الإنتاج، ولم تعد السوق القُطرية -مهما يكن اتساعها- كافية لاحتواء حركة السلع والخدمات ورأس المال والعمل. وهكذا يجري الآن بصورة تلقائية، وأحيانًا واعية، تدويل مضطرد للحياة الاقتصادية في كل بلد على حدة. حيث بات الإنتاج متخطيًا للحدود القومية، ويكتسب رأس المال طابعًا دوليًا، وتنمو المشروعات والمصارف المتخطية للقوميات لتصبح هي القوة المحركة الجبارة للتركيز الصناعي والمالي في الأسواق التي أصبحت عالمية حقًا. وتصبح الغلبة لهذه القوى الدولية الجديدة فنرى للولايات المتحدة اقتصادان: اقتصادها الأمريكي التقليدي، واقتصادها الدولي، وهو بمثابة اقتصاد ثان لها. وفي ظل التدويل الاقتصادي المضطرد يصحو التعصب القومي حتى أنه وصل إلى حد الحروب التجارية والنقدية والمالية. ويصف الأمريكيون غزو اليابان لأسواقهم بأنه: «بيرل هاربر اقتصادية».


(1) رأسمالية الثورة العلمية والتكنولوجية

لقد تجاوزت الرأسمالية مراحلها التجارية والصناعية والمالية إلى مرحلة أرقى من تطوير قوى الإنتاج استنادًا إلى العلم والتكنولوجيا فيما صار يعرف بالثورة العلمية والتكنولوجية، التي وضعتها بالتالي في خدمة مشروعاتها في التجارة والصناعة والمال. لقد جرى حتى الآن تطوير قوى الإنتاج في تاريخ البشرية كلها عبر ثلاثة عصور اقترنت بثلاث ثورات:

الثورة الأولى هي ثورة العصر الحجري الجديد، وقد تميز بظهور المحاصيل وتربية الماشية ونشأة الحِرَف والتجارة كما ظهرت فيه الأدوات المتخصصة كأدوات للعمل تستخدم كامتداد ليدي الإنسان. ولقد أدت هذه الثورة الأولى إلى إرساء الأرضية اللازمة للانتقال من الوضع المشاعي والمشترك للمجتمعات إلى المجتمع الطبقي.

وأما الثورة الثانية في قوى الإنتاج فهي الثورة الصناعية، وتميز عصرها بالبدء في الإنتاج الآلي بعد التطوير التاريخي المتدرج للحِرف وظهور الصناعة اليدوية، ثم بالقفز من الصناعة اليدوية إلى الصناعة وفقًا لخطوط الإنتاج. ولقد أدت هذه الثورة الثانية إلى ظهور المجتمع الرأسمالي وتطويره.

http://gty.im/135788630

أما الثورة الثالثة والأخيرة التي تمر بها البشرية فهي الثورة العلمية والتكنولوجية الراهنة. ولقد أفضت هذه الثورة إلى تكوين نظام شامل ممتلئ حيويةً ونشاطًا، سمته الأساسية هي التقدم العلمي أصبح أسرع من التطور التكنولوجي أي التطبيقي، وأن هذا التقدم التكنولوجي أسرع من تطور الإنتاج نفسه. وبذلك غدا العلم نفسه قوة إنتاجية مباشرة.

وعلى إثر الرأسمالية العلمية والتكنولوجية، أصبح الصراع العالمي يجري حول العلم والتكنولوجيا، فمثلًا، اليابانيون أراحوا أنفسهم من التفكير في سباق التسلح، وينفقون على قواتهم المسلحة أقل من 1% من الناتج القومي الإجمالي، وأصبحت عقولهم مشغولة بمسائل التكنولوجيا الحديثة وهكذا أصبح الأمريكيون مهددين في مجال تفوقهم البارز. ففي عالم صناعة الإنسان الآلي والخيوط الطبية والليزر والاتصالات، أصبحت المبادرة بأيدي اليابانيين. يضاف إلى ذلك أنه في عام 1990م تفوقت اليابان على الولايات المتحدة الأمريكية في مجال الاستثمارات الخارجية.

أما الفرنسيون فإنهم يجتهدون ليكون لهم مكان تحت الشمس باسم تطوير تكنولوجيا الاتصالات. وهم يطالبون باستثمارات أوروبية طويلة المدى فيها، حتى استطاعت أوروبا السيطرة على 10% من تكنولوجيا الاتصالات.


(2) رأسمالية متخطية للقوميات

تشهد رأسمالية ما بعد الصناعة ظاهرة جديدة هي ظاهرة التدويل المضطرد للإنتاج ورأس المال وتسارع الخطى للاقتصاد القومي في كل بلد على حدة. فلم تعد الحدود القومية كافية في عصرنا لتوفير القاعدة التي تسمح بنمو القوى الإنتاجية نموًا مضطردًا. ولم يعد في الوسع تنمية هذه القوى ولا إدارتها إلا في إطار أوسع هو إطار دولي. وذلك لأن الثورة العلمية والتكنولوجية قد قامت بإعادة هيكلة القوى الإنتاجية وتجديدها على مستوى عالمي. فدورات الإنتاج والتبادل والتوزيع والاستهلاك صارت دورات عالمية كونية بفضل الثورة العلمية والتكنولوجية التي شملت الاقتصاد القومي لكل أقطار العالم.

http://gty.im/453602832

فلقد أحدثت هذه الثورة في الواقع عمليتين معًا بالغتي الأهمية:الأولى هي تجديد وتوسيع القوى الإنتاجية، والثانية هي تدويل هذه القوى الإنتاجية التي من أجل أن تجدد وتتوسع لابد من أن تتخطى الحدود القومية لكل بلد من بلاد العالم. ومن ثم أخذت تتشكل أشكالٌ عديدة من صور التدويل الاقتصادي مثل: تدويل رأس المال، وتدويل العمل، وتدويل الأزمة التي تتحول أكثر فأكثر إلى أزمة عالمية كونية.

ومن هنا تسعى جميع الدول للتكتل الاقتصادي. وما ظاهرة التكامل الاقتصادي بين الدول المختلفة إلا تعبير عن ظاهرة التدويل المضطرد للحياة الاقتصادية وضرورة تخطي الحدود القومية من أجل تنمية القوى الإنتاجية. والدول الرأسمالية تتكتل وتتكامل لتوفير القاعدة الاقتصادية المناسبة وضمان الإطار الدولي المناسب لتنمية قواها الإنتاجية. وهنا تبدو الشركات متعددة القوميات بوصفها القوة التي تلعب الدور القيادي في عملية التدويل الراهنة. فهي محرك وحامل وناقل للتدويل إلى البلدان المتقدمة والمتخلفة على السواء.


(3) رأسمالية قادرة على التكيف

تهاوت في التاريخ نظم عديدة عندما ثبت أن زمانها قد ولى وباد. ولقد ساعد دائمًا على انهيارها عجزها هي نفسها عن تأكيد قدرتها على البقاء. وفي الوقت نفسه كشفت كل النظم عن ظاهرة موضوعية تحولت إلى قانون عام من قوانين علم الاقتصاد هو قانون تصاعد القوى المنتجة، أي النمو المضطرد والتقدم في تطورها لصالح الإنسان. غير أن هذا القانون لا يعمل في فراغ، وإنما في إطار من العلاقات الاجتماعية التي تسهل عمله أو تعرقله. وعلى مدى التاريخ تغيرت هذه العلاقات لإفساح المجال لاضطراد تصاعد القوى المنتجة. ومن هنا تغيرت النظم الاقتصادية الاجتماعية. وهكذا دلت تجربة التاريخ على حقيقة أساسية هي أن القوانين الاقتصادية مهما يكن طابعها الموضوعي فإنها تفعل فعلها وتتجلى إما عفويًا وإما بوصفها فهمًا للضرورة أي أنه يمكن استخدامها عن معرفة وإدراك.

ومن هنا تتميز الرأسمالية المعاصرة بقدرتها على التكيف، وإدراكها لموضوعية القوانين الاقتصادية للرأسمالية، وأخذ فعلها في الحسبان. ومن ثم اكتسبت هذه الرأسمالية قدرة على البقاء.

وفي هذا الإطار الجديد راحت الرأسمالية تحاول فهم الضرورة باستخدام قوانين الرأسمالية نفسها، أي محاصرة التحديات التي تواجهها والالتفاف حولها، ثم وضعها في خدمتها. فهذه الرأسمالية التي تجدد قواها الإنتاجية، وتضاعف كفاءة العمل في الإنتاج فقد استطاعت أن تتحول من أساليب الاستعمار القديم إلى أساليب الاستعمار الجديد، وأن تنشئ مجتمع الاستهلاك؛ حيث يطارد الروبوت عمل الإنسان الحي، وأن تسبق الاقتصاد الاشتراكي من حيث الكفاءة الإنتاجية، ومن حيث القدرة على تدويل الحياة الاقتصادية. إنها مرونة هائلة صارت تتمتع بها الرأسمالية المعاصرة. وهي مرونة ترجع موضوعيًا إلى مرونة رأس المال المالي نفسه، وقابليته للحركة السريعة، وقدرته على إعادة تنظيم نمط وأسلوب حياته واستثماره وسيطرته. وهو الشكل الغالب على حركة رأس المال المعاصر.

ويكفي دليلًا على ذلك أن الريع النفطي الذي كان يوزع في عام 1948م بنسبة 18% للعرب و82% لاحتكارات النفط، أصبح بعد حرب أكتوبر يوزع بنسبة 95% للعرب و5% للاحتكارات، قد عاد من جديد وفي صمت رهيب إلى مستواه قبل حرب أكتوبر نتيجة ألاعيب رأس المال العالمي بكافة أشكاله.