لابد وأنك لاحظت شيئًا غريبًا في صيف هذا العام، فالحرارة كانت أكبر من المعتاد، وبدا لوهلة أن تلك الموجات التي من المفترض أن تستمر لخمسة أيام أو حتّى عشرة ستستمر للأبد، جاء سبتمبر وتمنينا أن تهدأ الأجواء قليلًا، لكنها للأسف لم تفعل، واجهنا انخفاضًا طفيفًا في درجات الحرارة حتّى مع موجة أمطار قاسية، ثم جاء أكتوبر بنفس الوضع، ثم في نوفمبر انخفاض طفيف أيضًا في درجات الحرارة حتّى أن البعض لا زال يستخدم أدوات التبريد كالمروحة والتكييف، لكن لمَ تحدث تلك التغيرات؟

حسنًا، لنبدأ بسرد بعض الحقائق التي لا يعرفها الكثيرون، خلال حوالي 150 سنة مضت، وهي تاريخ قياسنا للمتوسيطات السنوية لدرجات الحرارة، كانت السنوات العشرة الأكثر حرارة متواجدة داخل السنوات العشرين الأخيرة، هل تصدق ذلك؟ هذا هو ما يتسبب في حالة من الهرج والمرج العالميتين، فقد أصبح ما يتوقع العلماء منذ عقود مضت، ويخفيه السياسيون في الوقت نفسه خلف أطنان من الجُمل الجدلية، أصبح حقيقة، إنه يحدث الآن.

الصيف الأكثر حرارة

لتحقيق فهم أفضل لتلك الفكرة، يمكن أن نتأمل بيان صدر من الإدارة الوطنية الأمريكية للمحيطات والغلاف الجوي NOAA في سبتمبر الماضي، ليقول إن صيف 2019 كان الأكثر حرارة في تاريخ القياس، بفارق حوالي 1.3 دردة مئوية عن متوسط القرن العشرين، في المقابل من ذلك سجلت الدول جنوبي خط الاستواء أدفأ شتاء حدث في تاريخ القياس أيضًا، لكن الأكثر إثارة للانتباه هو أن السنوات الخمس الأخيرة شهدت أكبر 5 قفزات في درجات الحرارة بالصيف، خلال قرن ونصف مضيا.

من جهة أخرى فقد سجل مركز كوبرنيكوس للتغير المناخي الشهر الماضي أكثر شهور أكتوبر حرارة في تاريخ القياس، بقارق حوالي 0.69 مئوية عن شهور أكتوبر الماضية كلها، ما يضع 2019 بالكامل في قائمة أكثر السنوات حرارة، ان لم تكن الأكثر حرارة على الإطلاق، لكن على الرغم من ذلك قد تقف لتسأل: هل 0.69 أو 1.3 مئوية هي شيء هام؟ يشبه الأمر أن تكون درجة الحرارة هي 32 مئوية فتصبح 33.3، هل يمكن أن يتسبب ذلك في ما نشعر به من فارق؟

في الواقع، فإن المشكلة الرئيسية التي تواجهنا حينما نحاول فهم هذا الاصطلاح –  «التغير المناخي» -هي أننا لا نفهم تحديدًا ما يعنيه الأمر، على سبيل المثال نتصور أن تلك النوعية من التغيرات تحدث خلال عقود طويلة بل وقرون، كذلك نتصور أن العلماء يتحدثون عن أشياء مستقبلية، من جهة أخرى فإننا نتطلع إلى تلك الفروق في المتوسطات ونقول «وما المشكلة؟»

لفهم الفكرة تخيل أن المنظومة الفلكية بالكامل هي مجموعة من الحسّاسات الدقيقة جدًا لأي صوت، وما إن ينطلق أي صوت بجوارها على مسافة 100 متر حتى تنطلق بجرس إنذار، الآن قمنا بتوزيع عدد ضخم من تلك الحسّاسات في حقل واسع على مساحة مدينة كبيرة بمسافة 50 مترًا بين كل منها، ثم قمنا بإلقاء لعبة أطفال صغيرة تصدر صوتًا طفيفًا فور الارتطام بالأرض، ألقيناها في أية منطقة من هذه المساحة الضخمة.

الأجراس الناعقة

ما سيحدث هنا هو أن تلك اللعبة ستثير بلا شك انتباه أي من الحسّاسات المجاورة لها، ثم ينطلق جرس الإنذار، والذي سيعمل بدوره على إثارة حسّاس آخر قريب، والذي بدوره سيثير الآخرين في محيطه، وهكذا – دون أن ندرك ذلك – ستكون هناك مدينة كاملة تنعق بأجراس الإنذار بسبب لعبة صغيرة جدًا لا تكاد تسمع صوتها في المنزل.

المنظومة المناخية هي منظومة متعقدة تتأثر بأبسط التغيرات، وحينما تتغير درجات الحرارة بفارق طفيف – في المتوسط – فإن ذلك يؤثر في كل أجزاء تلك المنظومة، وأهم ما فيها هو ما نسميه بحالات الشذوذ المناخي. فكلما ارتفعت درجات الحرارة بفارق طفيف، ارتفعت معدلات وشدة الموجات الحارة والموجات الباردة كذلك والأعاصير والعواصف الترابية والرملية والجفاف ونقص المياه وبالتالي حروب المياه، خلال نصف قرن مضى تضاعفت تلك الظواهر وأصبحت أكثر شدة.

لقد شهد العالم كله خلال العقدين الماضيين عرضًا غير مجاني لآثار التغير المناخي على صحة البشر، في 2010 مثلًا تسبب موجة حارة هائلة في وفاة أكثر من 50،000 شخص، بسبب الإجهاد الحراري وأمراض الجهاز التنفسي، قضت الموجة أيضًا على موسم القمح في نفس العام، مما أدى إلى خسائر اقتصادية تجاوزت 15 مليار دولار.

أما خلال شهري أبريل ومايو من العام 2015، اجتاحت موجة شديدة الحرارة الهند وقتلت 1700 شخص، في تلك الفترة أُعلنت حالات الترقب القصوى في البلاد، ورغم محاولات جاهدة تلقت البلاد في الأسبوع الأخير من الموجة ضربة قتلت 551 شخصًا، لم تمر أيام قليلة حتى ضربت موجة شديدة الحرارة باكستان في يونيو التالي وقتلت 1300 شخص في كراتشي بشكل رئيسي، ثم توغلت بعد ذلك في البلاد لتقتل 770 شخصًا، كانت تلك هي أعلى درجة حرارة حصلت عليها باكستان منذ 36 عامًا وقتها.

في العام الماضي ،واجهت بعض مناطق الوطن العربي موجات برد قاسية، قد تجد غرابة في فهم علاقة موجة باردة بالاحترار العالمي، لكن الفكرة هي أن التغير المناخي يغير من كل شيء، ويضعنا في عالم جديد لا يمكن بسهولة توقع مستقبله المناخي، وأيًا كانت حالات الشذوذ المناخي، فإنها سوف تحدث بمعدلات تتخطى ضعفها سابقًا. بالتالي، قد يكون الشتاء دافئًا هذا العام بشكل غريب، وقد يكون باردًا للغاية في العام القادم، الأمر يتعلق بالتغيّر، بنبذ الاستقرار.

أصحاب المصالح

حسنًا، في تلك النقطة ربما قد تقول: ولم لا يتدخل أحد؟ لابد وأن السياسيين يعرفون بالأمر ويشعرون بالخطر، إلا أن الأمور للأسف ليست بتلك السهولة، في تلك النقطة يمكن أن نتأمل دراسة صدرت قبل عام واحد من دورية «كلايمت تشينج» التابعة لمؤسسة سبرينجر تقول إنه بين عامي 2000 و 2016، أنفق أعضاء جماعات الضغط السياسي أكثر من ملياري دولار من أجل التأثير على التشريعات ذات الصلة بالتغير المناخي في الكونجرس الأمريكي.

ومما لا يثير الدهشة بالطبع أن القطاعات التي يمكن أن تتأثر سلبًا بفواتير الحد من انبعاثات الكربون هي من يدفع تلك النقود، إنها شركات المرافق الكهربائية وشركات الوقود الأحفوري وشركات النقل. وجهت تلك الشركات جهودًا كبيرة للضغط على جهود المنظمات البيئية وصناعة الطاقة المتجددة والمجموعات التطوعية التي تنشط في أمور مشابهة.

نحن الآن نعرف أن 97% من الدراسات في النطاق البحثي القائم على التغير المناخي تشير إلى وجود علاقة واضحة بين التغير المناخي والنشاط البشري، نعرف كذلك أن مئة شركة فقط في العالم هي المسؤولة عن بث 71% من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، الغاز المسؤول بشكل رئيسي عن الاحترار العالمي، رغم ذلك فإن الجدل السياسي هو سيد الموقف، ورغم أن هناك الكثير من الاستجابة الدولية للقضية إلا أنها أبطأ من مستوى التغير، الذي يأكل الكوكب بينما نتحدث معًا.

الآن، هل مازلت تشعر بالحر؟