إن الانتصار في معركة قد لا يعني الهزيمة الحقيقية للأعداء، فحين لا تتوفَّر العوامل الحقيقية للنصر؛ يُصبح أي نصرٍ مرحلي عملية تضليل، واستمرار للسير الخطأ، وتماديًا في طريق الوصول إلى الهزيمة الحقيقية. هكذا سار التاريخ في مراحلَ كثيرةٍ من تطوراته؛ كان النصر بداية الهزيمة، وكانت الهزيمة بداية النصر … والتاريخ في دورانه غريب، وهو يُعلمنا أنه لا توجد قاعدة ثابتة للتحول ترتكز على أسس متينة، اللهم إلا قاعدة التغيير من الداخل؛ المرتكِزَة على عقيدة لها جذورها في أعماق النفس، ولها انسجامها مع حركة الكون، ولها صلاحياتها في البقاء، والانتشار، والخلود.

عبدالحليم عويس؛ دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية، دار المختار الإسلامي، 1978.

لا تُهزم الدول لأنها شرٌ محض، بل لأنها شيخوخة حقيقية للحركة الإنسانية. والشيخوخة رغبة في السكون والإخلاد تطوي بقايا قوَّة كما تطوي عوامل ضعفٍ وانحلال، لكن طبيعتها ومعدَّل تدهور بنيتها تجعلانها عاجزة عن التجدُّد، كما يعجز أي نظامٍ بيولوجي عن تجديد نفسه حين يبلُغ شيخوخته؛ فيُعين وَهَنْ خلاياه عوامل الانحلال أكثر مما يُعين عوامل التجدُّد.

والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى؛ فما من قاريءٍ للتاريخ العثماني مثلًا إلا وهو يشهد مُتعجبًا اندفاع الدولة الحثيث، منذ عصر محمود الثاني؛ إلى حتفها كأنه قدرٌ مقدور لا حيلة لدفعه.كذا في مصر الناصريّة؛ كانت شواهد الانحلال والسقوط بارزة جليّة حتى ليلتقطها نجيب محفوظ وتتنبأ بها أعماله، بدءًا من اللص والكلاب(1961) إلى ثرثرة فوق النيل (1966)؛ ويتتبَّعها هو وغيره من الأدباء (صنع الله ابراهيم وأمل دنقل مثلًا) بلهجة عدميّة،كأنها حتميّة لا سبيل لدفعها.

وربّما لهذا السبب أيضًا تُهزم الثورات بسرعة في العصر الحديث. تُهزم لعمق ارتباطها بمنطق الدولة. فكل ثورة تسعى بسُرعة لبلوغ مقاعد النظام الذي أزاحته، لتختلط دماها بدماه، فتتسمم بنفس السُرعة التي تتوغَّل بها داخل بنية النظام/الدولة، فالقطيعة الكاملة بين نظامين حالة نظريّة موهومة لا تتحقق في الواقع. إن الثورة التي تُقوِّض نظامًا تسعى جاهدة لحل محله وملء مكانه لئلا تترُك فراغًا يُملأ بعيدًا عن أذرعها، فراغًا قد يؤثر على هيبتها وكفاءتها التقنية/الإجرائية؛ ومن ثم تُضطر غالبًا لملء الفراغ في بنية النظام بوجوهٍ ومقولاتٍ تنتمي للنظام البائد، لتُعيد تدريجيًا إنتاج نفس النظام الذي خرجت لتقوِّضه، بل وتُعيد إنتاج طبقة الملأ من سدنة النظام وكهنته والمنتفعين بوجوده.

ولن تجد ثورةً في التاريخ الحديث مرّ عليها عقدها الأول بغير ملأٍ ونخبة فاسدة تحلّ محل النُخبة القديمة التي قُتلت أو سُجنت أو نُفيت، ولا استثناء في ذلك؛ سواءكانت الثورة بلشفية أو إسلامية. وبكثيرٍ من حُسن الظن؛ يُمكن اعتبار الثورات في العصر الحديث (والمرتبطة بالدولة الحديثة) أداة غير واعية لتجديد شرعيّة الأنظمة والبنى الدولتية والمقولات السلطوية، أكثر منها أداة لاجتثاث تلك الأنظمة والبنى ومقولاتها التأسيسية من جذورها. وبعبارةٍ أخرى؛ فإن الثورات تسمح بدمج «المتمرِّدين» الجُدد في النظام القديم، ومن ثم إعادة إنتاجه بعد احتلالهم صدارة المشهد. ولذا؛ تبدو النتيجة التي تؤدي إليها الثورات مُشابهة كثيرًا لنتيجة دمج الحركات الراديكالية في الأنظمة المستقرّة تطبيقًا لمقولة “الاعتدال بالدمج”، التي أشرنا لها سابقًا (راجع مقالنا: صعود الدولة ونهاية الدعوة).

ومفهوم الثورة القطيعي، المرتبط بالدولة الحديثة؛ سببه عجز الفلسفات السياسية النظرية، منذ عصر النهضة الأوروبية؛ عن تشكيل حركات حُرة بغير بنيةٍ مُكبِّلة، وذلك لعمق تأثرها بصورة البنية الكنسيّة/المذهبية معرفيًا واجتماعيًا، برغم تفاقُم مُعدلات العلمنة. ومن ثم؛ فإن سعيها للقطيعة مع البنى القديمة، يؤدي في حقيقة الأمر لاستيعاب هياكل تلك البنى في النظام الجديد، لإعادة إنتاجها؛ إذ لا يُمكن إنتاج بنية بغير نموذج/مثال.

إن الثورة قد تتعامل مع رموز النظام القديم باعتبارهم شر محض، برغم اضطرارها للاستعانة بهم في كثير من الأحيان؛ لكنها تُعامل البنى المؤسسية باعتبارها مُطلقات محايدة إلى حدٍ ما، جاهلة أن نصف فساد النظام، أو أكثر؛ يكمُن في طبيعة البنى الدولتية نفسها وآليّات عملها. بل إن هذا «العجز الثوري» في مواجهة بنى الدولة الحديثة هو ما يضطر الثورة للاستعانة بالوجوه القديمة الفاسدة نفسها، ليُعاد إنتاج النظام القديم كاملًا بذات البنى والوجوه، وإن اختلفت الواجهة. لهذا؛ يصير «انتصار» ثورة ما ليس مُجرَّد «تقوّض» للنظام الذي سبقها، بل هو في جوهره نجاح لعمليّة دمج كوادرها «الثوريّة» في بنية النظام المتهاوي، تمهيدًا لإعادة إنتاجه بواجهةٍ جديدة؛ إنها هزيمة حقيقيّة تتخفى خلف انتصارٍ موهوم. إن الثورة تُهزَم لارتباطها بمنطق الدولة القُطرية وبناها ومؤسساتها.

إنها تُهزم بسبب عدم قُدرتها على تجاوز قفص الدولة الحديثة، ولو على المستوى النظري. صحيح أن التاريخ الحديث قد شَهِدَ محاولات ثوريّة أناركية قليلة، أشهرها إبّان الحرب الأهلية الإسبانية؛ إلا تلك اللحظات النماذجيّة نفسها تُجسِّد عجز النظرية والممارسة الأناركيتين عن تحقيق تجاوز حقيقي لميراثها الحضاري الثقيل، ولو نجحت في إبراز كل مثالبه؛ كما تُجسِّد عجز الدولة الحديثة والاجتماع السياسي الذي أفرزها.

إن النجاح الحقيقي لأية ثورة، بفرض إمكانه؛ لا يُمكن أن يتحقق من خلال السعي لإطالة عُمرها كما حاول الأناركيون وغيرهم من الطوباويين، فالثورة لحظة نماذجية قصيرة جدًا بطبيعتها؛ لا تطول ولا تدوم. كما لا يتحقق ذلك النجاح بمحاولة تأسيس دولة “جديدة” من رحم الثورة؛ بل بالانصراف عن مهمة بناء الدولة ونظامها (من أعلى) إلى إعادة تأسيس الاجتماع الإنساني (من أسفل) على قيمٍ جديدة، بعد زعزعة سلطة الدولة/الطاغوت، على أمل أن يُفرز هذا الاجتماع دولته حين يبلُغ ذروة حركته. وهذا وعي يطفر أحيانًا وبشكلٍ مبتور من بعض التجارب الأناركية، لكنَّه أكثر نُضجًا بكثير في التاريخ والممارسة الإسلاميّة؛ كما سنُبيِّن في مقالٍ لاحق.

إن أية ثورة تبغي تحقيق تغيير حقيقي في وجهة المجتمع وقيمه يجب أن تصرف أنظارها عن بنية الدولة الحديثة وإدارتها، اكتفاءً بتقويض قبضتها الأمنية والحدّ من تغوّلها اللاإنساني في كل شيء؛ لتُنفِق الثورة جهدها في تشكيل إجتماعٍ إنسانيٍ جديد على قاعدة الإجماع الجماهيري الذي حققته، وذلك بتمدُّدها في الفراغات التي خلَّفتها الدولة في مُستويات الهرم الدُنيا.

وبعبارةٍ أخرى؛ يجب ألا تتورَّط الثورة، التي تُريد تحقيق نجاحٍ حقيقي؛ في إدارة الدولة بأي شكل، بل تَكِل ذلك للنظام القديم بشروطها وتحت رقابتها، مع الاحتفاظ بمسافة مناسبة لا تورِّطها أبدًا بشكل مُباشِر في دوامات الأزمات اللانهائية التي تُعانيها الدولة المهلهلة بسبب تغلغل الفساد وانعدام الكفاءة. وقد يكون توصيف الجيوب الثورية في هذه المرحلة الانتقالية بـ«جماعات الضغط» مما يُقرِّب المسألة لأذهان التكنوقراط ومعدومي الخيال؛ جماعات ضغط لا تتصارع على غنيمة السلطة، ليس لأنها فوق السلطة بقُدراتها في حقيقة الأمر؛ بل لأن السُلطة في هذه الحال غُرمٌ مميت.

إن الثورة لا ينبغي أن تتكلَّس في دولةٍ فاشلةٍ عجوز بطبيعة تكوينها، فتُبدد طاقتها الثورية الدافعة في محاولة إدارة واستنقاذ الدولة من مصيرها المحتوم، بطلاء وجهها بمساحيق التجميل الأيديولوجية أو حتى بإطلاق لحيتها؛ بل يجب أن ينحلّ الزخم الثوري لحركات اجتماعية تُعيد توجيه دفّة المجتمع وبناء قواعده ومؤسساته الأهلية الوسيطة. بمعنى أن يصير كُل خصمٍ من رصيد الدولة وسُلطتها؛ زيادة حقيقيّة في القُدرة الاجتماعيّة، وليس في ضراوة تسلُّط مجلسٍ ثوري موهوم أو قيادة «ثورية» تسطو على السلطة من أعلى، وتُعيد إنتاج النظام من جديد، ولو بواجهةٍ أكثر «ديمقراطية»!

إن الحركة الاجتماعيّة في هذا التصوّر قد تكون بديلًا للثورة، وقد تصير امتدادًا لها؛ فربّما تتآكل سُلطة الدولة وحدها، لأي سبب؛ تحت ضغط الحركات الاجتماعية الوسيطة، وقد تحتاج الدولة لهزة ثورية تنزع منها سلطاتها أو بعضها، لحساب فاعلين اجتماعيين أعمق أثرًا، وأبعد عن الشبكة الرأسمالية السامّة قدر بُعدهم عن مُباشرة السُلطة. لكن المهم ألا يتبع ضرب النظام الفاسد محاولة بناء نظام جديد مكانه على الفور، وخصوصًا من أعلى؛ بل يجب أن تؤدي خلخلة النظام القديم لتفتيت السُلطة بين الدولة وحركات اجتماعيّة غير منشغلة بالقفز على قمة الهرم، بقدر انشغالها بالاضطلاع بدور حقيقي في قاعدته.

وإذا كانت الثورة لحظة تفلُّت نماذجية، وعابرة؛ من البنى والنواميس كافّة، فإن الحركة هي صيرورة التزام قصيرة، نسبيًا؛ بإعادة تأهيل المجتمع «المتفلِّت» قبل التفكير في بناء نظام جديد يحتاج حتمًا لقواعد قيمية جديدة ومُستقرّة. والحركة بهذا المعنى مُكمِّلة للثورة، وليست مُجرَّد بداية أو تمهيد لها؛ فمهمتها الأكبر هي إعادة تأسيس الاجتماع الإنساني بعد خلخلة النظام القائم وتقويض العقد الاجتماعي القديم. والثورة بهذا المعنى لا تصنع تغييرًا سياسيًا محدودًا؛ بل تُعبِّد الطريق لتغيير وجداني ومعرفي واجتماعي أعمق، تضطلع به الحركات الاجتماعية في مجتمع تهيأ لذلك ابتداءً.

إن الثورة في حقيقة الأمر تعبيرٌ عفوي وراديكالي عن رفض الواقع، لكنها في الغالب الأعم لا تملك تصورًا حقيقيًا، وما ينبغي لها؛ لما يجب أن يكون عليه ذلك الواقع. ومن ثم فيُمكن، ببعض التجوّز؛ تشبيه دور الثورة بدور الجهاد في الدعوة الإسلامية الأولى. إذ يقتصر دورهما على تقويض الطواغيت التي تحول دون انسياح الدعوة؛ سواء تجسَّدت تلك الطواغيت في أفراد أو مجموعات نخبويّة أو بنى مؤسساتية. والجهاد بهذا المعنى يتجاوز حتمًا تلك الصورة الاختزالية الطوباوية، المتمثِّلة في الأيديولوجيات الجهادية الحديثة؛ التي تتعامل مع الجهاد باعتباره صيرورة دعوية، وليس مُجرَّد أداة دعوية بين أدوات أخرى، وهي نفس الذهنية التي يتعامل بها الطوباويون، وأصحاب الأيديولوجيات اليسارية الراديكالية؛ مع مفهوم الثورة.

إن الانتقال من الثورة إلى الدولة مباشرة، بغير المرور بمرحلة مخاض يتبلور خلالها إجماع حقيقي على وجهة المجتمع ومنظومة قيمه؛ لن يؤدي فقط لإعادة إنتاج النظام القديم، بل سيُقنن فساد الجيوب والمجموعات الثورية، التي كان بمقدورها الاضطلاع بدورٍ حركي ومعرفي نافع؛ قبل رشوتها بالدمج في بنية النظام المتهاوي.

إن انتصار ثورةٍ ما يجب ألا يدفع الفاعلين الاجتماعيين للهاث جريًا خلف جني «مكاسب» سقوط شرعية النظام القديم؛ سواء نتج عن ذلك دمجهم كُليًا في النظام «الجديد»، أو حتى وضعهم في صدارة المشهد ليتلقّوا اللوم الجماهيري نيابة عن النظام الفاسد، الذي يتخفّي بقناع الثورة. إن النجاح الحقيقي لأية ثورة يعني أن ينتقل الفاعل الاجتماعي من مرحلة تقويض البنى والقيم القديمة لمرحلة تأسيس قيمة جديدة، وليس بنية؛ فالثورة مُجرَّد خطوة أولى على الطريق، وليست هي منتهاه. إن الانشغال بجني مكاسب وغنائم أية الثورة يعني أنها فشلت فعليًا، فلا يُمكن أن تُثمر الثورة إلا قدرًا من الفراغ المؤسسي والقيمي، يزيد وينقُص تبعًا لإمكاناتها؛ وهذا الفراغ ليس مكسبًا أو ثمرة إلا في عيون الحمقى والانتهازيين فقط؛ فملء الفراغ مهمة أشق كثيرًا من التسبُّب به، خصوصًا إذا كان الوعي بخطورة استعادة البنى القديمة حاضرًا بقوة، مثله مثل الوعي بخطورة القيم المنحطة والوجوه التي كانت تحفظها وتُقننها.

إن الحركة، التي تَخلُف ثورة؛ ستتجاوز النظام القديم ليس لأنها خيرٌ محض، بل لأسبابٍ موضوعيّة لا تستطيع الدولة بطبيعتها تفاديها، حتى لو ورثت الثورة بصورة “شرعيّة”! إن الحركات تستطيع تجاوز عوامل تآكُل الحركية والفعالية الاجتماعيّة لحساب البنية المؤسسية، لأجلٍ؛ وهي عوامل الشيخوخة التي لا تستطيع الدول مقاومتها أصلًا بطبيعة بنيتها. وسنستعرض هنا خمسًا من أهم عوامل فشل الدول الحديثة وهزيمتها، والتي يُمكن للحركات، المتترسة بأنظمةٍ قديمة؛ تجاوزها بسهولة للحفاظ على فعاليتها لأطول فترة ممكنة.

أول هذه العوامل هو دوام لجوء الدول بطبيعتها للحلول الأمنية الفاشية، ليس إظهارًا لسُلطتها فحسب؛ بل لتخوّفها الشديد من أية حركة حُرّة ليست لها مصالح ومكتسبات تسمح بابتزازها (لمزيد من التفاصيل راجع مقالنا: في النظام والثورة)، والحركة الاجتماعيّة التي تتبلور من جيب ثوري ليس لها مصالح ومكتسبات مباشرة تُضعفها، بل إن إنجازها الأهم هو إنجاز معرفي واجتماعي ووجداني، أو «استثمار» إنساني لا تنعقد عليه اليد؛ فلا مقاعد برلمانية ولا تجارة مُتضخمة ولا تحالُفات حزبية، ولا حتى بنية هرمية حزبية يُمكن تقويضها؛ باختصار هي لا تملك أية حصّة من النظام القائم تضطرها اضطرارًا للتفاوض على قيمها وفعاليتها الاجتماعية، وهذا هو أهم مكامن القوة.

ويتمثَّل ثاني عوامل فشل الدول «الثورية» في نجاح استدراجها إلى حربٍ خارجيّة تُقوِّض مشروعها وخطابها لحساب مقولات وضعية (طائفية أو عرقية أو مذهبية)، وتدفع بها دفعًا ل«الاعتدال»، بمعايير العدو؛ حرصًا على مصالح الدولة وهيبتها (إيران أنموذجًا). وبعبارةٍ أخرى؛ فإن الدولة التي ترث ثورة هي أكثر عُرضة من غيرها للغزو والاستدراج إلى حربٍ تشغلها تمامًا عن مشروعها الداخلي، بل وتجعلها أكثر براغماتية وأقل قطيعية مع النظام البائد وحلفاؤه الخارجيين.

لكن الحركة التي تحمل القيم الجديدة إلى أدنى الهرم الاجتماعي، بالقصور الذاتي الثوري؛ لا يُمكن النيل منها بجرّها إلى حربٍ خارجية، لمفاصلتها النظام السياسي نسبيًا؛ فالوجه المتصدِّر في السلطة مخالف لوجهها، وقد يكون مُناقضًا؛ لكنه محدود السلطة وبراغماتي بذات الوقت، ومن ثم فهو إن عجز عن قمع الحركة داخليًا إلا أنه يوفِّر لها برغمه أمانًا خارجيًا، نسبيًا؛ بسبب تبنّيه الكامل لمنطق الدولة وعنجهيتها، وإن كانت ديبلوماسيته أكثر نعومة.

أما العامل الثالث لفشل الدول فهو حتميّة احتشاد الملأ في مواجهة الدعوات/الحركات، لتصير الدول «الثورية» هدفًا سهل المنال؛ يُمكن حصارها داخليًا وقطع الحبل السري المالي الذي يُغذيها. أما في حال مفاصلة الحركة للسلطة؛ فإن ذلك يُضعف الملأ لدرجة تفضيل بعضهم البقاء داخل النظام بكل وهنه، أو الهجرة نهائيًا؛ أما من يُبقى منهم على بأسه، فسوف يظل وحيدًا، ويُفترض بديبلوماسية النظام الناعمة أن تحول دون استعداء هذه القلة لقوى أجنبية، أو تشجيعها لغزو الدولة واستعادة «التوازُن» القديم.

لكن يتعيَّن على الحركة أن تكون حينها على أهبّة الاستعداد بإجماع قيمي جارف، فقد ينجح بعض الملأ آخر الأمر في استدعاء القوى الأجنبية التي عطّلتها الدبلوماسية لبعض الوقت. إن الإجماع الحقيقي هو الذي سيواجه الغزو ويردّه كما حدث في حملة فريزر التي صدّها عوام المصريين. إن التحديث كعلمنة هو بطبيعته آلة تفتيت للإجماع القيمي، ولو امتلكت جمهورية إيران الإسلامية إجماعًا كافيًا؛ لربما استطاعت هزيمة العدوان البعثي، لكن الزخم الثوري لم يُحقق إجماعًا على وجهة المجتمع بقدر ما كان مُتوافقًا على تقويض نظام الشاه؛ لذلك استنزفت الحرب إيران طويلًا، وكانت أداة ناجعة في دفعها باتجاه فاشية الدولة، بدلًا من إعادة تأسيس الاجتماع الإيراني على مهل. فالبنى بطبيعتها أحادية الرؤية والوظيفة، ولا يُمكن أن تتورَّط دولة في حرب وحصار تجويع، وتظل وفية لمهمتها الثورية الأصلية في إعادة تأسيس قواعد اجتماعها الإنساني!

وتتكاثف العوامل الثلاثة الأولى لتُمثِّل جدلية تقود إلى العاملين الآخرين. إذ يبدأ خطاب الدولة بالجنوح لتبني مفهوم دولتي مادي ل«المصلحة العامة» في مُقابل الحقيقة أو القيمة المتجاوزة التي يُفترض حملها للمجتمع، وهو العامل الرابع من عوامل انهيار مشروعية النظام الذي يرث ثورة. إذ أن تخليه الضمني عن الحقيقة، التي يضيق فيها باب التأويل وينفتح باب المكابدة؛ في سبيل مصلحةٍ موهومة، تنفتح فيها أبواب التأويل على مصراعيها وتضيق أبواب المكابدة؛ لا يُقوِّض فقط خصوصية الثورة ووظيفتها الاجتماعية والمعرفية، التي تكلها للحركات التي تُفرزها؛ بل يؤدي لظهور العامل الخامس والأهم من عوامل هزيمة أية دولة، وتقوّض ثورتها؛ وهذا العامل، في نظرنا؛ هو الإعلان الحقيقي لهزيمة الثورة/الحركة على يد الدولة التي احتضنتها، ويتمثَّل في شروع الدولة بصياغة مقولاتها اللاهوتية التأسيسية التي يتم مدَّها من المجال السياسي إلى المجال الديني؛ لتأصيلها وإكسابها مزيدًا من العُمق والفعالية.

ويُطلق علي شريعتي على هذه العملية «استخدام دين ضد الدين»؛ أي ظهور وبلورة دين مؤسسي/دولتي يتم استخدامه ضد الدين الحق. صحيح أن الدين المؤسسي/الدولتي يطوي كثيرًا من مقولات الدين الحق، إلا أنه يفتقد للخاصية الأهم على الإطلاق: تمام إسلام الوجه لله. إذ أن وجهة الدين المؤسسي لا يُمكنها التولي عن الدولة/الوطن/الجغرافيا بحال، وما توظيفها للديباجات الإسلامية واستخدامها للفظ الجلالة إلا من قبيل التضليل، أو التعوّد؛ بافتراض حُسن الظن.

إن الدول تُهزم لأنها تضطر، عاجلًا أو آجلًا؛ لتأصيل دينها/وجهتها المختلقة، ولو تجاوزت بذلك أصول الإسلام. إن اللاهوت الذي تُلفِّقُهُ لتأصيل وجودها يُعلن موت الثورة والمجتمع والإنسان. إن حركة الملأ الموهومة ضد الحقيقة، ومع مصالحهم الخاصة، التي يُوهم الدهماء أنها مصالح عامة؛ وتدشين لاهوت ديني-سياسي جديد يؤصل لهذه الصيرورة ويحميها هو أهم ما يُفرِّق الدول عن الحركة الإسلامية. إن الحركة الإسلامية لا يُمكنها اختلاق لاهوتها الخاص الذي تُجسِّده بعض «المنجزات المادية» ولو كان في ذلك بعض «انتصارها» الدنيوي، فهي تحمل قيمة متجاوزة بشكل متجرِّد، وأقصى تجسيد لهذه القيمة هو سلوك الحركة نفسها؛ الحركة التي لا تبتغي شيئًا على الإطلاق سوى وجه الله، فهذا هو تمام معنى إسلام الوجه لله.

وإذا كانت الدولة تختلق هذا اللاهوت كرد فعل على الحركات المناوئة لها، فإن الحركة الإسلامية تسقُط عنها صفتها الحركية والإسلامية بالكليّة إن انجرفت لنفس المسار؛ لترتكس إلى الحزبية المذمومة. إن الحركة الإسلامية سلوك إلى الله لا يكترث فيه المجتمع السالك بأي شيء، ولا تصدُر عنها أية ردود أفعال اجتماعيّة تُشتت كمال تسليمها بين يدي الله. إن الحركة الإسلامية تبدأ من الوحي فقط عروجًا إلى الله، وهو ما سنبسطه في مقال لاحق إن شاء الله.