محتوى مترجم
المصدر
Open Democracy
التاريخ
2019/6/28
الكاتب
جريجوري أسمولوف

لو كان هناك إنترنت عام 1986… هل لك أن تتخيل تداعيات حدث مثل انفجار مفاعل تشيرنوبل؟

أولًا، كنا لنرى الشائعات تنتشر كالنار في الهشيم عبر «فيسبوك» ورسائل على قنوات مجهولة الهوية على تطبيق «تليجرام»، تقول شيئًا على غرار «شيء ما انفجر في مكان ما»، ثم يتبع ذلك ظهور صورتين باهتتين متلاصقتين، إحداهما لسماء حالكة، والأخرى لسماء مضيئة بوهج ما يبدو أنه انفجار.

ربما تجد بعد ذلك مقطع فيديو على «يوتيوب» سُجل من سطح منزل ما في مدينة بريبيات، وتُسمع فيه صافرات إنذار، ولكن دون أن يظهر فيه أي شيء بوضوح، ثم يحتل وسم (#Chernobyl) مرتبة متقدمة كأحد أكثر الوسوم استخدامًا في تغريدات «تويتر».

ربما تبلغ أسماعنا أنباء عن قطع خدمة الإنترنت في منطقة الحادث، لكن ما كان ذلك ليقطع تدفق سيول الأخبار، بل ربما يزيد من غبار الشائعات أكثر، ثم يبدأ النشطاء البيئيون والحضريون بنشر بيانات مستقاة من أجهزة استشعار موزعة لمراقبة البيئة.

ربما تظهر مجموعة من شهود العيان على موقع فكونتاكتي (Vkontakte) الروسي للتواصل الاجتماعي، ثم ينشئ أحدهم صفحة على الإنترنت مخصصة لجمع المعلومات عن الانفجار من مصادر مختلفة.

وأخيرًا، بعد ساعات معدودة ربما تجد السلطات نفسها مجبرة على إصدار بيان، حتى ولو بعبارات مقتضبة، مثل «ليس هنالك خطر جسيم» أو «الموقف تحت السيطرة الكاملة»، وقد يُسمح لمراسلي التلفزيون الرسمي الروسي بدخول محطة الطاقة النووية لمتابعة وبث إجراءات السيطرة على الموقف، بل قد تُوَجه دعوة لمدون شهير ما للحضور بنفسه، من أجل إضفاء بعض المصداقية على الرواية الرسمية.

«إتش بي أو» تثير الجدل داخل روسيا

في ظل وجود تكنولوجيا معلومات حديثة، كان من الصعب اليوم ضرب نوع من الحصار المعلوماتي كالذي فرضته السلطات السوفييتية للتكتم على حقيقة ما جرى في تشيرنوبل. لكن الفوران غير المسبوق في ردود أفعال متابعي النسخة المترجمة إلى الروسية من مسلسل «تشيرنوبل»، الذي أنتجته شركة «إتش بي أو»، يشي بأن قصة الحادث تتعلق بشيء أعمق بكثير من مسألة الحقيقة التاريخية.

ولقد يبدو أن الوقائع التي جرت بين شهري أبريل/نيسان ومايو/أيار من العام 1986 مُسجلة في كتب التاريخ، وأن المعلومات حول ما حدث في المفاعل رقم 4 من محطة تشيرنوبل للطاقة النووية متاحة في متناول الاطلاع، إذ أُنتج عدد ضخم من المواد الوثائقية في أوكرانيا وروسيا وبقاع أخرى عن الواقعة.

رُفعت السرية عن كثير من وثائق الحادث، وسرد مئات الشهود والمشاركين عددًا لا يُحصى من الروايات عما حدث، على أن «انفجار تشيرنوبل» آخر وقع من جديد، هذه المرة في منصات التواصل الاجتماعي، إثر عرض مسلسل شركة «إتش بي أو» القصير.

وبالطبع فإن أي محاولة يضطلع بها مراقبون من الخارج لرواية نسخة من تاريخنا ستثير عاصفة من الجدل، وستفتح الباب لا محالة إلى نقاش حول موثوقيتها التاريخية.

ثمة نقطة تسترعي الانتباه بشكل خاص في هذا الصدد، وهي مدى قدرة المراقبين من الخارج على تفادي الوقوع في فخ الصور النمطية، وفهم دقائق الحياة اليومية وأوزان الشخصيات الرئيسية التي لعبت أدوارًا في الحدث، وإبراز العلاقات التي جمعت بينهم بكل تركيبيتها وتعقيداتها. وقد أثيرت تلك المسائل كلها في الإعلامين الروسي والأجنبي.

فوق ذلك، يصعب تجاهل حقيقة أن صناع المسلسل الأمريكيين قد نجحوا في خلق حالة من الجدل حول أمور أبعد من التحليل المنطقي لمدى صدقية ودقة وقائع معينة. وصف بعض مشاهدي المسلسل شعور الصدمة الذي اعتراهم والغصة التي آلمت حلوقهم، وبعضهم تحدث عما أصابه من أرق وكرب، وقال آخرون بعد مشاهدتهم الحلقة الأولى، إنهم لم يجرؤوا على مشاهدة بقية المسلسل.

ما بين صناعة «الإفصاح» و«التكتم»

في كتابها «سياسة التكتم: المعرفة العامة حول الآثار الصحية للإشعاعات بعد تشيرنوبل»، لفتت «أولجا كوتشينسكايا» الانتباه إلى حقيقة أنه «لأن كمية الإشعاع المسربة لم تكن قابلة للقياس حسيًا، فإن معرفة المرء بها كانت دائمًا من مصادر خارجية»، سواء أكانت خرائط الإشعاع، أم الإعلام، أم أشكال مختلفة من التصورات والروايات، وفقط عبر هذه المصادر يغدو الإشعاع مرئيًا.

السؤال الآن هو: كيف خُلقت هذه التصورات والروايات؟

وتجيب كوتشينسكايا بأن موجات من «الإفصاح» و«التكتم» تتالت علينا لسنوات من بعد الكارثة، ولم تزل «صناعة الإفصاح» في صراع مع «صناعة التكتم»، والنصر في هذه المعركة تحسمه المصادر المتاحة لكل من أنصار الإفصاح ومعارضيه.

والتكتم الذي تحدثت عنه كوتشينسكايا لا يعني بالضرورة غياب أو إخفاء الحقائق، فعلى النقيض من ذلك، قد يتم إنتاج مادة وثائقية تقدم وصفًا منطقيًا لحدث تاريخي معين «لم يحدث هنا» أو «لم يحدث لنا»، وهذا بحد ذاته ضرب من ضروب سياسة التكتم.

يمكن أيضًا لتصريح حول حدث ما أن يكشف كيف يكون وصف كارثة ما جزءًا من التكتم على المعلومات بشأنها، على غرار تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول فاجعة الغواصة كورسك عام 2000، الذي قال فيه باقتضاب «لقد غرقت».

يمكن اعتبار التكتم نوعًا من الرواية المشفرة التي تملأ المسافة بين المتلقي والحدث، لكن ما تفعله صناعة التكتم حقًا هو توسيع المسافة باستمرار بين المتلقي والحقيقة، مع كل تصريح جديد. ومن الصعب بمكان لأي شخص داخل منظومة صناعة التكتم أن يتجاوز حدود ما هو مُفصح عنه رسميًا.

لذا، فالإجابة عن السؤال الذي يراود الجميع؛ سؤال «لماذا لم نستطع نحن الروس إنتاج مسلسل كهذا؟» هي: «وحدهم الأجانب يمكنهم رؤية الجوانب الخفية من حياتنا».

تسرب إشعاعي جديد

إن سياسة التكتم قد أفلحت، ليس في بناء معرفة موضوعية حول طبيعة الإشعاع، وإنما في منح الناس شعورًا بالسلامة الشخصية، وقد وصف أولريتش بيك، الباحث الألماني الذي صك مصطلح «مجتمع المخاطرة»، وصف كارثة تشيرنوبل بأنها «صدمة أنثروبولوجية» كشفت لنا أنه «لا يعمى عن الخطر أكثر من هؤلاء الذين يثقون في عيونهم».

لقد استطاع مسلسل تشيرنوبل رواية المأساة بطريقة لو تسنى لنا معها قياس عواطفنا باستخدام مقياس الجرعات الإشعاعية، لاكتشفنا أنها تحتدم بجموح؛ فنحن في الحقيقة قد تلقينا جرعة من إشعاع حادث تشيرنوبل بعد 30 عامًا من وقوعه، بينما نحن جالسون نحدق في شاشاتنا.

أصبح المسلسل في الواقع محفزًا لمتلازمة ما بعد الصدمة، واكتسب تأثيره قوة خاصة بالنسبة لمن كانوا أطفالًا عندما وقعت الواقعة؛ فالمسلسل الذي صنعه الأمريكيون كشف لجيل الفيسبوك في روسيا أننا جميعًا «أطفال تشيرنوبل».

نجح المسلسل في تقويض سياسة التكتم، التي استمرت حتى بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، تمامًا كما استمر الإشعاع نفسه، وضاعفت منصات التواصل الاجتماعي عنف الصدمة أضعافًا، وأصبح رد الفعل الجماهيري بحد ذاته آلية لنشر المعلومات حول المسلسل.

إن حجم وطبيعة رد الفعل على مسلسل تشيرنوبل لم يعكسا حجم إنتاجه (وهو ضخم للغاية بالمناسبة)، بقدر ما عكسا مدى فعالية سياسة التكتم على الكوارث؛ فعمر النصف للصمت أطول من عمر النصف للذرات المشعة.

لقد استطاع المسلسل الأمريكي، حتى مع العوار المحتوم في دقته التاريخية، أن يبرهن للجمهور المتحدث بالروسية على أن كارثة تشيرنوبل لم تزل حاضرة بقوة هنا والآن، وأنه حري بها أن تقض مضاجعهم.

إن عملًا من هذا النوع يعطي دفعة لقوى الإفصاح، ويستثير في الوقت ذاته رد فعل من المعسكر المضاد، وقد بدأت «آلة التكتم» التحفظية تهدر من جديد بالفعل، مطلقة فيضًا من الانتقادات للمسلسل، انحطت إلى مستوى المحاججة بأنه ليس سوى عمل آخر من أعمال الحرب المعلوماتية ضد روسيا، على نحو يعيد إلى الأذهان محاولات التكتم على حجم الكارثة نفسها قبل أكثر من عقود ثلاثة.

تلت موجة الانتقادات مطالبات لهيئة تنظيم الاتصالات الحكومية الروسية «روسكومنادزور» بحظر عرض المسلسل، ومطالبات أخرى بمحاكمة صناعه بتهمة الاحتيال الفكري والتشهير.

تعرية أعصاب الدولة الروسية

وعلى ما يبدو، لم يكن الموضوع الحقيقي للمسلسل هو كارثة تشيرنوبل بحد ذاتها، وإنما تعرية أحد أكثر أعصاب الدولة الروسية الموروثة من العهد السوفييتي حساسية، وهو افتقارها إلى مهارات الاتصال الجماهيري في أوقات الأزمات.

تشكل مواقف الأزمات اختبارًا للعلاقة بين مؤسسات الدولة والمجتمع، وتلعب دورًا أساسيًا في تحديد المحرك لتلك العلاقة. ووفقًا للباحث في مجال إعلام الأزمات سيرجي صامويلنكو، تؤدي السلطات الروسية دائمًا دورًا مزدوجًا، فهي لا تدير الأزمة فحسب، وإنما تخلق المخاطر كذلك.

يغلب أن يتحول كل إخفاق لسياسات الاتصال الجماهيري في أوقات الأزمات إلى مصدر أزمة جديدة، ويمكن القول، إن تاريخ روسيا الحديثة هو، إلى حد بعيد، تاريخ هذا النوع من الأزمات، أو، إن أردنا الدقة، تاريخ تحول أزمات مرتبطة بكوارث من صنع البشر إلى أزمة علاقة بين الحكومة والمجتمع.

كان ذلك واضحًا بجلاء في مأساة الغواصة كورسك، التي بدت محاولة بوتين للتقليل من شأنها مفضوحة في عبارته المقتضبة «لقد غرقت»، والتي صارت رمزًا ومثالًا لعملية صناعة التكتم.

تكرر الأمر لاحقًا مع أزمة احتجاز رهائن مسرح موسكو عام 2002، وأزمة احتجاز رهائن مدرسة بيسلان عام 2004، حيث اكتسبت صناعة التكتم دفعة إضافية إلى الأمام (ويمكن ضرب مثال بفضيحة فصل راف شاكروف، رئيس تحرير صحيفة «إيزفيستيا»، بتهمة التغطية المفرطة في عاطفيتها لمجزرة بيسلان).

من بين الأمور التي يتنبه لها جيدًا صناع التكتم عدد الضحايا، سواء الوفيات أم الإصابات، في حادث ما، أو كارثة طبيعية، أو نتيجة المشاركة في عملية عسكرية.

لقد كانت استجابة السلطات الروسية لحرائق الغابات الضخمة في صيف عام 2010 مثالًا حيًا لكيفية تحول حالة القوة القاهرة إلى أزمة علاقة بين الدولة والمجتمع؛ ففي حين رددت وسائل الإعلام التقليدية أن الحرائق تحت السيطرة، شرعت المدونات وشبكات التواصل الاجتماعي تُطلع المواطنين الروس على الحجم الحقيقي للكارثة، بمبادرات فردية لتقديم المعلومات.

فضلًا عن ذلك، لم يتح الإنترنت مجالًا أرحب للإفصاح ومساءلة الرواية الرسمية للدولة فحسب، إنما وفر منصة اجتماعية للتعبئة من أجل الاستجابة للأزمة، بعدما فشلت الدولة في الاستجابة بشكل كاف أو مناسب.

الكارثة الحقيقية تكمن في مواجهة الجماهير

تواجه معظم الدول مصاعب جمة في أوقات الأزمات، أكانت طبيعية أم من صنع البشر، على أن الاختلاف يكمن بالضبط في طريقة استجابة الدولة للتحدي. والأمر لا يتعلق بالإجراءات التي يجري اتخاذها لمعالجة الأزمة، وإنما بكيفية إدارة الاتصال الجماهيري في وقت الأزمة.

وفي الحالة الروسية، لا تغدو سياسة التكتم مسألة إخفاء معلومات أو محاولة مبتذلة للتملص من المسئولية فحسب، فجوهر المشكلة يكمن في حقيقة أن الدولة لا ترى أن التحدي الرئيسي أمامها هو الكارثة نفسها، وإنما الطلب الجماهيري على الشفافية وتعبئة الموارد لتعويض عجز الدولة وانعدام كفاءتها.

وهكذا، ففي خضم أزمة حرائق الغابات عام 2010، تحول انتباه الدولة بالكامل من الكارثة نفسها إلى الموقف الاجتماعي، بل إنها أعلنت أن المتطوعين للاستجابة للكارثة هم مصدر التهديد الرئيسي.

تكرر الموقف بحذافيره تقريبًا مع مأساة حريق مركز «وينتر تشيري» للتسوق بمدينة كيميروفو العام الماضي، 2018، حين اتُهم ذوو الضحايا بتعمد تشويه السلطات وإضعاف الثقة فيها.

لقد صارت حادثة مفاعل تشيرنوبل شيئًا من الماضي، لكن آليات الاستجابة للكوارث لم تتبدل كثيرًا؛ فلم تزل قوى التكتم تجاهد كي تضرب ستارًا بين الكوارث الطبيعية أو البشرية والوعي العام، على أن ظروف بيئة المعلومات الحديثة تعقّد مهمة تمويه المعلومات، وتجبر قوى التكتم على التنازل وتغيير مسلكها.

واليوم، لم يعد ممكنًا لصناعة التكتم أن ترتكز على جهد بسيط لإخفاء المعلومات، كما كان الأمر قبل 30 عامًا؛ ففرض التكتم بات يتطلب الآن إجراءات أكثر صرامة وقمعية، وعمليات معقدة للتلاعب بالمعلومات وتشويه مصادر المعلومات البديلة.

وبعبارة أخرى، ففي حين كان جل ما يقتضيه الأمر في الماضي هو أن تحكم الدولة سيطرتها على تدفق المعلومات، بات الأكثر أهمية وإلحاحًا اليوم إبقاء الدولة أعينها مفتوحة على خصومها في أوقات الأزمات.

بالنسبة للجمهور الروسي، وربما حتى دون أن يعي، لم يكن مربط الفرس في مسلسل تشيرنوبل هو الأحداث التي وقعت في الماضي، وإنما قوى التكتم التي لم تزل تعمل بطاقتها القصوى حتى يومنا هذا.

في مجتمع المخاطر الذي بدأت ملامحه – مثل انتشار سحابة إشعاع تشيرنوبل- تتكشف في حياتنا اليومية، لا يجب أن يكون فقدان الشعور بالأمان هو الهم الشاغل الوحيد، وإنما الحاجة الأساسية إلى التكيف مع الحياة في عالم من الشك المتعاظم؛ عالم نفقد فيه سيطرتنا تدريجيًا على ما يجري.

إن النجاة في عالم كهذا تعتمد على ثقتنا في أولئك الذين سيهرعون لنجدتنا في الأزمات، إن لم يكن على الفرار من الخطر ثم محاولة فهم ما حدث على الأقل، ولا يمكن بناء هذا النوع من الثقة في أنظمة سياسية-اجتماعية تتولى قوى التكتم مقاليد سلطتها.

وهكذا، فإن تأثير مسلسل تشيرنوبل لم يكن موجة من الماضي عبرت الزمن إلى الحاضر، وإنما هو الشعور بالهشاشة الوجودية في مواجهة المستقبل، والوعي المتجدد بأنه إذا ما وقعت كارثة، فإن الشخص الوحيد الذي يمكنك الثقة به والاعتماد عليه هو أنت.