«باب المغاربة» و«حارة المغاربة» و«زاوية المغاربة» و«جامع المغاربة»، مصطلحات ملتصقة بالحرم القدسي تاريخيًّا وجغرافيًّا، تعبر عن مغاربة مسلمين وصلوا الجغرافيا من ساحل المحيط الأطلسي إلى قلب الشرق الأوسط في فلسطين، ووصلوا التاريخ من زمن الصليبيين إلى زمن الصهاينة.

حكاية ربما أرادت إسرائيل القضاء عليها في 11 يونيو 1967 بعد أن استولت على مدينة القدس بيوم واحد، حين شرعت في هدم حي المغاربة واستولت على ما يعرف بمفتاح باب المغاربة، تمهيدًا لفتح الطريق أمام حفريات أسفل المسجد الأقصى، وليمارس اليهود بكاءهم بكل أريحية أمام ما يظنون أنه حائط مبكاهم.

المغاربة في القدس لهم قصة طويلة اختلط فيها التصوف بالجهاد، واندمج فيها الحج بالقتال. بدأت هذه القصة منذ الحملة الصليبية الأولى (492هـ – 1099م)، وتوطدت في زمن السلطان صلاح الدين الأيوبي، واستمرت حتى عصرنا، ونحاول هنا الإضاءة على أبرز ملامحها فيما يلي.

بداية الجهاد المغربي في فلسطين

حين احتل الصليبيون القدس في حملتهم الأولى كان هناك عدد من المغاربة المجاورين للحرم القدسي أو يزورونه، وكثير منهم راح ضحية المجازر التي ارتكبها الصليبيون، حيث قدر البعض مقتل حوالي 70 ألفًا من أهالي المدينة على أيديهم.

وكانت القدس مركزًا مهمًّا للتصوف الإسلامي، حتى تجرأ البعض وسماها «عاصمة التصوف» لكثرة الزوايا والخلوات التي كانت مأوى للصوفية بها.

كانت فكرة مجاورة الأقصى، أي الجلوس للعبادة فيه والسكن بجواره، محببة عندهم وعند الصحابة الفاتحين من قبلهم، لما ذكر من أحاديث نبوية عن فضل العبادة فيه ومضاعفة الحسنات لهم؛ فممن سكنوا هناك من الصحابة كان: عبادة بن الصامت، شداد بن أوس الأنصاري، أبو ريحانة الأنصاري، وغيرهم.

 ومن الصوفية المشاهير الذين جاوروا الأقصى وهم من غير أهل القدس كان إبراهيم بن أدهم، الإمام أبو حامد الغزالي، الإمام محمد الطرطوشي الفهري المالكي، وغيرهم كثيرون.

حتى إن المجاورة تحولت إلى حج، فكان كثير من المسلمين يحرصون حين يحجون إلى مكة أن يتبعوها بزيارة القدس بعد أن يزوروا المدينة المنورة.

وضمن المتصوفة الذين جاوروا المسجد الأقصى ودافعوا عنه كان المغاربة، ويذكر المؤرخ الشهير ابن الأثير أن هناك شيخًا ملثمًا سماه «من ملوك المغرب»، انطلق بعد احتلال القدس يدعو ويعبِّئ المسلمين في البلاد الإسلامية للجهاد في القدس، وكانت معه مجموعة يقودها من المغاربة قاتلت أشد القتال ضد الصليبيين، ضمن الحملات التي كان يشنها الوزير الفاطمي الأفضل بدر الدين الجمالي منذ عام 499هـ – 1105م.

خلال فترة الاحتلال الصليبي للقدس لم تتوقف الهجمات الإسلامية الفدائية على الصليبيين، وشكلوا مجموعات جهادية عشوائية لهذا الغرض، وكان الحجاج القادمون من المغرب إلى مكة عبر مصر، ينطلقون أولًا إلى فلسطين للجهاد ثم الانطلاق إلى مكة أو العكس، وبعضهم كان يأتي للجهاد خصوصًا.

ومن هؤلاء كان فقهاء وشيوخ ومتصوفة مغاربة، ومنهم أبو الحجاج يوسف بن محمد، المعروف بابن الشيخ. وخلال الحملة الصليبية الثانية برزت أسماء مغاربة مثل يوسف بن دوناس بن عيسى الفندلاوي.

واستمر هذا الجهاد المغربي ضد الصليبيين في زمن الدولة الزنكية، حتى ولو بالتبرع بالمال، حتى جاء عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي محرر القدس، وكان للمغاربة دور كبير معه.

بقيادة صوفية: المغاربة يشاركون في تحرير القدس

خلال تخطيطه لتحرير القدس كان صلاح الدين يعاني من ضعف قواته البحرية، فطلب من سلطان دولة الموحدين بالمغرب يعقوب المنصور أن يمده بأسطول بحري يشارك في المعركة، لقطع أي طريق على الإمدادات الأوروبية لدعم الصليبيين في الشام عبر المتوسط، وللهجوم عليهم من البحر، بالتزامن مع الهجوم البري من العمق.

استجاب المنصور إلى صلاح الدين، وأرسل له أسطولًا حربيًّا كبيرًا، قيل إن قوامه بلغ 180 سفينة تحمل جنودًا وسلاحًا وعتادًا مغربيًّا.

هذا الأسطول الضخم هو من تولى الهجوم على عكا، التي كانت بمثابة العاصمة الاقتصادية لمملكة بيت المقدس الصليبية، وبها قيادة الأسطول البحري الصليبي، وأكبر ميناء تجاري لهم على البحر المتوسط.

هجم الأسطول المغربي على الإمارات الصليبية، بعد وقفة تعبوية أمام السواحل المصرية، وخلالها انضم له أسطول مصري كبير أيضًا، وعُرف مجموع الأسطولين بـ«الأسطول المصري»، كما عرّفَهُ القاضي الفاضل وزير صلاح الدين.

فتح الأسطول عكا وقضى على البحرية الصليبية في 575هـ – 1179م، ثم دخل إلى عمق المدينة واحتل قلعتها، ورأى القاضي الفاضل أن ما فعله هذا الأسطول المغربي المصري لم يكن له مثيل في تاريخ المسلمين، حيث قال:

«الأسطول المصري غزا غزوة أخرى، وكانت عدته في هذه السنة قد أضعفت وقويت، واحتلت به الرجال الذين يعملون في البحر ويفتكون في البر، ومن هو معروف من المغاربة لغزو بلاد الكفر، وطوقت في الأحد حادي عشر جمادى الأولى ميناء عكا، وهي قسطنطينية الفرنج، وأخلت ساحل الفرنج بقتالها… وهذا مما لم يعهد من الأسطول الإسلامي مثله في سالف الدهر، لا في حالة قوة إسلام، ولا ضعف كفر».

وترافق مع الأسطول النظامي المغربي الذي أرسله المنصور إلى صلاح الدين كتائب من المتطوعين، بعضهم قدم خدمات لوجستية للإعاشة، وبعضهم كان يقاتل.

ومما ذكر عن الخدمات اللوجستية، أن معسكر المسلمين كان به أكثر من ألف حَمَّام، أنشأها المغاربة بأنفسهم دون أن يكلفوا صلاح الدين أي شيء، فقد كانوا يحفرون في الأرض حتى تخرج ماءً، فيعجنون به طينا ويبنون به الحمامات، وبعد إنشائها كانوا يقطعون حطبًا من البساتين ويجففونه ويشعلونه تحت قدور الماء لتسخينه حتى يغتسل المقاتلون.

أما الجانب القتالي فقد قاده الشيخ غانم بن علي بن إبراهيم الغماري، الصوفي المغربي الزاهد، الذي قاد لواء المغاربة في معركة حطين (583هـ – 1187م)، وقاتل قتالًا شرسًا، أبهر صلاح الدين الأيوبي، حد أنه بعد الانتصار قرر توليته مشيخة الحرم القدسي.

كما قرر إسكانه والمغاربة الذين رافقوه بجوار الحرم القدسي، فيما عُرف بعد ذلك بـ«حارة المغاربة»، وقال عنهم صلاح الدين: «أسكنت هناك من يثبتون في البر ويبطشون في البحر، وخير من يؤتمنون على المسجد الأقصى».

لم تكن حارة المغاربة موجودة، بل بناها لهم صلاح الدين وسماها باسمهم، وقيل إن من أصدر قرار وقف الحارة عليهم كان ابنه الملك الأفضل عام 583هـ – 1193، وهو نفس العام الذي توفي فيه صلاح الدين، وربما كان قرار الوقف مجرد مسألة إجرائية، إذ إن قرار إسكانهم بجوار الحرم القدسي كان بأمر من صلاح الدين نفسه.

وقيل إن صلاح الدين وهب للشيخ غانم قرية «بورين» بأكملها، وكل الأراضي الواقعة بين القدس ونابلس.

والشيخ غانم الغماري هو ابن فكرة المجاورة التي تحدثنا عنها؛ فقد كان والده رجلًا عابدًا زاهدًا انطلق من المغرب إلى مكة حاجًّا، ولدى عودته جاور الأقصى في أقرب مكان ممكن للقدس التي كانت محتلة وقتها.

استقر الرجل في مدينة نابلس الفلسطينية، وكان غانم وقتها صبيًّا، فشب على العلوم الدينية الإسلامية والتصوف، ووصفه المؤرخ شمس الدين الذهبي بأنه كان «زاهدًا، عابدًا، مخبِتًا، قانتًا لله، صاحب أحوال وكرامات».

ظل غانم مرابطًا مثل غيره من المغاربة حتى جاء الوقت المناسب مع حشد صلاح الدين لجيوشه لتحرير القدس، فانضم لها متطوعًا ومعه مجموعة من المغاربة في حطين، وانتصروا وكافأهم صلاح الدين كما ذكرنا.

بعد سكنه القدس كانت للشيخ غانم خلوة شهيرة في المسجد الأقصى، واشتهر بين المقدسيين بـ«الشيخ غانم النابلسي» لأنه كان يعيش في نابلس قبل تحرير القدس، واشتهرت عائلته في القدس وامتدت في الزمن، وصارت جزءًا من المدينة وأهلها.

وعُرِف أبناؤه فيما بعد بـ«الغوانمة» نسبة إليه (غانم)، وخُصصت لهم فيما بعد حارة عرفت باسمهم متفرعة من حارة المغاربة، واشتهروا بالتقوى والتصوف، وكانوا مسؤولين عن خدمة المسجد الأقصى والخانقاه الصلاحية بالمدينة، وما يزالون معروفين حتى يومنا في القدس وسائر فلسطين.

حارة المغاربة: كيف كانت حين دمرها الصهاينة؟

حارة المغاربة كانت تقع بجوار حارة الشرب وباب السلسلة، و«حارة اليهود» التي كانت مقر سكن الطائفة اليهودية زمن صلاح الدين، والتي عانت من الصليبيين مثل المسلمين، وكثير من أفرادها راحوا ضحية المجازر الصليبية.

شكلت مساحة الحارة ما يعادل 5٪ من القدس القديمة، وبلغت مساحتها حوالي 45 ألف متر مربع، وهذه المساحة كانت تختلف بين عهد وآخر، فقد توسعت الحارة وخرجت إلى خارج أسوار القدس القديمة، وصار هناك «حارة المغاربة البرانية»، إلى جانب «حارة المغاربة» القديمة.

هذا التوسع كان لأسباب مختلفة، وضمنها أن المغاربة كانوا يأتون من بلادهم إلى القدس للمجاورة وزيارة الحرم القدسي، فكانوا يسكنون الحارة، وكثير منهم استوطنها واستمر أبناؤهم وأحفادهم فيها لمئات السنين.

وفي الحارة انتسب المسجد الذي يقال إن من بناه عمر بن الخطاب إلى المغاربة، وسموه «جامع المغاربة»، وهو جزء من الحرم القدسي، وله بابان من جهة الشرق والشمال، وقيل إنه بني في العصر الأموي.

وكان للحارة في سور القدس باب يعرف بـ«باب المغاربة»، وقد كان أهل المغرب الداخلين للقدس يعبرون من خلاله، وعُرف الباب أيضُا بأسماء أخرى، وهي: «الباب اليميني»، «باب البراق»، و«باب النبي» حيث قيل إنه نفس المكان الذي عرج منه النبي إلى السماء ليلة الإسراء، فهو أقرب الأبواب لحائط البراق، الذي يسميه اليهود حائط المبكى، وهذا الحائط يعتبر جزءًا خطيرًا من الحارة.

وقبل قيام الحرب العالمية الأولى كان المسلمون أحيانًا يمنعون اليهود من الوصول إلى الحائط، رغم أنهم كانوا يقصدونه منذ القرن السادس عشر بعلم السلطات العثمانية، ولكن بسبب تدفق الهجرات اليهودية على فلسطين وإحساس المسلمين بأن هناك شيئًا يحاك ضدهم بدأوا في صد اليهود عن الذهاب إلى الحائط.

 وبعد إعلان بريطانيا الانتداب على فلسطين عام 1920م، أراد اليهود شراء الحائط، لكن بريطانيا لم توافق لحساسية الأمر بالنسبة للمسلمين، إلا أنهم كانوا يستطيعون أداء صلواتهم أمامه، خاصة فيما يعرف بـ«يوم خراب الهيكل».

وفي أغسطس 1929 حدث ما عرف بـ«ثورة البراق»، حيث كان اليهود يحاولون تغيير معالم الساحة المحيطة بالحائط بوضع مقاعد فيها للجلوس، فطالب المسلمون سلطات الاحتلال البريطاني بعدم وضع الكراسي أو إجراء أي تغيير يمس معالم المكان، باعتبار أن الحائط ملكية إسلامية، حتى ولو سُمح لليهود بالصلاة أمامه.

أصر اليهود على وضع المقاعد ونظموا تظاهرات دينية تطالب بأن يكون الحائط ملكًا لليهود، فرد عليهم المسلمون بتظاهرة مضادة أمام الحائط، وتوترت الأجواء حتى بدأت أعمال عنف بين الجانبين.

وقعت اشتباكات عنيفة بين المسلمين وبين اليهود، سواء الذين استوطنوا فلسطين وقتها من المهاجرين، أو من اليهود الأصليين الذين كانوا يسكنون حارتهم المجاورة لحارة المغاربة قبل الاستيطان والهجرات.

اشتدت الاشتباكات ووصلت إلى مدينة الخليل، وانتهى الأمر بمقتل عشرات من اليهود والمسلمين، وإصابة المئات، واضطرت السلطات البريطانية إلى الاستعانة بقوات إضافية من الجنود البريطانيين المحتلين لمصر للسيطرة على الشغب، وألقت القبض على العشرات، وصدرت أحكام بإعدام بعضهم.

لكن عصبة الأمم (المنظمة الأممية وقتها) شكلت لجنة للتحقيق في الحادث، وأقرت في أكتوبر 1930 بأن الحائط ملك للمسلمين، ولا يجوز لليهود تغيير ملامحه.

وظل الأمر كذلك حتى 11 يونيو 1967، بعد احتلال إسرائيل للقدس بيوم واحد، حيث دخلت الجرافات الإسرائيلية الحارة برفقة قوات عسكرية، وشردت حوالي 135 عائلة بعد نسف حوالي 34 بيتًا، ومصنع للبلاستيك، و4 مساجد، بجانب عدد من المباني الأثرية الإسلامية، لتحويل الحارة إلى ما يعرف بـ«ساحة المبكى» لخدمة المصلين اليهود.

وتحول المغاربة الفلسطينيون من أهل الحارة إلى لاجئين في المخيمات بالضفة الغربية أو قطاع غزة، يحلمون بصلاح الدين الجديد يعيدهم إلى حارتهم.

المراجع
  1. «الروضتين في أخبار الدولتين»، أبو شامة المقدسي
  2. «الكامل في التاريخ»، ابن الأثير
  3. «تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعيان»، الذهبي
  4. «صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير القدس»، علي الصلابي
  5. «حارة المغاربة وأهميتها في الدفاع عن القدس الشريف»، حسن حسين جونيس
  6. «الذاكرة التاريخية الـمشتركة: الـمغربية – الفلسطينية»، عبد الحميد مودن
  7. «دور المقاومة الشعبية المغربية في مواجهة الوجود الصليبي في مملكة بيت المقدس»، عبد الرحمن محمد حامد المغربي
  8. «طائفة المغاربة في القدس الشريف»، عبد الرحمن محمد حامد المغربي
  9. «جهود المغاربة في دعم قضايا الأمة: فلسطين نموذجا»، عبد الرحيم مفكير