يُمكنني القول بضميرٍ مُستريح إن الدولة الإيطالية تأسّست على أشلاء الدولة البابوية، ورغم أنف البابا بيوس التاسع، الذي سعى مرارًا لوأد الحلم الإيطالي القومي في إنشاء دولة خاصة على شبه الجزيرة الأوروبية وما يُحيط بها من جُزر، لكن في النهاية كان هذا الحلم أكبر منه، وهو ما كلّفه أن يقضي 60 عامًا حبيس جدران قصره، معزولاً عن العالم الخارجي.

اعتبر البابا أن مؤسسي الدولة الإيطالية «هراطقة»، وأن أحلامهم بتأسيس دولة قومية على كامل التراب الأزرق «سرقة»، وأقسم ألا تتّخذ هذه الخطوة اعترافًا بابويًّا أبدًا، وهو الوعد الذي نفّذه جزئيًا، فالتزم به ثم حافظ عليه أسلافه من الباباوات حتى العام 1929م، الذي أشهرت فيها الكنيسة الراية البيضاء، واعترفت أخيرًا بتغيرات الزمن والمجتمع.

اعترفت الكنيسة بالدولة الإيطالية على حدودها الحالية، وفي المقابل ارتضت لنفسها بكيان مستقل صغير نعرفه اليوم بِاسم الفاتيكان.

فرنسا: من هنا تحطّم اللاهوت

مثّلت الثورة الفرنسية صفعة هائلة للفاتيكان، لأنها تصدّت، لأول مرة، لكافة مبادئ الحُكم الديني القائم على الفردية المطلقة واعتبار أن كل قرارات القائد مُقدّرة إلهيًا.

من فرنسا خرج «تأثير الدينامو» إلى باقي أوروبا، بعدما تصاعد المد القومي الحالِم بالحرية والديمقراطية في أنحاء القارة العجوز. وبدءًا من القرن التاسع عشر أصبح عقيدة سياسية راسخة في الجزيرة الزرقاء التي تململ أهلها من عقود السيطرة الأجنبية على أراضيهم ورفعوا شعار «إيطاليا للإيطاليين»، راغبين في إعادة إيطاليا لأوضاعها الموحدة التي خاصمتها منذ تفكك الإمبراطورية الرومانية.

في هذا الزمن كان تحقيق هذا الشعار أقرب للاستحالة، فالهوية الإيطالية الجامعة كانت موضع شك؛ 97% من السكان يتحدثون لهجات مختلفة شديدة التباين تجعل التواصل معهم مستحيلاً في بعض الأحيان، سيطر على الأراضي الإيطالية نظام حُكمٍ معقد تجاورت فيه الإمبراطورية النمساوية في شمال الشرق، مع مملكة آل بوربون في الجنوب وصقلية (عُرفت دولتهم بِاسم «مملكة الصقليتين»)، مع الدولة البابوية التي تسيطر على رقعة أراضٍ تمتد من روما شمالاً وحتى بولونيا جنوبًا، ومملكة سردينيا القابعة على الحدود الفرنسية.

خريطة لإيطاليا سنة 1860
خريطة لإيطاليا سنة 1860، تظهر الممالك المختلفة المقامة على الأراضي الإيطالية

من مملكة سردينيا انبعثت شرارة حلم التوحيد القومي، ربما تخيل أحد أن بإمكانه الإطاحة بآل بوربون ومقاومة الاحتلال النمساوي لأراضيهم، ولكن بالتأكيد لم يجرؤ أحدهم على التفكير في التعدّي على الدولة البابوية ذات الهيبة المقدّسة المتراكمة في النفوس على مدار ألف عامٍ من وجودها.

لم يكن البابا يمتلك الكثير من القوات العسكرية، ولكنه يمتلك ما هو أكثر؛ قوة روحية نصّبته ممثلاً للإله في الأرض.

سريعًا، عارَض باباوات الفاتيكان أي محاولة لاستقطاع أراضي دولتهم لصالح دولة إيطاليا الموحدة، معتبرين أن هذه الخطوة «تتعارض مع رغبات الله»، وأي محاولة لفرض رغبة التوحيد القومية تلك عبر غزو الأراضي البابوية تتم من قِبَل «أعداء الشيطان»، وتوعّد القساوسة «عملاء الشر» القوميين بحرمانهم من الخلاص الكنسي في الدنيا والآخرة.

بذرة العصيان الأولى: فرنسا مُجددًا

إزاء حالة الضعف العظمى التي شاعت في الدولة البابوية خلال سنواتها الأخيرة، دعّمها الفرنسيون -رغم مبادئ الثورة العلمانية- بفيالق عسكرية حمتهم من بطش الهجمات القومية المستمرة على العاصمة روما.

ساعدت الاضطرابات السياسية التي عاشتها فرنسا ورغبة كل حاكم في نيل دعمٍ محلي كاثوليكي في مساعدة البابا أملاً في تثبيت عرش كليهما.

أطالت القوات الفرنسية في عُمر الدولة البابوية بضع سنوات إضافية لكنها لم تخفِ هوّة الهشاشة العسكرية التي سقطت فيها روما البابوية بلا رجعة.

في 1860م، طرد الفرنسيون الجيش النمساوي من شبه الجزيرة الإيطالية ما أخلى الساحة تمامًا أمام المملكة الإيطالية، والتي بقي حلمها بتوحيد كافة الأراضي الزرقاء تحت رايتها مرهونًا بخلو الساحة من الفرنسيين.

وهو ما جرى في صيف 1870م، حين اندلعت حرب ضارية بين فرنسا وبروسيا، أجبرت الإمبراطور الفرنسي نابوليون الثالث على سحب قواته من حول روما.

في الوقت ذاته، كان الفاتيكان لا يزال عائمًا في بحر التيه، فلم يفطن إلى ذلك التغير الإستراتيجي الهائل وإنما غرق في مداولات مجمعه الفاتيكاني حول عقيدة «العصمة البابوية» التي شرعنت للبابا سُلطة بأعمق ما يكون بعدما اعتبرته «مُنزهًا عن الخطأ» ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

هنا أيقن القوميون السردينيون أن تلك هي اللحظة الفارقة. أبدى ملك سردينيا تخوفات من شنِّ هجومٍ على المدينة المقدسة، لكن مستشاريه وقادة جيوشه بذلوا عليه ضغوطًا هائلة لإقناعه أن لا وقت أنسب من هذا لغرس الراية الإيطالية على روما، وأن البابا الضعيف لن يملك شيئًا يُقاومه به إلا الدعاء عليه.

1849م: المسمار الأعظم في نعش البابا

سيظل اسم البابا بيوس التاسع محفورًا في تاريخ الفاتيكان للأبد، ولن يكون من المبالغة اعتباره أكثر بابوات الكنيسة تأثيرًا في العصر الحديث.

نتحدّث عن التأثير السيئ بالطبع، وبرغم ما عُرف عن الرجل من تدينه الشديد فإنه كان ضعيفًا سياسيًا على كافة المستويات.

صحيح أن الرجل ورث تركة مثقلة من سلفه البابا غريغوريوس السادس عشر الذي عارَض تحديث حياة سكان الولايات البابوية بدعوى أنها «انحرافات عن الطريقة التي خلق الله بها الأشياء».

ابتدأ البابا/ الملك حُكمه بقرارات جيدة مثل السماح بإدخال خطوط السكك الحديدية والأعمدة المضاءة بالغاز إلى الشوارع، كما أطلق سراح السجناء السياسيين، وأعلن رغبته في محاربة الفساد والبيروقراطية المنتشرين في الجهاز الإدارة بالدولة.

لكن من حظِّه العثر أن فترة حُكمه تزامنت مع تصاعد الهوَى القومي في كافة أنحاء أوروبا، وعلى إثرها تزايدت صرخات إنهاء الحكم الديني الديكتاتوري ووضع دستور يحكم الجميع، وهو ما بلغ ذروته الأولى في يناير 1849م.

رفض البابا كل هذه النداءات، فانتشرت الفوضى في أنحاء البلاد عجز عن وأدها الجيش البابوي الضعيف، وطعن رئيس الوزراء البابوي حتى الموت في شوارع روما، وعاش بيوس سجين قصره حتى هرب من روما متخفيًا في زي كاهن بسيط إلى قلعة جايتا شمالي نابولي.

في غياب البابا، تشكلت لجنة قومية ثلاثية حكمت روما، ووضعت دستورًا مؤقتًا أكدت أول مادة فيه أن سُلطة البابا السياسية انتهت للأبد. بموجب الوضع الجديد، أصبح الناس أحرارًا في القول والتفكير والكتابة دون الخوف من محاكم تفتيش، وبات بإمكان اليهود العيش خارج الأحياء اليهودية، وسُمح للبروتستانت بالتعبد بحرية، والأهم.. امتلك الشعب حق اختيار الحكومة.

لم تدم انتفاضة 1849م الحالمة طويلاً، سريعًا أتى الفرنسيون واحتلوا روما وأنهوا كافة هذه الأوضاع الوردية وأعادوا تنصيب البابا حاكمًا.

أعاد بيوس دولته الديكتاتورية كما كانت؛ أجبر اليهود على العودة لأحيائهم، وعيّن محاكم تفتيش، ونشر حظرًا بالكتب الممنوعة ورقابة صارمة على الصحف وحرية التعبير، كل هذا تحت رعاية القوات الفرنسية التي انتشرت شوارعها في روما للحفاظ على حُكمه.

فشل التمرد القومي الأول، لكن الجميع أدرك أن عرش البابا أصبح من ورق.

سردينيا: أنتِ الأمل

بعد انهيار حلم الجمهورية الإيطالية الأولى سريعًا، أصبحت مملكة سردينيا هي قِبلة القوميين الحالمين بتوحيد التراب الآزوري.

امتلكت المملكة مساحات محدودة من الأراضي شمال إيطاليا، أبرز مدنها جنوى والعاصمة تورينو. لكنها تمسّكت بكافة إصلاحات حركة 1848م، وأصبحت ملكية دستورية يحكمها البرلمان والقانون، انتهت سيطرة الكنيسة على المجتمع والمدارس.

وبناء على نصيحة مستشاريه، حلم ملك سردينيا فيكتور عمانويل الثاني بتخليد اسمه في التاريخ، كمؤسِّس لإيطاليا الموحدة. خطوة تخوّف منها رئيس وزرائه الشهير الكونت كاميلو كافور في البداية، بعدما اعتبر أن لا طاقة لجنوده بحرب الفرنسيين والنمساويين معًا.

في 1858م، حانت اللحظة الكبرى حين ضاق ملك فرنسا نابوليون الثالث ذرعًا بعدوته اللدود النمسا، فاتّفق مع كافور على تصفية وجودها من إيطاليا.

اعتبر نابوليون أن هذه الخطوة ستضعف النمسا، ولن تسمح بخلق عدو قوي ينازعه السيادة على أوروبا، لأن إيطاليا ستبقى ممزقة بين مملكة سردينيا والمملكة البابوية، وكلاهما يتمتّع معهما بعلاقات جيدة.

1870: القوميون على الأبواب

تمدّدت مملكة سردينيا على أغلب المساحة النمساوية من إيطاليا، وسريعًا بعث البرقيات الدبلوماسية إلى البابا يطلب منه التفاوض على إجراء استفتاء شعبي لتوحيد البلاد.

لم يُسعد هذا التوسع كافور كثيرًا، لأنه اعتقد أنه بلا قيمة طالما بقيت العاصمة روما بحوزته، عصيّة على الذوبان في الموجة القومية العاتية، فواصلوا الضغط على البابا لتسليم روما دون قتال.

رفض بيوس كل هذه العروض، معتمدًا على إيمانه التام بأن الله لن يسمح للدولة البابوية بالانهيار، وبالدعم الفرنسي المزعوم له.

كلّفته هذه الحسابات السياسية الخاطئة باهظًا، بعدما أبرم القوميون الإيطاليون اتفاقًا مع فرنسا لسحب قواتها من روما، وهو القرار الذي لاقى هوى كبيرًا في صفوف الجنود الفرنسيين أنفسهم، الذين صرخوا أثناء رحيلهم «يسقط البابا، فلتسقط حكومة الكهنة».

أراد نابوليون حشد كافة قواته لتوجيه ضربة قاصمة إلى المملكة البروسية الألمانية، لكن حدث العكس ومُني بهزيمة ساحقة ضعضعت حُكمه وأخلت الساحة تمامًا للإيطاليين القوميين.

ساعدت أجواء التنافس الأوروبي على انشغال كل دولة بمشاكلها بدلاً من إغاثة البابا الضعيف الذي بعث برقيات استغاثة إلى كافة حكّام أوروبا فلم يُعره أحد اهتمامًا. لم يعد يملك سلاحًا يُحارب به الإيطاليين إلا إعلان كافة قادة هذا التحرك «محرومين كنسيًا»، ووصفتهم صحافته الكاثوليكية المحلية بأنهم «غزاة» ستقاومهم روما وتعدهم بـ«نهاية مخزية».

مع اقتراب القوات السردينية من أسوار المدينة المقدّسة، اختبأ أهل روما في بيوتهم، أُغلقت المحلات، اجتاحت الشائعات المدينة المقدّسة عن قُرب رحيل البابا عنها، ونصحه بعض الأساقفة بالهرب فورًا إلى مالطا، لكن البابا ظلّ هادئًا مؤمنًا بمناعة مدينته، وربما كان ينتظر معجزة من السماء تقيه شر الأعداء.

وعندما أخبره الجنرال الألماني هيرمان كانزلر قائد الجيش البابوي بأن طلائع القوات الإيطالية باتت على مشارف الأراضي البابوية، لم يصدق بيوس وطلب من قائده العسكري التزام الهدوء!

لم تُجدِ كل هذه الأفاعيل صنعًا ولم تحدث المعجزة؛ اخترق الإيطاليون أسوار روما وأعلنوا أنهم سيضمونها إلى دولتهم الجديدة دون أن يفكروا في المساس بسلامة البابا بالطبع.

نُشرت في الشوارع إعلانات تعلن أن المدينة في حالة حصار، وتحرم على الناس التجمهر أو الدخول والخروج من المدينة المقدسة، ولم يبقَ حول البابا إلا 200 رجلٍ فقط يدافعون عنه استسلموا مع أول تبادل لإطلاق النار.

أُرسل إلى البابا العرض الإيطالي الأول؛ مدينة ليونين التي يعيش فيها قرابة 15 ألف نسمة وقتها، وتحتوي عددًا كبيرًا من القصور وتشمل العديد من المعالم أبرزها كنيسة القديس بطرس والفاتيكان واصفة إياها بأنها سيتكون «إقامة رائعة لسيادة الحبر الأعظم»، مع تعهدات بضمان سلامته وتخصيص ميزانية كبيرة للبابا والكاريندالات. رفض البابا العرض فورًا.

طالت المفاوضات بين الطرفين بلا نتيجة، فقط اكتفى السردينيون باحتلال ما بقي من روما، في الوقت الذي أقرّ فيه أول برلمان إيطالي مشكل قانونًا يعتبر البابا شخصية دبلوماسية يتمتع بحصانة دولية، ومنحته مخصصات مالية قدرها 3.2 مليون ليرة في السنة، واعتبرت الفاتيكان لا تخضع للحدود الإقليمية للدولة الإيطالية الجديدة.

رفض بيوس كل هذه العروض، معتبرًا أنه لن يكون «القسيس الخاص بملك إيطاليا»، تحصّن في الفاتيكان ثم أعلن نفسه أسيرًا، ورفض الخروج من الفاتيكان معتبرًا أن إجراء أي تعامل مع إيطاليا هو إقرار بشرعية ما حدث.

لم تكترث مملكة إيطاليا، حضر الملك -المحروم من الكنيسة- فيكتور عمانويل الثاني وسكن في القصر البابوي، ومن هناك ترأس الاجتماعات البرلمانية والحكومية الهامة.

وفي تحدٍّ سافر لسُلطة الكنيسة، تم تنصيب تمثال عملاق للفيلسوف الإيطالي جيوردانو برونو، الذي امتلك تاريخًا فكريًا ونضاليًا كبيرًا في معارضة الكنيسة، فخضع لمحكمة تفتيش كنيسة كبرى لمدة 7 سنوات، أمر بعدها البابا كليمنت الثاني بحرقه حيًا.

تدشين ذلك التمثال كان أكثر من رسالة بأن «العهد البائد» للكنيسة انتهى، وأنها لم تعد قط قادرة على التحكم في أفكار وعقيدة الناس، وها هو تكريم «برونو» يشهد.

لم يستوعب الباباوات -خلفاء بيوس- «درس برونو»، وألزموا أنفسهم بالأسر حتى عام 1929م، حين وقع الملك الإيطالي فيكتور عمانويل الثالث مع موسوليني رئيس الوزراء وبترو غاسباري ممثل البابا بيوس الحادي عشر اتفاقية لاتران، والتي اعترف فيها الفاتيكان أخيرًا بالدولة الإيطالية مقابل الاحتفاظ بِاستقلال الفاتيكان.