محتوى مترجم
المصدر
The herd instinct
التاريخ
2017/08/31
الكاتب
سيجموند فرويد

في كتاب سيكولوجية الجماعة، يطرح فرويد تساؤله عن أسباب انخلاع أفراد الجماعات عن ذاكرتهم السابقة كأعضاء مجتمع متعلمين وواعين وانخراطهم في أفعال جماعية بربرية وقاسية. ولماذا يحتاج هذا الحشد المنفعل لقائد أو بطل يتبعه؟ لماذا يصر هذا الحشد على التبعية والخضوع لشخص، رغم قدرته الظاهرة على التحرر وإعلاء قيم هدمية لأيّ سلطة، مدعومًا بأعداده الكبيرة؟فيما يلي مقتطفات من بعض فصول الكتاب.


التماهي

يُعرف التماهي في التحليل النفسي بأنه أول تعبير عن رابطة شعورية بشخص آخر. وهو يلعب دورًا في التاريخ المبكر لـ«عقدة أوديب». حيث يُظهر الولد الصغير اهتمامًا خاصًا بوالده؛ يرغب في أن ينمو مثله وأن يشبهه، ويحلّ محلّه في كل مكان. بمقدورنا القول ببساطة إنه يتخذ والده كمثل أعلى له. لا علاقة لهذا السلوك بالموقف السلبي أو الأنثوي تجاه الوالد -وتجاه الذكور عمومًا- بل على العكس فهو رجولي بشكل نموذجي.قد يظهر التماهي مع أيّ تصور جديد لصفة مشتركة مع شخص آخر ليس موضوعًا للغريزة الجنسية. وكلما زادت أهمية هذه الصفة المشتركة، ازداد نجاح هذا التماهي الجزئي، وبالتالي يمكن له أن يمثل بداية رابطة جديدة.نبدأ بالفعل في تخمين أن الرابطة المتبادلة بين أعضاء الجماعة تكمن في طبيعة تماهٍ من هذا النوع، قائمٍ على صفة شعورية مشتركة مهمة؛ ولنا أن نتصور أن هذه الصفة المشتركة تكمن في طبيعة العلاقة مع القائد.


الوقوع في الحب والتنويم المغناطيسي

حتى في نزواتها تظل اللغة أمينة على شيء من الواقع. وهكذا تعطي اسم «الحب» أنواعاً كثيرة جدًا من العلاقات الشعورية التي نعتبرها نحن أيضًا نظريًا كـحب؛ لكن فيما بعد نرتاب فيما إذا كان هذا الحب حقيقيًا، صادقًا، حبًا فعليًا، مما يوحي بالتالي بوجود مدى كامل من الاحتمالات داخل نطاق ظاهرة الحب.وفيما يتعلق بهذا السؤال عن الوقوع في الحب، كثيرًا ما أدهشتنا ظاهرة المغالاة في التقدير الجنسي، حقيقة أن المحبوب يتمتع بمقدار معين من الحرية فوق النقد، وأن كل مميزاته مقدّرة أكثر من مميزات هؤلاء غير المحبوبين، أو هو نفسه قبل أن يكون محبوبًا.

أدولف هتلر

النزعة التي تشوه الحكم في هذه الحالة هي إضفاء المثالية. وبتحديدها يكون من السهل علينا تحديد مواقعنا. حيث نرى أن المحبوب تتم معاملته بنفس الطريقة كـ«الأنا» الخاص بنا، بالتالي عندما نكون واقعين في الحب يفيض قدرا كبيرا من الشهوة الجنسية النرجسية «الليبيدو» على المحبوب. حتى إنه يكون واضحًا، في أشكال كثيرة لاختيارات الحب، أن المحبوب يخدم كبديل لـ «أنا» مثالي لم نتمكن من تحقيقه لأنفسنا. نحبه لأجل أوجه الكمال التي سعينا لتحقيقها للأنا الخاص بنا، والتي نرغب الآن في الحصول عليها بهذه الطريقة الملتوية كوسيلة لإرضاء نرجسيتنا.يصمت كل انتقاد موجه إلى المحبوب؛ كل ما يفعله أو يطلبه صحيح ولا لوم عليه. لا مكان لحكم الضمير على أيّ شيء يُفعل من أجل المحبوب؛ في عماء الحب يصل التحرر من تأنيب الضمير حد ارتكاب الجرائم. يمكن تلخيص الموقف كله في صيغة واحدة: «احتل المحبوب مكان الأنا المثالي».بين الوقوع في الحب والتنويم المغناطيسي لا توجد إلا خطوة واحدة. مواطن الاتفاق بينهما واضحة. هناك الخضوع الذليل نفسه، والإذعان نفسه، وغياب النقد، تجاه المنوِّم المغناطيسي كما تجاه المحبوب. وهناك الإضعاف نفسه لروح المبادرة لدى الشخص؛ لا يستطيع أحد إنكار أن المنوِّم المغناطيسي قد حلّ مكان الأنا المثالي. وبما أن كل شيء أوضح وأقوى في حالة التنويم المغناطيسي، فسيخدم غرضنا شرح الوقوع في الحب باستخدام التنويم المغناطيسي بدل العكس. المنوِّم المغناطيسي هو الهدف الوحيد، ولا يُولى اهتماما لسواه. علاقة التنويم المغناطيسي هي التفاني غير المحدود لشخص واقع في الحب، لكن مع استثناء الإشباع الجنسي؛ في حين أنه في الحالة الفعلية للوقوع في الحب يُكبت هذا النوع من الإشباع مؤقتًا فقط، ويبقى في الخلفية كهدف ممكن في وقت لاحق.لكن من الناحية الأخرى نستطيع القول إن علاقة التنويم المغناطيسي -إذا جاز لنا التعبير- هي تكوين جماعة من شخصين. يختلف التنويم المغناطيسي عن تكوين الجماعة بهذه المحدودية في العدد، كما يختلف عن الوقوع في الحب بغياب التوجهات الجنسية المباشرة. وبهذا يحتل مكانة وسطًا بين الاثنين.

ومن النسيج المعقد للجماعة يعزل لنا التنويم المغناطيسي عنصرًا واحدًا، سلوك الفرد تجاه القائد. ليس التنويم المغناطيسي صالحًا للمقارنة مع تكوين الجماعة، لأن الأصدق هو القول إنهما متطابقان.

بعد المناقشات السابقة نحن في وضع يسمح لنا بإعطاء صيغة الدستور الليبيدي للجماعات، أو على الأقل الجماعات التي هي محل اهتمامنا الآن، وهي الجماعات التي لها قائد ولم تستطع بعد بواسطة الكثير من «التنظيم» الحصول على خصائص الفرد بشكل ثانوي. الجماعة الأوّلية من هذا النوع هي مجموعة من الأفراد أحلّوا الشخص نفسه في مكان الأنا المثالي لكل منهم، وبالتالي تماهوا سويًا في الأنا الخاص بهم.

غريزة القطيع

هتلر
هتلر
لا نستطيع أن نهنأ طويلاً بوهم أننا قد حللنا أحجية الجماعة بهذه الصيغة. من المستحيل الهرب من التذكير الفوريّ والمزعج بأننا لم نفعل سوى تغيير مكان السؤال ووضعه فوق أحجية التنويم المغناطيسي، التي ما زالت نقاط كثيرة بشأنها في حاجة إلى إيضاح. والآن يظهر لنا اعتراض آخر ليرينا كم أن طريقنا بعيد.يمكن القول إن الروابط الشعورية القوية التي نلاحظها في الجماعات كافية تمامًا لتفسير واحد من خصائصها، الافتقار للاستقلالية وروح المبادرة لدى أعضائها، وتماثل ردود فعلهم جميعًا، اختزالهم، إذا جاز التعبير، إلى مستوى أفراد جماعة.
يصبح تأثير الإيحاء أحجية أكبر عندما نعترف بأن القائد ليس وحده من يمارسه، بل كل فرد؛ ويجب علينا توبيخ أنفسنا لتأكيدنا على العلاقة بالقائد وإبقائنا العامل الآخر الخاص بالإيحاء المتبادل في الخلفية.
لكن إذا نظرنا إليها ككل، تُظهر لنا الجماعة ما هو أكثر من هذا. بعض خصائصها – كـضعف القدرة الفكرية، والافتقار لضبط النفس العاطفي، وعدم القدرة على الهدوء والتمهل، والميل لتجاوز كل حد في التعبير عن العاطفة وتصريفها بالكامل في صورة فعل – هذه وخصائص مشابهة، والتي نجدها موصوفة بشكل رائع في كتاب لوبان، تُظهر صورة لا لبس فيها عن نكوص النشاط العقلي إلى مرحلة مبكرة كتلك التي لا نندهش لرؤيتها في الهمجيين أو الأطفال.نملك الآن انطباعًا عن حالة تكون فيها دوافع الفرد العاطفية الخاصة وأفعاله الفكرية ضعيفة جدًا فلا تستطيع الإتيان بشيء بنفسها ومعتمدة بالكامل في هذا على تعزيزها من خلال تكرارها بطريقة متماثلة في الأعضاء الآخرين بالجماعة. يذكرنا هذا كم أن ظاهرة الاعتماد هي جزء من الدستور الطبيعي للمجتمع البشري، وبندرة وجود الأصالة والشجاعة الشخصية فيه، وإلى أيّ مدى تحكم الأفرادَ هذه الاتجاهاتُ العقليةُ للجماعة والتي تُظهر نفسها في صورة الميزات العنصرية والتحيزات الطبقية والرأي العام، إلخ. يصبح تأثير الإيحاء أحجية أكبر بالنسبة إلينا عندما نعترف بأن القائد ليس وحده من يمارسه، بل كل فرد على كل فرد آخر؛ ويجب علينا توبيخ أنفسنا لتأكيدنا غير العادل على العلاقة بالقائد وإبقائنا العامل الآخر الخاص بالإيحاء المتبادل في الخلفية.بعد هذا التشجيع على التواضع، سنميل إلى الاستماع إلى صوت آخر، يعدنا بتفسير قائم على أسس أبسط. يمكن إيجاده في كتاب تروتر الرصين عن غريزة القطيع (1916)، وما يؤسفني بشأنه فقط هو أنه لا يتفادى تمامًا العداوات التي أطلقتها الحرب العظمى الأخيرة. لكن تفسير تروتر أعزل أمام تفنيد أنه لا يأخذ في الاعتبار دور القائد في الجماعة، في حين نميل نحن إلى الرأي المعاكس، وهو أنه من المستحيل فهم طبيعة الجماعة إذا أهملنا القائد. لا تترك نظرية غريزة القطيع مجالا للقائد؛ فهو يوضع ببساطة مع القطيع، عن طريق الصدفة تقريبًا؛ ويترتب على ذلك أيضًا أنه لا مسار يصل هذه الغريزة بالحاجة لإله؛ أيّ أن القطيع بلا راعٍ. وبطبيعة الحال ليس من السهل تتبع نشوء غريزة القطيع. يظهر شيء شبيه بها أول الأمر، في حضانة بها كثير من الأطفال، نابعًا من علاقة الأطفال بوالديهم، ويحدث كرد فعل على الحسد الأوليّ الذي يستقبل به الطفل الأكبر أخاه الأصغر. بالتأكيد يود الطفل الأكبر إزاحة أخيه الأصغر بسبب الغيرة، أن يبعده عن الوالدين، وأن يسلبه كل امتيازاته؛ لكن في مواجهة حقيقة أن هذا الطفل الأصغر -ككل الأطفال القادمين بعده- يحبه الوالدان بقدر ما يحبانه.وكنتيجة لاستحالة الاستمرار في موقفه العدائي دون الإضرار بنفسه، يُجبر على التماهي مع الأطفال الآخرين. وبالتالي ينمو في مجموعة الأطفال شعور اشتراكي أو جماعي، يتطور أكثر فيما بعد داخل المدرسة. أول مطلب لهذا التشكل التفاعلي هو العدالة، المساواة في المعاملة للجميع. نعرف جميعًا كيف يتم طرح هذه المطالبة بصخب ومثابرة في المدرسة. إذا لم يستطع المرء أن يكون المفضل، فمهما حدث فلن يكون أحد آخر مفضلاً.
دعونا نغامر، إذن، بتصحيح تصريح تروتر عن أن الإنسان هو حيوان قطيع فنؤكد أنه بالأحرى حيوان عشيرة، مخلوق فرد في عشيرة يقودها زعيم
هذا التحول – استبدال شعور جماعي مكان الغيرة في الحضانة والفصل المدرسي – قد يُعتبر غير ممكن، إذا لم نستطع ملاحظة العملية نفسها لاحقًا في ظروف أخرى. علينا فقط التفكير في مجموعة من النساء والفتيات، كلهن واقعات في الحب بشكل عاطفي حماسي، يحتشدن حول مغنٍ أو عازف بيانو بعد تقديمة لعرضه. بالتأكيد سيكون من السهل على كلٍ منهن الشعور بالغيرة تجاه الأخريات؛ لكن، بالنظر لأعدادهن وما يترتب عليها من استحالة الوصول إلى هدف الحب، ينبذن الغيرة، وبدلاً عن اقتلاع شعور بعضهن البعض، يعملن كجماعة متآلفة، فيقدمن ولاءهن لبطل المناسبة بأفعال مشتركة، وربما يقنعن فقط بلمس جزء من شعره. كن في الأساس متنافسات، لكن نجحن في التماهي مع بعضهن من خلال حب متماثل لنفس الشخص.ما يحدث لاحقًا داخل المجتمع في صورة «روح الجماعة»، لا ينفي تحدّره مما كان في الأصل حسدًا. العدالة الاجتماعية تعني أننا نحرم أنفسنا من أشياء حتى يستغني عنها الآخرون أيضًا، أو، وهو الشيء نفسه، حتى لا يتمكنوا من طلبها. وهذه المطالبة بالمساواة هي أساس الضمير الاجتماعي والشعور بالواجب. وهي تظهر بشكل غير متوقع في رعب المصابين بالزهري من إصابة الآخرين بالعدوى، وقد علّمنا التحليل النفسي فهمه. إن الرعب الذي يظهره هؤلاء البائسون المساكين يتناسب مع نضالاتهم العنيفة مع الرغبة اللاواعية في نشر العدوى التي أصابتهم بين الآخرين؛ لأنه لماذا ينبغي أن يصابوا وحدهم ويحرموا من الكثير؟ لماذا لا يصاب الآخرون أيضًا؟ وهكذا يكون الشعور الاجتماعي قائمًا على انقلاب ما كان في البداية شعورًا عدائيًا إلى رابطة إيجابية في صورة تماهٍ. وبقدر تمكننا حتى الآن من تتبع سير الأحداث، فإن هذا الانقلاب يبدو أنه يحدث تحت تأثير رابطة حميمية مشتركة بشخص خارج الجماعة. ونحن لا نعتبر أن تحليلنا للتماهي هو تحليل شامل، لكن يكفي لغرضنا الحالي الرجوع إلى هذه الخاصية، المطالبة بأن يتم تحقيق المساواة على الدوام. لقد سمعنا بالفعل عند مناقشة الجماعتين الاصطناعيتين، الكنيسة والجيش، أن شرطهما المسبق الحتمي هو أنه ينبغي حب جميع الأعضاء بالقدر نفسه من قِبل شخص واحد، القائد.دعونا لا ننسى، مع ذلك، أن المطالبة بالمساواة في الحب داخل الجماعة تنطبق فقط على أعضائها لا على القائد. يجب أن يكون كل الأعضاء متساوين، لكن كلهم يريدون أن يحكمهم شخص واحد. متساوون كثيرون، يستطيعون التماهي مع بعضهم، وشخص واحد فوقهم جميعًا، هذا هو الوضع الذي نجده متحققًا في جماعات قادرة على البقاء. دعونا نغامر، إذن، بتصحيح تصريح تروتر عن أن الإنسان هو حيوان قطيع فنؤكد أنه بالأحرى حيوان عشيرة، مخلوق فرد في عشيرة يقودها زعيم.