دائماً ما ينظر المجتمع إلى المرأة بصفتها وسيلة إنجاب الأطفال، دائماً ما يكون السؤال: متى ستتزوجين، متى ستنجبين؟ لكنكِ وبمجرد أن تتحدثي عن رغبتك في ألا يكون لديك طفل، تتغير نظرة الجميع حولك، معتقدين أنكِ ستُغيرين رأيك في يوم ما، متجاهلين ما تخشاه المرأة من انتقال مرض وراثي إلى طفلها… أو منعها من الحصول على علاج ما قد ينقذ حياتها ويحفظ حملها يوماً ما… أو قلقها من الزيادة السكانية ومن نقص موارد الكوكب.
كريستين رايتر – كاتبة وناشطة في حركة «حياة دون أطفال».

بدا الأمر في البداية مفاجأة لمجتمعات تعاني من قلة الإنجاب، مجتمعات على الرغم من غرقها في موجات الحداثة بكل صورها وأشكالها، فإن بعضها –كالمجتمع الأمريكي على سبيل المثال- يؤمن أكثر من ثلثيه بأن المسار الطبيعي للفرد في الحياة هو الزواج والأسرة، والحياة بين جنبات العائلة.

في الوقت نفسه يلقى الأطفال في أوروبا والولايات المتحدة معاملة خاصة من قبل المؤسسات الحكومية بشكل عام، فنسب الاهتمام بهم كبيرة للغاية، ليس فقط لأنه في ذلك بناء لكيان مستقبلي، وليس فقط لأن ذلك حق طبيعي أصيل، ولكن لأجل أزمة إنجابهم من الأساس وهي فكرة نفسية في المقام الأول، لذلك فمن الطبيعي أن تتعدد التشريعات التي تحمي الأطفال من مختلف أنواع الاعتداءات أو الإيذاء بمختلف أنواعه حتى لو كان ذلك من قبل العائلة نفسها، ويصل الأمر في بعض الأحيان إلى الفصل بين الطفل وأسرته في حال التأكد من تعرضه للخطر حال بقائه مع هذه الأسرة.

يحيلنا ذلك إلى النظرة المجتمعية بشكل عام لمفهوم الأسرة ولأهمية الاعتناء بالأطفال، وهي النظرة التي تلقت صدمة عنيفة من فئتين جديدتين، يختلف فكرهم قليلاً عن العُرف المجتمعي، أولهم، المؤمنون بحق الإجهاض، وثانيهم، المؤمنون بحق الحياة دون إنجاب أطفال، بصورة اختيارية واعية كاملة دون وجود عرَض صحي أو ما شابه يمنع ذلك.

فكيف بدأت الحكاية؟

نريد أن ننعم بالحرية

صبيحة الثاني عشر من أغسطس/آب عام 2013، استيقظ متابعو مجلة التايم الأمريكية، الأشهر في العالم، على صورة لرجل وامرأة على الشاطئ تزين الغلاف، مُعنونة بخط ضخم «الحياة دون أطفال»، وبقليل من المجهود لفتح صفحات المجلة، ظهرت قصة «لورا سكوت»، والتي قررت ذات يوم وهي في الرابعة عشرة من عمرها أنها لا تريد أطفالاً في حياتها، ويستطرد المقال في داخل قصة لورا وكيف أن أمها تحيا حياة قاسية مليئة بالمشاغل والمهام التي لا تنتهي وذلك من أجل طفلتها، وهنا قررت لورا أنها لا ترغب في تكرار ذلك، وبالفعل تزوجت لورا ولم تغير رأيها، وبقيت حتى الخمسين من عمرها دون أن تنجب أطفالًا.

من هنا بدأت القصة تأخذ منحى جديدًا، حتى لو كانت جذورها موجودة من قبل، فيكفي أن يظهر شخص ما أو حدث ما على غلاف مجلة التايم حتى تنقلب الأمور رأساً على عقب، ويخرج الأمر عن نطاق الحالات الخاصة إلى الصورة العامة.

دار الحوار مع عدد من النساء المنتميات للحركة، حول القيود التي يفرضها الإنجاب على الشريكين وكيف يمكن أن يكون وجود الأطفال في الحياة عائقاً في سبيل التخطيط للرحلات أو الخروج في نزهة والجلوس على الشاطئ، كما أن القيود المالية التي يفرضها إنجاب الأطفال والتبعات المالية التي يضطر الوالدين لتحملها من أجل الأطفال، تعطل الكثير من الخطط الحياتية وتشكل عناءً كبيراً.

وحتى يسير السيناريو بصورته الطبيعية، ويحقق المنتمون للفكرة الهدف المأمول، كان لا بد من آلية تغلق الباب تماماً حتى لا يصبح هناك شكل من أشكال الخطأ، فأعلن المنتمون عن رغبتهم في إجراء عمليات تعقيم جراحي، بموجبها تفقد المرأة تماماً القدرة على الإنجاب، ومن هنا تحولت الصدمة إلى كابوس بالنسبة لتلك المجتمعات، فالحديث في البداية من وجهة نظرهم كان مجرد تصريحات يمكن أن يذيبها الشوق أو الحب أو العاطفة في يومٍ ما، لكن تحطيم الباب بهذه الطريقة كان مثاراً للخوف.

تحول فيلم الرعب بصورة تراجيدية إلى فيلم دراما غير مفهوم، فعمليات التعقيم الجراحي كانت موجودة بالفعل في الولايات المتحدة في عام 1907 ضمن حملة «اليوجينيا» التي أطلقها مثقفو الولايات المتحدة آنذاك، بهدف منع الفئات الأكثر فقراً من التكاثر بوصفهم خطراً على البشرية، وأنه يجب تنقية الجنس البشري من أمثال هؤلاء. ثم استخدم هتلر الطريقة ذاتها مع اليهود، في خضم حربه للقضاء عليهم.

ولكن منذ إطلاق «اليوجينيا»، بدا وكأن العالم مرّ بتحولات جعلت وضع مشاهد الماضي والحاضر أقرب إلى الدراما الهندية. فبعد عام 1945 كان من الممكن أن ترى امرأة من ذوي البشرة السوداء أو أخرى يهودية تقف أمام الحشود باكية بسبب حرمانها من الحق في أن تنجب طفلاً بصورة قسرية، أما الآن فبإمكانك أن تشاهد امرأة تقف باكية أمام الحشود بسبب تسلط الطبيب في منعها من حق إجراء عملية تعقيم جراحي، لاعتقاده بأنها ضعيفة غير عاقلة ولا تملك الحق في الاختيار.

كان التحول في حد ذاته غريباً ومفاجئاً لكنه لم يتوقف عند ذلك الحد.

هل الأسباب منطقية؟

تتعدد الأسباب من حين لآخر، يتقبلها البعض ويرفضها البعض، فالآباء والأمهات يرون في تلك التجارب شكلاً طفولياً من أشكال الهروب من الحمل والإنجاب، بعد حضور الحفلات مع الأصدقاء أو عند الدخول في علاقة جديدة.

لكن المشاركات يجدن في الأمر ما هو أكبر من ذلك، ففئة كبيرة ترى أن الحصول على حياة حرة دون قيود أو تعقيدات متعلقة بالإنجاب يعتبر سبباً كافياً للإقدام على ذلك، بينما يرى آخرون أن سكان الكوكب قد وصلوا إلى أكثر من 7 مليارات بشري، مما يعني أن مستقبل البشرية صار مجهولاً وأن خطر استنزاف الموارد الطبيعية المحيطة محدق بالبشرية، وعليه فكلما قلّ عدد السكان قلّ الخطر، بينما قررن أخريات أنهن لن ينجبن أطفالاً ما دام أن مشكلة الاحتباس الحراري وتغير الجو لم تُحل بعد.

فئة أخرى ومنهم الرجال وجدوا أن الأمر اقتصادي بحت، فكلفة تنشئة طفل من صغره وحتى وصوله إلى سن الجامعة تصل إلى أكثر من 300 ألف دولار، وهو ما يشكل تحدياً كبيراً أمام رجل قرر أن يُكوّن أسرة، لذا قرر بعض الرجال ممن أيدوا الفكرة الخضوع لعمليات قطع القناة الدافقة، لتصبح قدرتهم على الإنجاب مستحيلة بالكامل، مع استمرار الحياة بشكل طبيعي.

لم تعد مجرد ظاهرة

تظهر الإحصاءات أن 22% من النساء في الولايات المتحدة قد خضعن لعمليات تعقيم جراحي، بجانب شيوع عمليات تعقيم الرجال الاختياري في مجموعة من الدول حول العالم مثل: كندا وأستراليا وبريطانيا وكوريا الجنوبية إيرلندا وإسبانيا وكذلك الولايات المتحدة.

أما عن المؤمنين بالفكرة، فقد أصبحت هناك مجموعة من المنظمات التي تدعم الفكرة وتضم تحت مظلتها جميع المؤمنين بها، مثل مؤسسة NO Kidding، وكذلك مؤسسة Non Parents، بالإضافة إلى تدشين يوم عالمي للحركة في الأول من أغسطس/آب كل عام، وفيه تختار الحركة كل عام شخصية مميزة لذلك العام بعد جمع الترشيحات.

وعلى الرغم من قوة هذه الحركات وما تتبناه من أفكار، فإن هناك صراعاً مجتمعياً عنيفاً يُشن ضدها حالياً، فالمجتمعات الغربية صارت أقل تقبلاً للمهاجرين الذين صاروا بديلاً منطقياً لفراغ المدن من سكانها وتفشي حالات الشيخوخة، وصار البديل المنطقي هو الحض على الإنجاب وزيادة معدلات المواليد، وهو أحد عوامل صعود اليمين المتطرف في أوروبا، وهو من يتبنى هذه الأفكار ويشن حربه الخاصة ضد الحركات المناهضة للإنجاب.

فهل يمكن أن تتزايد أعداد المدن الخاوية في السنوات العشر المقبلة، أم أن هناك سيناريو آخر يخبئه المستقبل من أجل العالم؟