تُباع الآن عظام الدواجن مقابل 15 جنيهاً، قبل عامين كانت تُباع بخمسة جنيهات فقط، ولا أعرف ماذا سأفعل إذا لم أتمكن حتى من شراء أرجل وعظام الدواجن.
لسان حال إحدى ربات بيوت الفقراء

أتعرف ما الفقر؟!

هو افتقار الناس إلى الوسائل اللازمة لتلبية احتياجاتهم الأساسية، أي «تلك الضرورية للبقاء على قيد الحياة»، وهو ما يضطرهم إلى التعرض للأخطار – وأحياناً للموت- سعياً للوفاء بتلك الاحتياجات.

الفقر هو تلك النتيجة السيئة المؤدية إلى نتائج أكثر سوءًا؛ متمثلة في ضعف الحالة الصحية، وانخفاض مستويات التعليم أو المهارات، وعدم القدرة أو عدم الرغبة في العمل، وارتفاع معدلات السلوك التخريبي في المجتمع.

وأياً ما كان التعريف الذي يستخدمه المجتمع، يظل الفقر هو الوضع الذي يود الناس دائماً الهروب منه. وبرغم تعدد تعريفاته المختلفة، هناك شيء واحد مؤكد؛ وهو أنه القضية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الأهم، الواجب مواجهتها والقضاء عليها بكافة الطرق المُمكنة.

وللفقر أسباب كثيرة، لعل أبرزها إحداث تغيير في الاتجاهات الاقتصادية في الدولة، مما يؤثر على قدرة الأفراد على توليد مزيد من الدخول الحقيقية لمواكبة احتياجات الحياة. ويزداد الأمر سوءًا عندما تنفق الحكومات الأموال في تشييد العواصم والمُدن الجديدة بدلاً من توجيه الدعم لأفقر المناطق.

وقد جلبت الإصلاحات الاقتصادية القاسية التي تتبناها الحكومة العديد من التحديات الاقتصادية للمصريين، وأهمها ارتفاع التضخم وزيادة الأسعار، مع آثارها السلبية على الطبقات المتوسطة والمنخفضة الدخل. وأدت تلك الإصلاحات بدورها إلى زيادة أعداد الفقراء غير القادرين على مواكبة الزيادة المُفرطة في أسعار احتياجاتهم الأساسية.


قسوة سياسات الإصلاح

تشمل الإصلاحات القاسية، التي أدت إلى توتر ميزانيات ملايين المصريين، تخفيض حاد في قيمة العملة، وتخفيضات كبيرة في دعم الطاقة وفرض ضريبة القيمة المضافة في البلاد لأول مرة. وجاءت تلك السياسات الجديدة كجزء من اتفاق مدته ثلاث سنوات بقيمة 12 مليار دولار مع صندوق النقد الدولي في نوفمبر/تشرين الثاني 2016.

وتباعاً لتنفيذ هذه السياسات، ارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية والمياه والوقود في السنوات الأخيرة، وارتفع التضخم أيضاً بعد تعويم الحكومة الجنيه المصري في نهاية عام 2016. وفي العام الماضي 2018، أعلنت وزارة المالية أنها تخطط لزيادة إيرادات الضرائب العامة بنسبة 131% بحلول عام 2022. وهو ما سيضيف المزيد إلى المشاكل المالية التي يعاني منها ملايين المصريين في الأساس.

وبالرغم من أنه قد تمت الإشادة بمصر لالتزامها بالتدابير التي وضعها صندوق النقد؛ وذلك خلال المراجعة الرابعة التي تمت في أبريل/نيسان الماضي، بعد أن أعلن المسئولون أن البلاد حققت مكاسب كبيرة، إلا أن المواطنين يعانون بشدة من سياسات التقشف المُتبعة، ناهيك عن ارتفاع معدلات التضخم والديون الخارجية، إلى جانب تراجع القوة الشرائية للعملة المحلية، وكذلك انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر بنسبة تقارب 25% العام الماضي، وفقًا للبنك المركزي.


المواطن يتحمل عبء الديون

وقعت مصر خلال مايو/آيار الجاري على قرض بقيمة 3 مليارات دولار مع البنك الصناعي والتجاري الصيني، لتصميم وإنشاء منطقة أعمال مركزية في العاصمة الإدارية الجديدة. على أن تُغطي الشريحة الأولى نفقات تصميم وبناء سبعة أبراج شاهقة على مساحة إجمالية قدرها 600 ألف متر مربع. ومن المُقرر أن تشهد منطقة الأعمال المركزية أيضاً تشييد 20 برجاً، بما في ذلك برج يبلغ ارتفاعه 385 متراً، سيكون الأطول في أفريقيا.

وفي يناير/كانون الثاني الماضي، حصلت مصر على صفقة بقيمة 1.2 مليار دولار من بنك التصدير والاستيراد الصيني لتمويل قطار كهربائي يمتد من واحدة من المناطق الصناعية الرئيسية في البلاد، مدينة العاشر من رمضان، إلى العاصمة الإدارية الجديدة.

وتلك القروض والصفقات المُوقعة اليوم، بهدف استثمارات غير مُدرة للربح، تتحول تلقائياً في السنوات المُقبلة إلى مزيد من الديون وفوائد الديون الواجب سدادها، والتي تؤدي إلى زيادة العجز في الموازنة، وهو ما يدفع الحكومة لتشديد سياسات التقشف بمزيد من الإجراءات التي تستهدف توليد مزيد من الإيرادات وتقييد المصروفات، وهو ما يؤدي بالتبعية إلى إلقاء مزيد من الأعباء على المواطن، ومن ثَمَّ زيادة معدلات الفقر.


زيادة حدة الفقر

كشف تقرير حديث للبنك الدولي أن حوالي 60% من المصريين إما فقراء أو ينتمون إلى أفقر المجموعات. معلناً عن استمرار التعاون مع الحكومة المصرية حتى عام 2021، من خلال إقامة شراكة استراتيجية لضمان المزيد من القروض والمساعدة لمصر.

وتأتي زيادة معدلات الفقر في مصر في ضوء تنفيذ القرارات الاقتصادية، مثل رفع الإعانات وفرض مزيد من الضرائب، والتي أثرت بدورها على الطبقة الوسطى، التي اختفت تقريباً وتحولت إلى طبقة الفقراء التي تعاني من ارتفاع تكاليف المعيشة.

ومع إعلان الحكومة، للمرة الخامسة منذ عام 2014، عن رفع أسعار الوقود وزيادة في أسعار والكهرباء، في يوليو/تموز المُقبل، بدأ كثير من الناس في إعداد أنفسهم لموجة جديدة من الزيادات في أسعار السلع والخدمات. فارتفاع أسعار الوقود وحده من شأنه أن يدفع التضخم إلى الارتفاع بنسبة 1.5%، وعندما يصاحب ذلك عوامل أخرى، من المرجح أن تزداد بنحو 3% في يوليو/تموز المُقبل، وذلك من شأنه أن يتسبب في انخفاض القوة الشرائية للمستهلكين.

ويكافح الاقتصاد المصري، باستثناء صناعة النفط، لجذب المستثمرين الأجانب وهو ما أدى إلى انخفاض نشاط القطاع الخاص غير النفطي في مصر للشهر السابع على التوالي في مارس/آذار الماضي، وفقاً لمؤشر مدراء المشتريات الصادر عن بنك الإمارات دبي الوطني. وتجدر الإشارة إلى أن نشاط القطاع الخاص توسع خلال خمسة أشهر فقط على مدار السنوات الثلاث الماضية.

ويؤكد البنك الدولي أن مصر بحاجة إلى بذل المزيد من الجهود لتسريع الاحتواء الاقتصادي وتزويد القوى العاملة المتنامية بفرص عمل أكثر، خاصة مع زيادة معدل عدم المساواة والفقر الوطني. مُشيراً إلى أن هناك تباينات جغرافية هائلة في معدلات الفقر، تتراوح بين 7% في محافظة بورسعيد و66% في بعض محافظات الصعيد.


هل تكفي برامج الحماية للحد من الفقر؟

في مارس/آذار الماضي، أعلن الرئيس السيسي أنه سيرفع الحد الأدنى للأجور إلى 2000 جنيه مصري (116 دولاراً) شهرياً من 1200 جنيه (53 دولاراً)، في محاولة لمساعدة الفقراء. لكن في المُقابل أعلن وزير الكهرباء أن البلاد ستنهي دعم الكهرباء على مدار السنوات الثلاث المقبلة وتحرر الخدمات العامة الأخرى بالكامل بحلول الأول من يوليو/تموز المُقبل، وهي خطوة من المحتمل أن تؤدي إلى مزيد من ارتفاع الأسعار المؤدية إلى زيادة أعداد الفقراء.

وبحسب تقارير المؤسسات الدولية، تحتاج الحكومة إلى بذل المزيد من الجهود لتسريع الاحتواء الاقتصادي وتزويد القوى العاملة المتزايدة بفرص العمل، وذلك من خلال تشجيع التنفيذ السريع لمشاريع إصلاح التعليم والصحة، مع دعم انتقال مصر إلى الاقتصاد الرقمي وخدمات الحكومة الإلكترونية.

فكان واجباً أن يتم تحقيق التوازن بين المضي قدماً في الإصلاحات الاقتصادية وتحقيق العدالة الاجتماعية، من خلال مزج حقيقي للبرامج التي تُعزز معدلات نمو اقتصادي أسرع وأعلى وتسمح للقطاع الخاص بالتوسع والنمو، مع برامج الحماية الاجتماعية التي تدعم الطبقات ذات الدخل المنخفض من خلال مشروعات تنموية حقيقية تهدف إلى زيادة فرص العمل وزيادة الدخل الحقيقي للمواطنين.

ويعد تمويل المشاريع والبرامج ذات الأولوية التي تعزز النمو الاقتصادي والاستثمارات في رأس المال البشري أمراً ضرورياً، ولكن يجب أن يشمل هذا تعبئة التمويل الخاص وتوجيه الاستثمار الأجنبي نحو تلك الاستثمارات دونما التحميل على الموازنة، بما يؤدي لزيادة العجز المالي وبالتالي يقع العبء مرة أخرى على المواطن.


فشل مماثل لإصلاحات التسعينيات

وتُذكرنا حالة الفقراء والطبقة الوسطى في مصر اليوم، بالواقع الذي عايشه الناس في أواخر الثمانينيات، بعدما بدت الحاجة واضحة إلى ضرورة إجراء إصلاح اقتصادي، بسبب تفاقم المشكلات الهيكلية بالاقتصاد المصري، وهو ما أدى بالحكومة إلى الاتفاق على برنامج للإصلاح الاقتصادي مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبموجبه تحصل مصر على تسهيلات تمويلية من الصندوق والبنك الدوليين.

واعتمد البرنامج أيضاً على المحاور ذاتها المُتبعة حالياً، من تحرير العملة وزيادة أسعار السلع والخدمات والتوقف عن استخدام سياسة التسعير الجبري وتحرير أسعار الفائدة بحيث تكون أعلى من معدل التضخم، والتوجه نحو خصخصة القطاع العام، إضافة إلى تحرير التجارة الخارجية بهدف التوسع في الانفتاح التجاري والتوجه نحو التصدير.

ويبدو واضحاً أن القرارات التي يُمليها الصندوق على مُقترضيه واحدة في كل الحالات مع اختلاف الأزمات، حيث تُجبر الحكومة على تطبيق السياسات الانكماشية بهدف الحد من التوسع النقدي بغية تقليل حجم الطلب الكلي، ومن ثَمَّ السيطرة على معدلات التضخم وتحرير أسعار الفائدة والصرف وخفض قيمة الجنيه المصري، بالإضافة إلى إلزام الدولة بتخفيض عجز الموازنة من خلال السياسات التقشفية وخفض الإنفاق العام.

وكانت أحد التحديات الرئيسية في مصر حينئذ (في الثمانينيات) هو أن الطبقة الوسطى الدنيا، التي تشكل غالبية حجم الطبقة الوسطى المصرية وتقدر بنحو 40% -تقع مباشرة فوق خط الضعف – أي أنها تنفق أعلى من قيمة الطبقة العليا من أجل تلبية احتياجاتها الأساسية.

ومع توقيع مصر اتفاقها مع الصندوق في عام 1990/1992 كان البعض يظن أن الاقتصاد المصري قد وضع أقدامه الطريق الصحيح للنهوض والرفاهة الاقتصادية، حيث شهدت المؤشرات النقدية والمالية تحسناً ملحوظاً تمثل في انخفاض عجز الموازنة لحدود 1% من الناتج المحلي الإجمالي، وانخفض الدين العام الخارجي لأقل من 50% لما كان عليه قبل توقيع الاتفاق. وربما تكون الآثار الإيجابية المُحققة في المرتين هي ذاتها أيضاً، حيث تسبب تحرير سعر الفائدة وسعر الصرف في زيادة كبيرة في تحويلات النقد الأجنبي إلى مصر.

لكن يظل السؤال الأهم؛ إذا كانت تلك الإصلاحات الاقتصادية التي طبقتها مصر وفقاً لشروط الصندوق في التسعينيات قد نجحت، فلماذا اللجوء إليها مرة أخرى؟ وإن كانت قد أثبتتت فشلها سابقاً، فلمَ اللجوء إليها أيضاً مرة ثانية؟

فكان الأحرى أن تتبنى الحكومة برنامجاً إصلاحياً يهدف إلى تعزيز النمو من خلال زيادة النشاط الإنتاجي والاستهلاكي، والتوجه نحو دعم التصدير، وتبني سياسات تحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية الضرورية بدلاً من التوجه لاستيرادها، وذلك بهدف دعم التنمية المُستدامة للاقتصاد المصري.