ربما تقرر شراء «قميص وبنطلون»، فتذهب إلى أحد المتاجر لتجد أسعار الملابس باهظة، حينها يتدخل البائع ليخبرك قائلا: «أصلها مستوردة يا باشا»، فتستدعي ذاكرتك مشهد العبقري فؤاد المهندس في فيلم عائلة زيزي، حين قال عبارته الشهيرة «المكنة طلعت قماش»، لتتذكر كيف كانت الصناعة تحظى باهتمام رسمي ومجتمعي وفني، فتترك المتجر وأنت تتحسر على هذه الصناعة، ليطالعك تساؤل رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي خلال احتفالية عيد العمال عام 2019:

يا ترى إحنا اللي بننتج كل قمصانا وبنطلوناتنا وكرافتتنا!

حينها يشغلك التساؤل، والإجابة أيضًا. ولكي تجيب على سؤال الرئيس «لازم تبدأ الحكاية من أولها». لذا استعد لرحلة عبر تاريخ الذهب الأبيض الذي لا يزال أبيض، لكنه لم يعد ذهبًا.


تاريخ الصناعة

عرف الفرعون المصري الغزل والنسج، وطوَّر هذه الحرفة اليدوية، وتوارثها المصريون عبر الأجيال حتى بداية القرن 19 الميلادي، حيث تحولت إلى صناعة في نحو 30 ورشة ببولاق والمنصورة، ضمن النهضة الصناعية في عهد محمد علي باشا، الذي أدخل زراعة القطن طويل التيلة عام 1820، ومنذ حينها صار القطن المصري هو الأجود على مستوى العالم، لتصبح بعدها الغزل والنسيج هي الصناعة المصرية الأهم، واعتمدت حينها على العمالة الرخيصة، وعمل النساء، خاصة في الريف. وفي عام 1873 بلغ عدد عمال الغزل والنسيج نحو 30 ألفًا، منتشرين في القاهرة والإسكندرية والمحلة الكبرى.

وفي أواخر القرن الـ 19 تضخمت الصناعة بعد إنشاء الشركة الأهلية للغزل والنسيج، وفي عشرينيات القرن الماضي بدأت الانطلاقة الحقيقية لهذه الصناعة على يد طلعت حرب باشا، حينما أنشأ شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى التابعة لبنك مصر، ليبدأ تأسيس المصانع على أسس علمية، فتتوسع الصناعة وتزدهر، لتتحول مصر إلى دولة مصدرة للغزل في عام 1949.

وكنتيجة لاهتمام دولة يوليو 1952 بالصناعات أصبح للغزل والنسيج أهمية خاصة، ضمن قلاع للصناعة في المحلة الكبرى وكفر الدوار وغيرها.

وفي السبعينيات سمح الانفتاح الاقتصادي بدخول القطاع الخاص في الصناعة للمرة الأولى، ورغم ما أصاب الصناعة – كغيرها – بفعل سياسات الانفتاح فإنها ظلت مستقرة، حتى عام 1991، حين صدر قانون قطاع الأعمال العام، الذي بدأ الانهيار على يديه؛ لسماحه بخصخصة الشركات الخاسرة. وتمهيدًا لذلك فتحت الحكومة أبواب المعاش المبكر، فترك الصناعة أكثر من 100 ألف عامل، ثم توقفت الدولة عن ضخ الاستثمارات في القطاع، فتوقفت عمليات التطوير والصيانة والتجديد، وتم تكهين مصانع بالكامل.

ثم جاء يوسف بطرس غالي ومحمود محيي الدين؛ ليقودا خصخصة سيئة السمعة عام 2005، سعت فيها الحكومة إلى التخلص من هذه الصناعة المنهارة بفعل خسائر فاقت 33 مليار جنيه، لكنها لم تبع سوى شركتين من 34 شركة، فاستمر نزيف الخسائر، حتى أصبحت استثماراتها المقدرة بـ 50 مليار جنيه مهددة بالضياع، وناضل العمال ضد النظام الذي واجههم بالقوة الباطشة، وبعد أن كانت مصر أكثر الدول تصديرًا للمنسوجات صارت من أكثرها استيرادًا، وباتت مهددة بالخروج من الصناعة.


ركود الصناعة

عام 2009 سجل القطن أدنى مستوى إنتاجي له منذ أكثر من 100 عام، حيث بلغ 105 آلاف طن، وذلك بعد 227 ألف طن عام 2008، كما تقلصت زراعات القطن، فبلغت نحو 316 ألف فدان عام 2008، بعد أن كانت نحو 933 ألف فدان عام 1990.

وفي عام 2012 بلغ الإنتاج 1.79 مليون قنطار بعد 2.2 مليون قنطار عام 2011، كما حققت شركات القطاع خسائر وصلت إلى 16 مليار جنيه، وبلغت ديونها حوالي 17 مليار جنيه، لتنهار الصناعة التي تضم أكثر من 10 آلاف مؤسسة صناعية بالقطاعين العام والخاص، فضلًا عن مئات الورش، إلى جانب أنه يعمل بها قرابة 25٪ من القوى الصناعية العاملة بمصر، بعدد عاملين يصل إلى أكثر من مليون فرد، يساهمون بنحو 35٪ من ناتج قطاع الصناعات التحويلية.

واستمر الاستنزاف والنزيف في الأعوام التالية،وتقلصت مساحة القطن لتصبح 133 ألف فدان عام 2016، وبلغت خسائر الصناعة مطلع 2018 فقط نحو 2.7 مليار جنيه.


تدهور الصناعة

تضافرت عدة عوامل أدت إلى تدهور هذه الصناعة الكبيرة، منها:

زراعيًّا

تدهورت زراعة القطن وانخفضت أراضيه، وذلك بسبب إهمال الدولة ومعاناة المزارعين من عدم التسويق، واعتماد المصانع والشركات على الأقطان المستوردة متوسطة وقصيرة التيلة التي لا تُزرع في مصر، في ظل انخفاض أسعارها، وعدم قدرة المحصول على تلبية احتياجات الصناعة المحلية، كذلك لم يعد القطن مُربحًا للفلاح، إلى جانب أن حصده يتطلب تكاليف عالية، وعمالة كثيفة، في ظل اعتمادنا على العنصر البشري.

و تشير تقارير إلى أن هناك عملية تدمير ممنهجة للقطن المصري من خلال برامج البحوث المشتركة بين الجانبين الأمريكي والمصري منذ عام 1986، ضمن برنامج للبحوث يُسمي «نارب»، والذي استهدف خلط أقطان أمريكية بسلالات مصرية؛ لإنتاج سلالة جديدة، مما تسبَّب في محو للصفات الوراثية للسلالات المصرية، ليحصل الأمريكان والإسرائيليين على سلالات ساعدتهم على غزو الأسواق العالمية.

صناعيًّا

عانى القطاع لعقود من عدم تجديد وتطوير الميكنة والمحالج، وخصخصة الشركات، فضلًا عن استيراد غالبية مدخلات الصناعة، وتصدير القطن كخام، وعدم توافر أراضٍ مخصصة للصناعة، وكذلك نقص العمالة المدربة؛ لضعف التعليم الفني وعدم الاهتمام بالجانب العملي والتدريبي فيه، في ظل إهمال مدارس النسيج.

إلى جانب أن إنتاج الأقطان والغزول لا يكفي احتياجات الصناعة المحلية، فيتم اللجوء للاستيراد لتغطية الاحتياجات، في ظل أن القطن ليس المادة الخام الوحيدة في صناعة النسيج، حيث باتت الألياف الصناعية تمثل ركنًا رئيسًا في الصناعة، وهو مجال لا تهتم الدولة بالاستثمار فيه.

تقنيًّا

لا توجد قاعدة بيانات شاملة للصناعة تُحدد المتاح والمطلوب، وعدد المصانع التي أُغلقت أو تعثرت، كذلك لا يمكن الوقوف على حجم الصناعة رغم ضخامتها؛ لافتقادها لقواعد البيانات الشاملة والمتخصصة، كما أن الصناعة لا تزال تقليدية ولم تتطور، وهو ما دفع إلى استيراد غالبية مستلزماتها؛ بسبب تقادم الماكينات، وضعف إنتاجيتها.

اقتصاديًّا

ترفض البنوك تمويل الغزل والنسيج؛ لأنها صناعة باهظة المصروفات، مما يدفع المصنعين إلى الاعتماد على الأقطان المستوردة قصيرة التيلة لرخص أسعارها، في ظل تعويم الجنيه الذي أدى إلى ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الخام وتكلفة الأيدي العاملة ومصاريف النقل، ومعظم عناصر الإنتاج المستوردة.

كما يعاني القطاع كثيرًا من عمليات التهريب وإغراق السوق بالبضائع المستوردة، خاصة الصينية، مما أدى إلى توقف أو تعثر مئات المصانع، وزيادة عدد المصانع المهددة بالإغلاق والإفلاس؛ بسبب خسائرها الفادحة، الناتجة عن ارتفاع تكلفة الإنتاج وضعف قدرة المستهلك على الشراء، وتدهور أهم مدخلات الصناعة وهو القطن المصري، وتزايد الطلب على الألياف الصناعية لمتانتها وانخفاض أسعارها، فضلًا عن سيطرة دول كالهند والصين وتركيا على مساحة كبيرة من السوق العالمية؛ لأنها تُصدِّر القطن بأسعار منافسة، مما أدى إلى انتقال شركات الملابس العالمية إلى هذه الدول بعد انسحابها من السوق المصرية.

إجرائيًّا

الوزارات المعنية لم تراعِ المطلوب من الصناعة، ولم تواكب متغيرات وتطورات الأسواق العالمية، فتراجعت مكانة مصر لصالح دول أخرى باتت تتصدر المبيعات كالصين والهند، في ظل ما يعانيه القطاع من بيروقراطية الإجراءات، والافتقاد لاستراتيجية حقيقية قابلة للتنفيذ، فضلًا عن وجود بنود بقانون الاستثمار تجعل المستثمرين يتخوفون من الدخول في هذه الصناعة التي تعاني من الإهمال الإداري، وتفتقد لإدارة فنية متخصصة.

الأمر الذي أدى إلى تدهور القطاع، وتضخم مشكلاته، واختلال هياكلية الوظيفية والعمالية، وتراكم مديونياته؛ بسبب كثرة الاقتراض من البنوك، تلك القروض التي لم تُنفق على التجديد وفق خطة محددة فضاعت، وضاعت معها منح تحديث الصناعة التي أُنفقت في غير محلها.

عمَّاليًّا

أجور عمال القطاع من أدنى مستويات الأجور، كما أن أوضاع العمل غير آمنة، في ظل أن القطاع هو الأفقر بين قطاعات الدولة مقارنة بقطاعات البترول والكهرباء والاتصالات، وقد أدت الزيادات المتتالية في الأجور إلى تضخم مديونيات المصانع، كما أن الإهمال أدى لعزوف العمال عن الصناعة.


التطوير: خطط فقط!

أعلنت الحكومات المتعاقبة عن خطط تنموية تستهدف تنمية القطاع، لكن الأمر ظل «مجرد إعلان» دون تنفيذ أو نتائج تنموية ملموسة، ففي عام 2015 شكَّل إبراهيم محلب، رئيس الوزراء حينئذ، لجنة عليا للقطن برئاسته؛ وذلك لإنقاذ الصناعة، بالتزامن مع الإعلان عن تكليف مكتب أمريكي بوضع دراسة لهيكلة وتطوير شركات ومصانع القطاع العام.

وفي 2017 أوصى شريف إسماعيل، رئيس الوزراء السابق، بضرورة وضع خريطة جديدة لزراعة القطن بشكل يلبي احتياجات الصناعة، وكذلك تقديم الدعم الكافي للمصانع، وزيادة الطاقة الإنتاجية وصادرات المنسوجات.

وعلى مدى 2017 كثُرت اجتماعات المجلس الأعلى للصناعات النسيجية؛ من أجل وضع رؤية واستراتيجية متكاملة لتطوير الصناعة، وأُعلن عن جذب استثمارات جديدة، وإنشاء 3 مدن نسيجية، إلى جانب وضع سياسات ترويجية جديدة تواكب المستجدات العالمية، وزيادة زراعات القطن، ورفع كفاءة وإنتاجية الفدان، وتنفيذ خطة متكاملة لتطوير المحالج والمصانع، وتزامن ذلك مع الإعلان عن مبادرة بعنوان «القطن من البذرة إلى الكسوة» بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي؛ لإنشاء 4 مدن صناعية للنسيج، والعمل على تأهيل العمالة المدربة، من خلال تطوير المناهج التعليمية، والمعدات الخاصة بالمدارس الفنية.

وفي مطلع 2018 أعلن مجلس الوزراء عن بدء تنفيذ مشروع مدينة ضخمة للنسيج بمدينة السادات، تحمل اسم «مدينة مان كاي»، نسبة للشركة الصينية القابضة المستثمرة في المدينة، وتتضمن 568 مصنعًا، تُنفَّذ على 5 مراحل، تنتهي الأولى عام 2020 والخامسة في عام 2024، لتكون أضخم تجمع لصناعة المنسوجات والملابس في مصر على مساحة 3.1 مليون متر مربع، بإجمالي رأسمال ملياري دولار، باستثمار أجنبي بنسبة 87%، ومحلي بنسبة 13%، بقيمة إنتاج سنوية تصل إلى 9 مليارات دولار.

وبالتزامن أعلن مجلس الوزراء عن مخطط للنهوض بزراعة القطن، وخطة عاجلة لتطوير المحالج، وخطط تنموية لإنشاء مدن صناعية للنسيج، ومنها مدينة الغزل والنسيج في المنطقة الصناعية بالمنيا.

وفي مطلع 2019 أعلنت الحكومة عن إنشاء المنطقة الصناعية بالمحلة الكبرى على مساحة 34 فدانًا، والتي تم الإعلان عنها قبل 11 عامًا، إلا أن السيسي أعاد إحياء المشروع؛ تمهيدًا لطرحه للمستثمرين؛ لإقامة منطقة صناعية متخصصة لصناعات الغزل والنسيج والملابس الجاهزة.

وفي أبريل/نيسان 2019، وعلى هامش قمة «منتدى الحزام والطريق للتعاون الدولي»،عُقدت اتفاقيات (مصرية–صينية)؛ لتطوير الصناعة مع كبريات الشركات الصينية العاملة في مجال المنسوجات والملابس الجاهزة.

كل هذه الخطط تُعلن في ظل الافتقاد لإدراك شامل لكل عناصر منظومة صناعة النسيج، وعدم وجود رؤية كاملة للنهوض بالصناعة، وهو ما يجعل «المكنة ما تطلعش قماش»، ليبقى الوضع على ما هو عليه، ولنعرف «لماذا لا ننتج قمصانا وبنطلوناتنا»!