على الرغم من أن مهر الثيب كان أقل من مهر البكر إلى حد ما، فإن مهر الثيب أيضا كان مبلغا كبيرا، والحديث عن أن المطلقة في العصر العثماني كان من الصعب عليها أن تتزوج مرة أخرى هو محض خرافة.

المؤرخ عبد الرحيم عبد الرحمن في حديثه عن الطلاق في العصر العثماني

في المثل «لا تأخذ المطلق ولا تسكن في المعلق». وكراهية الطلاق في المجتمع المصري المعاصر من الأمور شبه المجمع عليها، وكثيرا ما ينظر المجتمع للمطلقة على أنها امرأة فاشلة اجتماعيا في أحسن الأحوال، إن لم تكن امرأة سيئة لا ترقى ليتزوجها أحد في أسوئها، ونادرا ما تستطيع المرأة المطلقة الزواج من أحد اللهم إلا لو كان مطلقا مثلها أو كبير السن وما شابه. وهذا كله ينشأ من المبالغة في كراهية المجتمع للطلاق، وكم من أسر تعيش مع بعضها البعض وهي منفصلة روحا ونفسا وعقلا لكن لا تريد الزوجة أن تنفصل عن زوجها خوفا من عار الطلاق. ومؤخرا توالت الدعوات من الدولة لوضع القوانين للحد من حالات الطلاق. والسؤال الذي نطرحه في هذا المقال هو لماذا هذه النظرة المجتمعية الكارهة للطلاق؟ وما موقف الإسلام والتاريخ منها؟


الطلاق في الفقه الإسلامي

في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه «إن أبغض الحلال عند الله الطلاق»، واستدل المرغيناني به في «الهداية» على جواز الطلاق وعلى أنه غير مكروه شرعا، وكيف يكون مكروها وقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم هو حلال، وبغضه لا يلزم منه درجة الكراهية الفقهية. لكن اختلف الفقهاء الحنفية: هل يجوز الطلاق دون سبب؟ فذهب ابن الهمام إلى أنه يلزم للطلاق أن يكون هناك سبب كريبة أو كِبَر،[1] وتتبع ابنُ نجيم ابنَ الهمام في أن ما قاله من حل الطلاق «للحاجة» فقط ضعيف وخلاف المذهب، بل الطلاق مباح بإطلاق. وذهب ابن عابدين إلى قريب من قول ابن الهمام فقال: إن الطلاق دون سبب كفران نعمة وقلة عقل.[2] لكن في المحيط البرهاني أنه لو طلقها من غير ذنب منها جاز.[3] وذهب ابن قدامة الحنبلي إلى أن الأصل هو الحل لكن قد يكره إن كان بلا سبب.[4] وذهب ابن نجيم إلى استحبابه إذا كان لسوء لسان أو ترك صلاة وما شابه.[5]

وأيا كان هذا الخلاف فلا يخفى عليك أنه يدور حول السؤال عن كون الطلاق دون سبب مباحا أم مكروها أم حراما، أما الطلاق بسبب فهم متفقون على جوازه بل ذهبوا إلى استحبابه ووجوبه في أحيان. وكيف يُكره الطلاق وقد طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة، وطلق عمر أم عاصم، وطلق عبدالرحمن بن عوف تماضر، وطلق المغيرة بن شعبة زوجاته الأربع.[6] وحديث زوج ثابت بن قيس التي جاءت وقالت للنبي والله لا أعيب عليه خلقا ولا دينا ولكن أكره الكفر في الإسلام ( أي أنها تكره أن تفعل فعل الكفار من عصيان الزوج لكرهها له وهي مسلمة) فكان رد النبي صلى الله عليه وسلم أن أمرها برد مهرها وأمره بتطليقها، بل إنه جاء في رواية أنها كرهته لأنه كان دميما قصيرا، وهذا هو سبب الانفصال فقط![7] فهل كره لها النبي الطلاق أو نهاها عنه أو قال لها كذا وكذا مما هو اليوم؟


الطلاق في التاريخ الإسلامي

الطلاق في الماضي – قبل الحداثة – كان أمرا معتادا ومألوفا ولم يكن عيبا ولا شينا، فعلى سبيل المثال نجد السخاوي في الضوء اللامع قد ترجم لـ500 امرأة، ونجد ثلثهن قد تزوج أكثر من مرة، وكثير من هذا الثلث قد تزوج مرتين أو ثلاثة أو أكثر.[8]

وفي دراسة عن المرأة في العصر العثماني يقول المؤرخ عبد الرحيم عبد الرحمن: «إنه على الرغم من أن مهر الثيب كان أقل من مهر البكر إلى حد ما، إلا أن مهر الثيب أيضا كان مبلغا كبيرا، والحديث عن أن المطلقة في العصر العثماني كان من الصعب عليها أن تتزوج مرة أخرى هو محض خرافة»[9] ويوسف رابوبورت في دراسته المهمة عن «الطلاق في العصور الوسطى الإسلامية» يقدم سردية متكاملة عن عدم كراهية الطلاق إذا كان له داع، وذلك بسبب غياب النظرة الاجتماعية المسيئة للمرأة المطلقة، ووجود فرص عمل دائمة ومتوفرة لعمل المرأة في الغزل من بيتها، بالإضافة إلى انتشار الوقف على المرأة التي لا عائل لها، والذي كان بمقدور المرأة أن تجد من خلاله سكنا ومطعما ومشربا طوال حياتها.[10]


الحداثة والطلاق

ارتبطت النظرة للزواج والطلاق في العصر الحديث بما يعرف بالقيم الفكتورية في أوروبا، والتي مع غيابها في أوروبا فإنها ما زالت قائمة في مجتمعات العالم الثالث. وتتمثل الفكرة الرئيسة في هذا السياق في كون الدولة القومية قائمة على مجموعة من الأسر النووية (الأب والأم والأولاد)، والدولة تنظر لهذه الأسر على أنها الركن الركين والقوام الأساس الذي تقوم عليه؛ ولذا فإن أي انهيار للأسرة يعني انهيارا للّبنة الأولى التي قامت عليها الدولة، ومن ثم انهيار للدولة. ومن منا لا يذكر مثيلا لهذا الكلام أثناء دراسته في المدارس الابتدائية والإعدادية، (لمنى روسل كتاب مهم عن ترسيخ تلك القيم من خلال غرسها في الكتب المدرسية)[11] ومن ثم فقد صارت الأسرة النووية كما يسميها كينيث كونو «مبدأً أيدولوجيا» وصار عيانا على الدولة أن تسعى بكل السبل للحد من حالات الطلاق، فالطلاق يمثل أمرين: الأول تهديد بنية الدولة القومية (الحديثة)، والثاني تناقضه مع القيم الفكتورية الحداثية.

ومن المهم أن نقول إن الحداثة الحالية لا تتنافى مع الطلاق، بل إنها أحد أسباب تفتت الأسرة، لكن الحداثة الحالية الموجودة في العالم الغربي بالنسبة لأمور الزواج تختلف عن الحداثة الفكتورية الموجودة في العالم العربي، وهنا يتمثل ما يعرف بفكرة الحداثات المتعاقبة كما يسميها بيتر فاجنر، والتي تختلف الواحدة منها عن الأخرى. فالحداثة الفكتورية تتعارض مع الطلاق، والحداثة الحالية تشجع تفكك الأسرة. لكن السائد في العالم العربي بالنسبة للزواج هو ذلك النوع الفكتوري من الحداثة الأولى التي ترى في الطلاق خطرا على بنية المجتمع والدولة.

ومن الطريف أن الحديث عن ارتفاع حالات الطلاق في مصر هو حديث قديم، ففي قراءة للصحف منذ أكثر من قرن نجد عناوين من قبيل ارتفاع غير مسبوق في حالات الطلاق، ودعوات لتدخل الدولة للحد من الطلاق. فنجد على سبيل المثال في بداية القرن العشرين دعوة من أحد الكتاب إلى رفض الطلاق الشفهي وإلى اعتباره غير واقع إذا لم يكن أمام القاضي المختص.[12] والسبب في ذلك كما تقول حنان خلوصي: أن الطلاق صار ينظر إليه كعلامة للتخلف والرجعية التي تهدد الدولة المصرية «الحديثة»[13] وفي الوقت الحالي كثرت صرخات العويل حول ارتفاع حالات الطلاق في مصر، ففي مقال للأهرام نشر سنة 2015 نجدها تقول في عنوان صارخ «مصر أولى دول العالم في الانفصال».[14] لكن هل هذه هي الحقيقة؟ وفقا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لسنة 2013 نجد أن معدل الطلاق 0.19% في حين أن معدل الزواج 1.7% مما يعني أن نسبة الطلاق للزواج هي 17.7 [15] في حين أن نسبة الطلاق في الولايات المتحدة على سبيل المثال هي 0.36% ونسبة الزواج هي 0.68% أي أن النسبة بينهما هي 52%[16]، وهي تقارب ثلاثة أضعاف المعدل في مصر!

إن هذه النبرة المتعالية في التحذير من الطلاق في وسائل الإعلام وغيرها ما هي إلا نتيجة القيم التي انغرست في فكر الناس على مدى عشرات السنوات، الأمر الذي هيأ لهم المبالغة في وصف هذه الظاهرة، وإن المبالغة في كراهية الطلاق كان نتيجة مباشرة للحداثة، فلم نكن نشعر بهذا الامتعاض والخوف والعار الاجتماعي في تاريخنا وحضارتنا.


[1] ابن الهمام. كمال الدين. فتح القدير شرح العاجز الفقير. القاهرة: المطابع الكبرى الأميرية في بولاق. 1898. ثلاث مجلدات. صـ 22.

[2] ابن عابدين. محمد أمين رد المحتار على الدر المختار. بيروت: دار الفكر. 1992. 3 مجلدات. صـ 229.

[3] ابن مازه. برهان الدين. المحيط البرهاني في الفقه النعماني. بيروت: دار الكتب العلمية. 2004. 3 مجلدات. صـ 171.

[4] ابن قدامة. موفق الدين. المغني. القاهرة: مكتبات القاهرة. 1968. 7 مجلدات. صـ363.

[5] ابن نجيم. زين الدين. البحر الرائق شرح كنز الدقائق. بلا مكان : المطابع العلمية. بلا تاريخ. 3 مجلدات. صـ225.

[6] ابن عابدين. محمد أمين. منحة الخالق على البحر الرائق. على حاشية ابن نجيم. زين الدين. البحر الرائق شرح كنز الدقائق. بلا مكان: المطابع العلمية. بلا تاريخ. 3 مجلدات. صـ 254.

[7] العسقلاني. ابن حجر. فتح القريب شرح صحيح البخاري. بيروت: دار المعرفة.1379 للهجرة. 9 مجلدات. صـ400.

[8] رابوبورت. يوسف. الزواج والمال والطلاق في المجتمع الإسلامي في العصور الوسطى. القاهرة: تراث البحوث والدراسات. 2016. صـ 36- 38.

[9] Abdal-Rehim, Abdal-RahmanAbdal-Rehim. 1996. “The Family and Gender Laws in Egypt During

the Ottoman Period” In Women, the family, and divorce laws in Islamic history, ed. Sonbol, Amira El

Azhary, 96-111. Syracuse, N.Y. : Syracuse University Press.

[10] رابوبورت. يوسف. الزواج والمال والطلاق في المجتمع الإسلامي في العصور الوسطى. القاهرة: تراث البحوث والدراسات. 2016. صـ 36- 38.

[11] Russell, Mona L. Creating the New Egyptian Woman: Consumerism, Education, and National

Identity, 1863-1922. New York, NY: Palgrave Macmillan, 2004.

[12] Mashhour, Amira.“Islamic law and gender equality-could there be a common ground?: A study ofdivorce and polygamy in sharia law and contemporary legislation in Tunisia and Egypt.” In Islamic

Law in Practice, edited by MashoodBaderin, 563-582. England: Ashgate Publishing Limited, 2014.P.591

[13] Kholoussy, Hanan. For Better, for Worse the Marriage Crisis That Made Modern Egypt. Cairo:American University in Cairo Press, 2010. P.77

[14]مصر أولى دول العالم في الانفصال. زرته بتاريخ 1-5-2016.

http://www.ahram.org.eg/NewsPrint/432557.aspx

[15] Egyptian Central Agency for Public Mobilization and Statistics Census, 2013.

[16] NVSS National Marriage and Divorce Rate Trends accessed on 1-5-2016

http://www.cdc.gov/nchs/nvss/marriage_divorce_tables.htm