محتوى مترجم
المصدر
Jacobin
التاريخ
2017/09/05
الكاتب
شوجا حيدر

انتقدت «باري ويس» في عمودها بصحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية مؤخرا ما أسمته بـ «اليسار المتشدد على نحو متزايد»، نظرا لخطابه حول مسألة «الاستيلاء الثقافي» -أي تبني عناصر ثقافة معينة بواسطة أعضاء منتمين لثقافة أخرى- ووفقا لويس، فإن الاستيلاء الثقافي يظهر جليا في جميع أركان الحياة الأمريكية: بداية من فن المتاحف والمطاعم والمسرح، مرورا بالسينما وعروض الأزياء، وانتهاء عند الرواية وداخل الحرم الجامعي.

لقد أصبح الاستيلاء الثقافي نقطة مضيئة للنقاشات. ففي الأماكن العادية مثل غرف تناول الطعام والأماكن المرموقة كدار الأوبرا، اندلع صراع حول اختلال توازن القوى فيما يتعلق بالتبادل الثقافي. لكن يبدو أن ويس ليست على دراية بأن اليسار ليس موحدا في هذه القضية، حيث إن النقاشات حول الاستيلاء الثقافي وسياسات الهوية تطلق دائما شرارة الخلافات وتتسبب في إنهاء الصداقات.

على الرغم من ذلك، فإن ويس تقوم بتسطيح أي حوار حول المسألة حيث تقول:

يكون الأمر مربكا بشكل خاص عندما يكون أولئك السارقون «أغنياء» كما لو كانوا قد جاءوا من جماعة عرقية أو ثقافية أو دينية مهيمنة وأن من يسرقونهم «فقراء»

وليس واضحا إذا ما كانت ويس تشبه الأغنياء بالجماعات العرقية أو الدينية أو الثقافية المهيمنة، أو أنها تزعم أن اليسار هو من صنع ذلك الخلط. كما أن ويس لا تباليِ بتفسير ما تعنيه بكلمة «فقراء». لقد استخدمت ويس تلك المصطلحات غير المحددة للفصل بين «الاستيلاء الثقافي» و«التنمية الثقافية»، وهو الفارق الذي تزعم أن «اليسار المتشدد» قد فشل في ملاحظته.

وتقول ويس: «يشكك القليل منا في أن السرقة أمر خاطئ، خاصة من الفقراء. إلا أنه قد تم استغلال الاتهام بـ «الاستيلاء الثقافي» بشكل كبير للاعتراض على مفهوم «التوفيق بين المعتقدات»، وهو خلط بين أفكار وأديان وثقافات وعرقيات مختلفة يخلص في أغلب الأحيان إلى خلق شيء جديد بالكامل». بمعنى آخر أن ذلك الخلط هو العلمية الطبيعية في بلد أشبه ببوتقة الانصهار مثل بلدنا.

وهنا تميز ويس بين الاستيلاء (السرقة) والتوفيق بين المعتقدات، ومكونات أنشطة الجماعات الثقافية. على الرغم من أن ويس تجيز بشكل ضمني بإمكانية وجود أشكال غير مقبولة سياسيا للاستيلاء الثقافي، فإنها لم تعطِ أي أمثلة في ذلك الصدد. كما تشير ويس إلى أن التوفيق بين المعتقدات يدل على تفرد ثقافة واحدة، وهي الثقافة الأمريكية التي تُعد بمثابة «بوتقة الانصهار».

إن تعليقات ويس قوبلت بانتقادات واسعة النطاق. ففي رد ورد بمجلة «بيست» الأمريكية وصف التعليق بأنه عمل لكاتبة تعتقد أن البيض يستحقون الحصول على أوسمة كمكافأة عن استيلائهم على أفكار من الثقافات المهمة وإساءة استغلالها.


العملية والمنتج

إن كلمة «استيلاء appropriation» تستخدم في الوقت الحالي للإشارة إلى مجموعة كبيرة من الممارسات. وأحد تلك الممارسات التي هي تشكيل الثقافات الفرعية، والتي كما فسرها المفكرون الماركسيون مثل ستيوارت هول أنها تصف كيف أن الجماعات، وخاصة المهمشة، تستخدم الثقافات الفرعية لبناء المجتمع.

كما أن هناك تصنيفًا أكبر للتوفيق بين المعتقدات الثقافية، والتي تزعم ويس أنها تدافع عنها، والذي يصف مسألة التبادل عبر الحواجز الثقافية. أخيرا، يستغل رأس المال «التسليع» ليعيد إنتاج الممارسات الثقافية بغرض تحقيق الربح. إن تلك العناصر لا تكون منفصلة دائما بشكل واضح، لكن فهمنا للاستيلاء الثقافي يتدهور إذا فشلنا في تحديد العوامل المادية المؤثرة.

ومن خلال إخفاء الطريقة التي تُشكِل بها الهرمية الاقتصادية والاجتماعية الثقافة، خلقت ويس انقساما زائفا. كما أن ويس ترفض بشدة أولئك الذين يزعمون أن الاستيلاء الثقافي مشابه لقيام الأغنياء بالسرقة من الفقراء، لكنها لم تفسر إذا ما كان سبب ذلك هو اعتقادها أن الأغنياء تحق لهم هذه الغنائم، أم لأنها تعتقد أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء لا تؤثر على الإنتاج الثقافي. وتعزو ويس أيضا هذا التشوش إلى «اليسار المتشدد» دون تقديم إطار عمل بديل.

إن مصطلحات ويس تخلط بين الآثار المادية والمفاهيم المثالية، مثل الاختلاف العرقي. وكما أشارت أستاذة التاريخ الأمريكي باربرا فيلدز، فإن هذا الخطأ يقلب العمليات الاجتماعية وما ينتج عنها. وجاء في أحد أعمالها مع عالمة الاجتماع كارين فيلدز:

واختصارا، فالعنصرية واقعية، لكن العرق ليس كذلك. عندما يتحدث الناس عن العرق، فهم يشيرون إلى مجموعة من العوامل، من بينها النمط الظاهري البيولوجي والتراث الثقافي، وفي غالب الأحيان يتجاهلون التفريق بينهما. ففي حين أن الفارق الظاهري والثقافي موجودان بشكل دائم، فهما لا يرتبطان ببعضهما ارتباطا دائما، كما أنه لا يتم تحديدهما عند الولادة.

إن المفكرين الأكثر إدراكا والذين تعاملوا مع سياسات الثقافة لا يرتكبون ذلك الخطأ. في حقيقة الأمر، إن بعضا من أوائل المنتقدين لمسألة الاستيلاء الثقافي لم يكونوا مهتمين بمسألة التوفيق بين المعتقدات نفسها. فقد كان الموضوع الأبرز في تحليلاتهم هي المشكلة التي لم تعترف بها ويس: الرأسمالية.

لقد استخدمت ويس بشكل ملائم حفل «جوائز إم تي للأغاني المصورة» لإطلاق خطابها اللاذع، حيث كان انتقاد الموسيقى هو منبر النقاشات الأكثر حدة حول الاستيلاء الثقافي. فالشاعر أميري بركة مؤسس حركة الفنون السوداء، قد تطرق لتلك المسألة في سياق تأييده ودعمه لعازفي موسيقى الجاز السود. وخلال مقال له عام 1963 كتب بركة:

إن الإخفاق في فهم أن عازفي الجاز بول ديزموند وجون كولترين لا يمثلان أسلوبي فهم مختلفين حول الموسيقى، وأنهما يمثلان أسلوبين مختلفين في رؤية العالم، يستقر ضمن المفاهيم الخاطئة الراسخة التي تُنشر يوميا كتعليق على الانتقادات التي توجه لموسيقى الجاز.

إن تعقيد المسألة قد انتهى ببركة عند مجموعة من وجهات النظر، من بينها القومية السوداء، والتي عرقلت مؤقتا تفكيره في الجوهرية البيولوجية.

في النهاية، لم يكن بركة مهتما بما إذا كان الموسيقيون البيض يقلدون نظراءهم السود. وكان خلافه مع المجتمع الذي يسمح للبعض بأن يجنوا الأرباح على حساب الآخرين، وهي عملية استغلت باستمرار وبقوة الانقسامات العرقية.


بطل في نظر البعض

ولعل المثال الأبرز للاستيلاء الثقافي هو «إلفيس بريسلي» ذلك المغني الأبيض الذي سرق كل شيء من الموسيقيين السود، وعلى الأخص تشاك بيري. وقد جعل هذا التفسير التاريخي بريسلي هدفا للكثير من العداء والإعجاب أيضا. وقد أدى مغني الراب الأمريكي «تشاك د» في عام 1989 أغنية «قاتِل السلطة»، والتي قال خلالها إن إلفيس كان بطلا في نظر معظم الأشخاص، إلا أنه لم يكن يعني شيئا له.

ويزعم الكثير من المنتقدين أن نجاح إلفيس جاء على حساب فنانين سود مثل «بيج ماما ثورنتون» التي أدت أغنية «Hound Dog» قبل أعوام من أداء إلفيس للأغنية نفسها دون أن تصل لنفس مستوى شهرته أو ثرائه. إذن، فإن إلفيس ووفقا للرواية، قد بنى تاريخه المهني على السرقة.

على الرغم من ذلك، فمن الصعب الحفاظ على تلك المكانة. إن العمل الأول للمطرب تشاك بيري «Maybellene» صدر في يوليو عام 1955 بعد عام كامل من أول جلسة تسجيل لإلفيس بريسلي في «Sun Studios» وفي هذا التسجيل الأول، غنى بريسلي أغنية «That’s All Right Mama» للمغني آرثر «بيج بوي» كرودوب، مع تغيير مقام الصوت ليعكس جذوره الموسيقية الريفية.

أيضا، كان لسكوتي مور عازف الجيتار الأمريكي أثر على مجموعة الفرق الموسيقية الريفية. أما بيل مونرو رائد موسيقى «البلوجراس» فقد كانت أغنيته «بلو مون أوف كنتاكي» تجمع بين مميزات موسيقى مور والإيقاع الذي يذكرنا بالمغني لويس جوردان.


والسؤال هنا: أي مما سبق يُعد استيلاء ثقافيا؟

إننا ننظر إلى العرق ليس كحقيقة مادية، بل كنتاج للعنصرية. وننظر إلى العنصرية ليس كموقف أو حالة ذهنية مثل التعصب الأعمى، لكنها في حقيقة الأمر سلوك. فالعنصرية تتصرف على أساس المعايير المزدوجة، العنصرية نفسها تقوم على النسب أو النسب المفترض.

يطرح تشاك بيري تساؤلا مماثلا، فأغنيته «Maybellene» كانت استنساخا لأغنية «Ide Red» للمطرب بوب ويلز عام 1938. وبالنسبة لأغنية «Hound Dog»، فلم تكتبها المطربة «بيج ماما ثورنتون» في ألاباما، لكن من قام بكتابتها مؤلفا أغان يهوديان هما جيري ليبير ومايك ستولر في لوس أنجلوس.

بعيدا عن ذلك، يبدو أن إلفيس وبيج ماما ثورنتون وتشاك بيري وليبير وستولر كانوا يسرقون من بعضهم البعض. وفي مقابلة صحفية أجرتها وكالة (أسوشيتيد برس) الأمريكية للأنباء عام 2002 مع تشاك دي قال:

باعتباري أحد الموسيقيين، كان هناك دائما قدر كبير من الاحترام لإلفيس، ونحن كسود، ندرك ذلك، لكن الأمر الأهم بالنسبة لي كان المحاباة التي حظيت بها شخصية إلفيس والتي لم يحظ بها أي شخص. ربما قد تشاركنا دور الأبطال سويا.

إذا أمكننا أن نتخيل عالما يتشارك فيه تشاك دي وإلفيس بريسلي البطولة، فيمكننا أن نتخيل عالما نتشارك خلاله أكثر من ذلك. وكما ذكر المؤرخ سيريل ليونيل روبرت جيمس في مقالته التي عنونها بـ «اكتشاف الثقافة في ترينيداد»: إننا نعيش في عالم واحد، وعلينا أن نكتشف ما يحدث في العالم». هذا يعني أن الاعتراف بعدم المساواة ومحاربته يقوم على أوهام الهوية. لكنه يتطلب أيضا ألا يغيب عن بالنا العالم الذي يمكننا أن نظفر به بعيدا عن تلك الأوهام.

يعتقد سيتوارت هول أيضا أن هذا هو السبب الذي يجعل دراسة الثقافة تحظى بأهمية. وكما ذكر في إحدى مقالاته عام 1981:

إن الثقافة الشعبية هي أحد المنابر التي تشهد نضالا لأجل وضد ثقافة الأقوياء: إنها المحك الذي يتحقق خلاله إما الانتصار أو الهزيمة في ذلك الصراع. إنها ساحة القبول والمقاومة. إنها المكان الذي تتصاعد خلاله الهيمنة. إنها ليست مجالا يتم خلاله التعبير ببساطة عن الاشتراكية، لكنها أحد الأماكن التي قد تتشكل خلالها الاشتراكية. وهذا ما يجعل الثقافة الشعبية مهمة.