-بتفكر في إيه دلوقتي 
— نفس اللي انت بتفكري فيه
– اخرس يا قليل الأدب!

بهذا الحوار البسيط والمكثف بين شخصيتين ثانويتين يبدأ المخرج محمد كامل القليوبي فيلمه «البحر بيضحك ليه – 1995».

الحوار جزء من مشهد فانتازي عن موظف أربعيني «حسين/محمود عبد العزيز» والذي يذهب إلى العمل ببدلة كاملة فيفاجأ بانتقاد زملائه ورئيسه له بسبب مخالفته القواعد والأعراف، فالذهاب للعمل مرتدياً بنطالاً وسط زملاء عراة الجزء السفلي من الجسد أمر لا يليق.

من خلال المشهد الافتتاحي السابق، مشهد الحُلم الذي يصور العالم مقلوباً، وعبر موسيقى راجح داوود الكلاسيكية الحالمة المصاحبة لتتر البداية، والتي لا تتناسب مع فيلم كوميدي بالمعنى التقليدي، يعقد كامل القليوبي اتفاقاً مع المشاهد على تقديم رؤية كوميدية مختلفة، قليلة الأدب رافضة للقيم الاجتماعية وحالمة، للسينما وللحياة.

الحياة في بدلة موظف

حسين في زي الموظف من فيلم البحر بيضحك ليه – إخراج محمد القليوبي

تدور أحداث الفيلم حول «حسين» الموظف المنضبط الذي يعمل كمحاسب في شركة يمارس أغلب موظفيها ألاعيب غير شريفة بدءاً من ترك العمل في أوقاته الرسمية حتى السرقة واختلاس أموال الشركة.

يعيش حسين مع أخته العانس وزوجته التي تنتظر مولودهما الأول في زواج عمره عشر سنوات، واللتان تتنافسان فيما بينهما حول المكانة الأولى في المنزل.

بين العمل والمنزل وأصدقائه الرجال هواة لعب الطاولة يقضي أيامه وسنوات عمره في رتابة وانضباط موظف شريف. لا جديد في حياته ولا معنى لها سوى الانتظار. الطفل المأمول، الترقية في العمل، الموت.

يرى الفيلسوف السويسري آلان دو بوتون، في كتابه «قلق السعي إلى المكانة والشعور بالرضا» أن الإنسان محكوم برغبة جامحة في أن يكون محبوباً ومرضيّاً عنه، ليس من الحبيب/ الشريك الجنسي فحسب، لكن من كل المحيطين به، الزملاء والأصدقاء، الأهل والأقارب، أي من المجتمع.

تلك الرغبة في الشعور بالرضا، وهذا القلق من فقدان مكانة المرء ومكانه يدفعانه إلى التنازل تدريجياً من خلال تبنىي قيم وسلوكيات ترضي المجتمع فينال من خلالها الرضا عن النفس نتيجة القبول الاجتماعي. في تلك العملية، عملية التدجين والقولبة الاجتماعية، يبتعد المرء عن ذاته وجوهره. ينسى رغباته وأحلامه، وربما ينسى عيد ميلاده الخامس والأربعين كما نسيه حسين.

في الحُلم يرى حسين نفسه دائماً مكبلاً في بدلته الرسمية. الزي المدني الذي يخلق دون غيره من الأزياء المدنية استحقاقاً بشغل مكانة ما وسط الطبقة الوسطى، طبقة المتعلمين والأفندية. الرداء الاجتماعي الذي يعبر عن الطبقة والوظيفة وسبل السعي في الحياة.

في حُلمه الثاني، بعد أن اكتشف، بسبب القبض عليه من البوليس عن طريق الخطأ، هشاشة وزيف علاقاته الاجتماعية من صداقة وعلاقات أسرية، رأى نفسه يتحرر من بدلته ومكتبه ووظيفته، يفض عنه ملابسه ويبعد مكتبه ليلحق بزملائه في نزول البحر بالمايوهات والألبسة الداخلية.

الخروج من الشرنقة 

في تحفة نيكوس كازانتزاكيس الأدبية «حياة أليكسيس زوربا» أو زوربا اليوناني، والتي تحكي عن علاقة عمل وصداقة جمعت بين كاتب شاب وقور منضبط وعجوز مرح من جزيرة كريت اسمه «زوربا» ليغدو زوربا العامل العجوز البسيط الممتلئ حيوية وحب للحياة («جورو»/ مثل أعلى) للكاتب الشاب الذي يتعلم منه كيف يحب الحياة بصخب واندفاع وجنون.

يحكي زوربا- الذي صار أيقونة أدبية عالمية خالدة- في الرواية، عن حياته السابقة وكيف عاش منضبطاً حتى الأربعين من عمره، ملتزماً بكل قيم وقواعد المجتمع إلى أن فقد ابنه، عالج صدمة موت الابن بالرقص حتى ظنوه قد جُنّ.

في تلك اللحظة، لحظة الخسارة الكبرى، الفقد، يصغُر كل شيء في أعين المرء، يضحي بكل شيء كي يحرر عقله من وطأة الخسارة. كأن الإنسان يعيش نفس أطوار حياة دودة القز التي تنسج كفنها بنفسها حتى يأتي اليوم الذي تكسر فيه الشرنقة، تلك التي تتحول داخلها الدودة إلى فراشة، تكسر الشرنقة وتطير ناحية الضوء.. في اتجاه الحياة.

في فيلم «البحر بيضحك ليه» خسر حسين ابنه أو (وعد الإنجاب) في نفس سن زوربا، تحرر من قيوده الحياتية والاجتماعية، عبّر عن غضبه وسخطه ليس بالرقص كما فعل زوربا، لكن عن طريق صفع كل من عايشهم في حياته بصورة يومية. الأهل والأصدقاء وزملاء العمل. انقلب على الجميع، وجّه غضبه وسخطه ضد الجميع، عادى الطبقة الوسطى وانضم إلى المهمشين. تعرف على سيد بُص، المعلم طرزان، العاهرات والحواة، ترك المتن وانضم للهامش، هامش السلطة والحياة الاجتماعية للطبقة الوسطى.

السيد بُص.. أو كيف تعيش الحياة بخفة

نجاح الموجي من فيلم البحر بيضحك ليه – إخراج محمد القليوبي

يقف «سيد بُص/ نجاح الموجي» أمام فاترينات البوتيكات (محال بيع البضائع) في الإسكندرية ليردد بصوته الجهوري «بُص بُص..» لافتاً نظر الناس لفاترينة معينة، أو أمر ما.

السيد بُص، سارق الخزن التائب ومدير التسويق الحالي كما يصف نفسه بخفة واستهزاء، الذي يرتدي قبعة أمريكية مقلدة ماركة «BOSS» كإعلان مستتر بأنه زعيم الهامش، زعامة مستحقة نظير ما يقدمه من خدمات لرفاقه المهمشين، زعامة خالية من أي استغلال للمكانة أو أي شعور بتراتبية هرمية ينبني عليها استحقاق ما قد يلغي المساواة أو يهدد حرية الآخرين.

كان السيد بُص هو مَعبر حسين ومرشده في عالم المهمشين السكندري. والصورة الضد للسلطة المتمثلة في «عمر/ شوقي شامخ» مفتش المباحث، وأخي زوجة حسين وصديقه السابق، والذي يرعاه بالحماية ويحاول أن «يرده لعقله» ولقواعد ونمط حياة الطبقة الوسطى.

فحماية السلطة للطبقة الوسطى، دفاعها عن قيمها وعاداتها وتقاليدها هي حماية للنظام، للانضباط. حماية لقواعد قديمة راسخة حاكمة مؤسِسة للمجتمع. تلك القواعد التي من دونها تتوقع السلطة أن يقع المجتمع في حالة سائلة تهددها، وربما تقضي عليها.

لم يكن اختيار الإسكندرية مسرحاً لأحداث الفيلم اختياراً عشوائياً أو اختيار المتاح والضرورة، فالإسكندرية أيضاً تحمل في رمزيتها الأدبية «نقيض المركز» القاهري، اختارها نجيب محفوظ مسرحاً لأحداث روايته «ميرامار» حيث يعيش المغضوب عليهم والمنفيون من نظام دولة يوليو الجديد وقتها.

كيف يعيش الإنسان كـ «بني آدم»

التساؤل الذي يشغل بال المخرج والسيناريست محمد كامل القليوبي طوال الفيلم هو كيف يحيا الإنسان؟ كيف يعيش؟ كيف يستمتع بحريته وبكونه على قيد الحياة؟ كيف يتحول الإنسان لـ«زوربا»، ألا يملك شيئاً، ولا يحتاج لشيء، أن يكون حيّاً وحرّاً.

كيف يعيش المرء دون حسابات اجتماعية، دون قلق على مكانته، دون النظر في تبعات كل شيء، كيف يحب دون تعقيدات، يمارس الجنس مع حبيبته في وضح النهار بين عناصر الطبيعة كجزء أصيل منها.

حين ملّت السلطة نزق «حسين» وحياته الجديدة قتلته، أقامت له جنازة رمزية، ألغت وجوده في دفاترها الرسمية، ليعيش مقطوع الصلة بماضيه. قطعت كل اتصال بين العالمين، عالم المتن، الطبقة الوسطى وعالم الهامش، كأنه لا سبيل لالتقائهم أبداً.

كأنها ولادة جديدة، انحياز صريح لما يجب أن يختاره المرء بين المكانة والحياة.

يقول زوربا «كل الأمور عندي سواء، وكل شيء يتساوى مع أي شيء، يتساوى عندي أن تكون لي امرأة أو لا أحظى بامرأة، أن أكون شريفاً أو وغداً، أن أكون من البكوات أو حمالاً، كل ما يهمني فحسب أن أكون على قيد الحياة».