للوهلة الأولى قد يبدو الخلاف بين اتجاهات اليمين واليسار السياسي حول العالم، المتعلقة بسياسات التعامل الحكومي مع جائحة كورونا، ليس ذا مغزى؛ إذ يظل القول الفصل في جائحة صحية عالمية مثل تلك، يرجع في النهاية إلى الرأي المتخصص المتمثل في رأي أساتذة ومختصي الطب الوبائي والوقائي.

إلا أنه بعد برهة قصيرة جدًا من التفكيرِ، ستتضح أمامنا حقيقة كبرى، ألا وهي أن أزمة كورونا هي أزمة سياسية بامتياز، لأن مقاربة حلول هذه الأزمة حتى الآن، هي عبارة عن موازنة بين الضرر الاقتصادي والاجتماعي الناتج عن سياسات الإغلاق العام والعزل الصحي، وبين الضرر الصحي الناجم عن انتقال العدوى في حال عادت الحياة إلى طبيعتها، وهذا قرار سياسي بكل تأكيد.

في هذا السياق انقسم اليمين واليسار عالميًا بشكل عميق، حول سياسات التعامل مع أزمة كورونا الراهنة، إذ انحاز اليسار بشكل كبير إلى سياسات الإغلاق العام والعزل الصحي، التي اتخذتها الحكومات المختلفة حول العالم، بينما انحاز اليمين بصورة أكبر إلى المطالبة بعودة الحياة الاقتصادية والاجتماعية إلى طبيعتها قبل الوباء، لتدارك الأضرار لاسيما الاقتصادية منها، الناجمة عن استمرار الإغلاق لفترات أطول.

هنا نسأل عن الأسس المعرفية والفكرية التي خلقت تلك الاستجابة المتباينة من كلا الطرفين.

يسار أم يمين؟ أو قل: الاقتصاد أم العدوى؟

منذ اندلاع الأزمة وبدء تفشي وباء كورونا في مدينة ووهان الصينية، وانتقاله منها إلى الاتحاد الأوروبي وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وضع الفيروس المستجد جميع الحكومات أمام خيارين بالغي القسوة: إما اتباع سياسات عزل صحي صارمة لمنع وتقليل معدلات انتشار المرض، أو الحفاظ على وتيرة الحياة الطبيعية لحماية الاقتصاد من مواجهة ركود اقتصادي عنيف وغير مسبوق.

في مقال تحت عنوان «لماذا نتذكر «ماركس» في أوقات الشدائد؟» يعود الصحفي المصري المتخصص في الشأن الاقتصادي محمد جاد، إلى العديد من المصادر من الصحافة الغربية، للتأكيد على عمق الانقسام بين اليمين واليسار حول التعاطي مع أزمة كورونا الراهنة.

في سياق الأمثلة على تعامل اليمين في هذا الصدد، يقول آدم تووز المؤرخ البريطاني والبروفسور في جامعة كولومبيا الأمريكية في مقال بصحيفة «الجارديان» البريطانية إن «المنطق الاقتصادي التبسيطي قد يفرض ضرورة استمرار الحياة حتى يتوفر مصل أو لقاح»، وكان هذا بالفعل هو النهج الذي اتبعته الحكومة البريطانية في البداية قبل أن تعدل عنه لاحقًا بعد ارتفاع معدلات الإصابة بالمرض، بينما لا تزال قيادات يمينية مثل الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، تدفع حثيثًا في محاولة عودة الحياة إلى طبيعتها في أقرب وقت. مثال آخر في هذا السياق هو المذيع الأمريكي دان باتريك المؤيد لترامب، الذي يقول إن على كبار السن -الفئة العمرية الأكثر تضررًا من المرض- التضحية بحياتهم في سبيل إنقاذ الاقتصاد.

في إطار البحث عن جذور لذلك النزوع اليميني، يقول الاقتصادي والمدون الماركسي البريطاني مايكل روبرتس إن «الموقف الأمريكي المضطرب في التعامل مع الوباء له أساس في أفكار مالتوس، الذي ذهب إلى أن كثيرًا من الفقراء غير المنتجين اقتصاديًا في العالم، ولهذا فإن الأوبئة والجوائح حتمية وضرورية لتقليل الإهدار في الموارد الشحيحة، وجعل الاقتصاد أكثر إنتاجية».

تبدو كل تلك المقاربات اليمينية هنا للوهلة الأولى، وكأنها تعطي الحياة الاقتصادية قيمة أكبر من حياة البشر، إلا أن الأصوات اليمينية تؤكد في المقابل على أن إجراءات العزل والإغلاق الصارمة ستؤدي إلى انهيارات كارثية في الاقتصاد ومن ثم سينعكس ذلك في الأخير على المستوى الاجتماعي، وهو ما سيتسبب في خسائر وأضرار، قد تكون أكبر من أي ضرر من الممكن أن يتسبب به الفيروس على المستوى الصحي.

يأتي كل هذا هنا في مقابل الرؤية اليسارية الماركسية التي تعلي من قيمة عنصر العمل في العملية الإنتاجية على حساب رأس المال، ومن ثم انعكس ذلك عند اليساريين بشكل ملحوظ في وضع الأولوية للعنصر الإنساني على حساب العنصر الاقتصادي في مواجهة تلك الأزمة.

الدولة الحارسة أم دولة الرفاه؟

يكمن سبب آخر للخلاف بين اليمين واليسار، حول سياسات التعامل مع تلك الأزمة، في الموقف الأيديولوجي لكل من اليمين واليسار، بخصوص فكرة تدخل الدولة في تنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية. في هذا السياق يخشى اليمين المحافظ ويرتاب بوجه عام من تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي.

جدير بالذكر أن الطيف السياسي لليمين واسع متعدد، وتتعدد دوافعه في هذا السياق بتعدد روافده. إلى جانب اليمين المحافظ، هناك اليمين الديني واليمين الشعبوي، ويميل اليمين الشعبوي -لا سيما في الغرب- إلى الشك العميق في جهاز الدولة، حيث تسود كثير من نظريات المؤامرة لدى جماهير هذا التيار بخصوص الدولة والنخب السياسية النافذة.

نجد في المقابل أن النموذج اليساري للحكم داخل الاشتراكيات الديمقراطية، يقوم على فكرة تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي، ويؤيد زيادة الضرائب، ويحقق نموذج دولة الرفاه الاجتماعي الرؤية اليسارية في هذا السياق إلى حد بعيد.

تقوم دولة الرفاه الاجتماعي على مبادئ تكافؤ الفرص والتوزيع العادل للثروة، من خلال تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي والاجتماعي عبر شبكة من المؤسسات البيروقراطية الراسخة. وقد كانت دولة الرفاه هي السمة الأساسية للحكم في معظم البلدان الصناعية المتقدمة، قبل مجيء رونالد ريجان ومارجريت تاتشر إلى الحكم في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، حيث مثل عهد الأخيرين المتزامن مع انهيار الاتحاد السوفييتي، إيذانًا ببدء عهد الليبرالية الجديدة، التي تتبنى نموذجًا آخر للحكم وشكل الدولة.

في المقابل تميل وجهة النظر الليبرالية الكلاسيكية والنيوليبرالية أيضًا، إلى نموذج «الدولة الحارسة» أو دولة «الحارس الليلي» وفق مفهوم الفيلسوف السياسي الأمريكي روبرت نوزيك، الذي ذهب إلى أن الدولة الشرعية الوحيدة هي دولة الحدّ الأدنى التي يتوقف تدخلها عند حماية حقوق الحياة، والحرّية، والملكية، والتعاقد فقط، وذلك من خلال الجهاز الشرطي والقضائي والعسكري، دون أي توسع في الجهاز الحكومي.

يدافع من يتبنى هذا النموذج بناء على محاججة تقول إنه كلما توسعت أنشطة الحكومة وجهازها البيروقراطي، اتسع بالمقدار ذاته تدخلها في الحياة الشخصية للأفراد، ويعبر النموذج الشيوعي عن التبدي الأقصى لهذا النموذج الذي تتدخل فيه الدولة في حياة المواطن من المهد إلى اللحد.

تمثل أزمة كورونا في هذا السياق أحد المواقف التي تعكس طبيعة الخلاف بين اليمين واليسار، فبينما يميل اليمين إلى عودة الحياة الاقتصادية إلى طبيعتها، وترك العزل الذاتي إلى الحرية الشخصية للمواطنين، حسب تقييمهم الفردي للموقف بحسب الحالة الصحية والعمرية لكل شخص، يميل اليسار إلى تدخل الدولة لفرض الإغلاق الاقتصادي العام وتطبيق الحظر الإجباري، لمنع انتشار المرض. فإلى أي رأي من الاثنين تنحاز عزيزي القارئ؟