من منا لم يشاهد فيلم الرعب الأسطوري «الفك المفترس»، ذلك الفيلم الذي أثار ضجة كبيرة حول أسماك القرش، لا سيما القرش الأبيض الكبير. يصور الفيلم القرش وكأنه يكن حقدًا لأشخاص بعينهم، فيذهب وراءهم كي يقتلهم. ومنذ ذلك الحين، تطارد تلك السمعة السيئة هذا المخلوق، ويطارد الخوف فِكر أي شخص ينوي قضاء إجازته على الشاطئ.

في الواقع، فإن احتمالية التعرض للقتل من قِبل سمكة قرش تشكل 1 في 3,748,067، مقارنة باحتمالية الموت بسبب البرق (1 في 79,746)، والغرق (1 في 1,134)، وحادث سيارة (1 في 84)، والإنفلونزا ( 1 في 63)، وسكتة دماغية (1 في 24)، أو أمراض القلب (1 في 5).

عامةً، تصنف هجمات أسماك القرش إلى هجمات مبررة، أي تلك الناتجة عن استفزاز البشر للقرش أثناء الغوص أو الصيد، وهجمات غير مبررة. ومن بين أكثر من 500 فصيلة معروفة، فقط 30 نوعًا من القروش تم توثيق مهاجمتها للبشر، وعلى رأسها ثلاث فصائل: القرش الأبيض الكبير، القرش النمر، والقرش الثور.

وطبقا لإحصائيات متحف فلوريدا للتاريخ الطبيعي لعام 2018، تقدر أعداد هجمات القرش في العالم بـ115 هجمة مؤكدة، منها فقط 66 هجمة غير مبررة؛ وتعد تلك الأقل مقارنة بمتوسط 84 هجمة غير مبررة على مدار الخمس سنوات الأخيرة.

يتركز أكثر من 48% من تلك الهجمات على سواحل الولايات المتحدة وبالأخص ساحل فلوريدا، وتليها أستراليا. أما عن القارة السمراء، فإن مصر تتصدر بعدد ثلاث هجمات غير مبررة، واحدة منها مميتة. وعلى الرغم من أن هذا لا يمثل رقماً مفزعاً مقارنة بملايين البشر التي تزور الشاطئ كل عام، يبقى السؤال؛ لماذا تهاجم أسماك القرش البشر على أي حال؟

قد تبدو الإجابة على هذا السؤال بسيطة وتتلخص في كلمتين: «حيوان مفترس». لكنك ستصاب بالدهشة عندما تواجه مدى تعدد وتعقد هذه الأسباب، بل قد تغير نظرتك إلى تلك المفترسات للأبد!

حواس مذهلة

أسماك القرش ليست آلات قتل عمياء تسبح لتلتهم أي شيء في طريقها. إنها صيادات ماهرة توظف شبكة معقدة من الحواس كي تنقب عن فريستها. وتعتمد قوة هذه الحواس ومدى استخدامها بشكل كبير على فصيلة القرش وطبيعة البيئة المحيطة به.

حاسة الشم القوية هي بالأحرى الحاسة الأكثر شهرة، فجميعنا قد سمع من قبل:

إن جرحت نفسك وأنت في البحر، سيسبح سمك القرش نحوك ويلتهمك.

تستطيع أسماك القرش أن تشتم جزيئات الرائحة الصغيرة من على مسافة بعيدة قد تصل إلى ربع ميل. فبينما يسبح القرش، تتدفق المياه إلى داخل وخارج الفتحات الأنفية مارة بخلايا شمية في غاية الحساسية؛ تستقبل المواد الكيميائية الذائبة في المياه ثم ترسل إشارة إلى المخ لتفسير الرائحة.

ومن المعروف أنها تنجذب بسرعة وضراوة إلى قطرات الدم (بتركيز جزء في المليون)، لكن يجب الأخذ في الاعتبار أن تركيز تلك الجزيئات يقل بشكل كبير عندما تنطلق في المياه ويعتمد وصولها للقرش على سرعة التيارات المائية. صحيح أن بعضها يستطيع شم رائحة بتركيز جزء واحد في عشرة مليارات جزء، أي ما يعادل قطرة في حوض سباحة أولمبي. لا يزال الإحساس بقطرة دماء في محيط بأكمله أمرًا مبالغًا فيه!

من على بعد أميال، تستطيع أسماك القرش أن تسمع معاناة سمكة تحتضر.

تمتلك القروش آذانًا داخلية خلف أعينها يمكنها استقبال الأصوات التي يتراوح ترددها بين 10 إلى 800 هرتز، أي أنه بإمكانها أن تسمع ما لا يمكن للبشر سماعه. وهي سريعة الاستجابة بشكل خاص للأصوات النابضة منخفضة التردد، كتلك الصادرة من سمكة في خطر.

وتقترح التجارب الميدانية أن بعض الأنواع قادرة على سماع الأصوات من على بعد عدة أميال على الأقل، لا سيما أن الصوت يسافر بسرعة أكبر ولمسافة أطول تحت المياه. لذلك من الممكن أن تجذب نشاطات البشر في المحيط وصوت المياه الناتج عن السباحة القروش لاستكشافها.

عندما يقترب القرش من هدفه ببضعة أمتار يعتمد أكثر على نظره. وعلى عكس المعتقد، تتمتع معظم القروش بحاسة بصر جيدة، بل إن بعضها يستطيع تمييز الألوان أيضاً.

لكن حاسة أخرى تميز القروش، هي قدرتها على استشعار المجالات الكهرومغناطيسية بواسطة خلايا متخصصة تعرف بـ« مصابيح لورنزيني» . تتولد هذه المجالات من انقباض عضلات أي كائن حي وتنتقل بسهولة عبر جزيئات الماء المالح كي ترشد القرش إلى أي اتجاه ينبغي أن يوجه فكه. ويقول العلماء إن قرار الهجوم الأخير للقرش يعتمد على النبضات الكهربائية المتلقاة.

سمك القرش حوادث سمك القرش
مصابيح لورنزيني

هذا قد يفسر استمرار مهاجمة سمك القرش للشخص ذاته دوناً عمن يحاولون إنقاذه، لأن الدم المنبعث يزيد من تركيز الملح مما يزيد من النشاط الكهرومغناطيسي حوله. كذلك تنبعث موجات قوية عندما تتواجد المعادن في المياه المالحة وهو ما قد يثير القروش ويدفعها لعض المراوح المعدنية للقوارب،خاصة أثناء استخدام معدات الصيد.

أسماك جائعة

هل مذاق البشر سيئ بالنسبة لأسماك القرش؟ ليس تمامًا. معظم أسماك القرش تتغذى على الأسماك الصغيرة واللافقاريات، في حين تتغذى القروش الأكبر علي الثدييات البحرية مثل الدولفين، أسد البحر، والفقمة. إن رميت قطعة لحم حمراء لأسماك القرش لن تمانع أكلها، لكن الأمر يختلف حين نتحدث عن البشر.

 يوضح بيتر كليملي، خبير بسلوك الحيوانات البحرية بجامعة كاليفورنيا، أن القروش البيضاء لديها جهاز هضمي بطيء؛ إن تناولت شيئًا خارج وجباتها المعتادة، يتسبب ذلك في تباطؤ الجهاز الهضمي لعدة أيام، وهو ما يجعلها تختار طعامها بعناية. كي تحافظ على دفء أجسادها فهي تحتاج لمحتوى عال من الدهون وهو ما يتوفر في فيلة البحر.

الشحم الذي يغلف أجساد الفقمات يمثل أكثر من نصف وزنها وهو مصدر لضِعف السعرات الحرارية التي توفرها العضلات. لذا فإن الفقمات وأسود البحر – لا البشر- هي ما تمثل وجبة الطاقة بالنسبة للقروش البيضاء.
-بيتر كليملي

حتى عند الأخذ في الاعتبار قرشًا مثل القرش النمر، والمعروف أيضاً بـ«آكل القمامة»؛ نظراً لشهيته الواسعة لمختلف أنواع الفرائس من طيور و أسماك وسلاحف، إلى جانب قطع الخردة التي وجدت ضمن محتوى معدته – وعلى الرغم من أنه يملك نصيبًا كبيرًا في الهجمات ضد البشر- فهو قد يعض البشر لكنه نادرًا ما يأكلهم.

لذلك فاحتمالية أن تكون على قائمة طعام أسماك القرش ضئيلة جدًا، فأجسادنا عظمية للغاية وغير مشبعة على الإطلاق.

تمرين على الهدف الخطأ

قد يشبه أحد متزلجي الأمواج -وهو طاف على سطح مياه ضحلة – الفقمة، وهذا قد يدفع القرش لمهاجمته من الأسفل. يبدو هذا أكثر منطقية، خاصة بعد معرفة أن متزلجي الأمواج يمثلون أكثر من 50% من ضحايا هجمات القرش. وعلى الرغم من أن القرش صياد محترف، فإن حركة مفاجئة في المياه مع الكثير من الضوضاء قد تمثل حافزًا كافيًا للقرش كي يبدأ هجومه.

إلا أنه في عام 2016، نُشر بحث في مجلة الأحياء البحرية ينفي صحة هذه النظرية. حيث قام الباحثون بمقارنة مقدار شدة الجروح وتضرر ألواح التزلج الناتجة عن هجمات القرش الأبيض مع الدراسات المتاحة عن استراتيجيات صيد القروش للفقمات، مع أخذ حجم القروش المهاجمة في الاعتبار.

وأظهرت النتائج أن الضرر الناتج من هجمات القرش لا يعكس مستوى الهجوم المطلوب لمراوغة الفقمات، كما أن حجم القروش المهاجمة للبشر كان في معظم الحالات أصغر من حجم القروش الناضجة بما يكفي كي تذهب لصيد الفقمات.

 وتفسر الدراسة أن شراسة بعض الهجمات قد تعود لرغبة تلك القروش الصغيرة في التمرن على مطاردة الفريسة. هي فقط تريد اللعب، ولكن من الواضح أن البشر لا يمثلون الرفيق الأمثل!

فضول قاتل

هناك مقولة مشهورة تقول، إن «الفضول يقتل»، لكن المثير للسخرية هو أن فضول أسماك القرش قد يقتل البشر لا نفسها. تعد القروش الكبيرة، وعلى رأسها القرش الأبيض الكبير، من سادة مفترسات البحار ولا يوجد كائن آخر قد يطاردها باستثناء حيتان الأوركا والبشر. هذا يعطيها رفاهية التجول في البحر دون خوف مستكشفة ما به، وفضولها يغلبها حينما ترى جسداً غريباً في المياه.

فكر بالأمر؛ القروش لا تمتلك أيدي كي تتحسس بها الأشياء، لكنها تمتلك فكاً متحركًا مزوداً ببراعم تذوق حول صفوف من الأسنان مرنة.

يصف جيمس بوليك، عالم الأحياء البحرية، في بحثه عن القرش الأبيض، بأنه عندما يفتح القرش فمه تتمدد أسنانه للخارج بزاوية 9 درجات تقريبا ثم تنحني للداخل بزاوية 16 درجة عندما يغلق القرش فمه. هذه الأسنان مزودة بأعصاب حساسة للوضع والضغط بشكل يجعلها أشبه بأصابع اليد، حيث يمكنها أن تتمدد وتمسك بالأشياء لتتحسسها. ويستخدم القرش الأبيض هذه الخاصية كي يتعرف على ما إن كانت فريسته مشبعة وصالحة للأكل أم أنها لا تستحق العناء.

لذلك ليس غريباً على القرش أن يقوم بعّض أشياء كالقوارب وألواح التجديف وحطام السفن وغيرها من المخلفات التي قد توجد بالمياه. وتعرف هذه العضات بـ«العضات التجريبية»، حيث تعض الشيء وتتحسه ثم تتركه وتمضي بعيداً.

وينعكس هذا على معظم هجمات القروش التي لا يبدو وكأن هدفها القتل، حيث تنتهي بعضات استكشافية نادرًا ما تتسبب في مقتل الضحية. لكن هذا لا يمنع أن تكون هذه العضة الفضولية سبباً في خسارة بعض الأصابع أو حتى طرف كامل.

هناك الكثير من النظريات التي تم فرضها بواسطة الخبراء وغيرهم لحل اللغز وراء هجمات القرش، وعلى الرغم من عدم توفر دراسات كافية كي تدعم إحداها، لا شك أن هذه التحقيقات تكشف الكثير عن سلوك أسماك القرش وتدفعنا لمعرفة المزيد عن هذه الكائنات المذهلة حتى نستطيع أن نحمي أنفسنا ونحميها هي أيضاً.

فعلى أي حال، لا يمكننا التغاضي عن حقيقة أنه في مقابل 1-6 أشخاص يقتلون بواسطة القروش، نحن البشر نقتل ما يزيد على 100 مليون قرش كل عام. لكن أسماك القرش ليست بمجرد وحش يسكن البحار، إنها تلعب دورًا حيويًا في التوازن البيئي البحري واستبعادها سيؤدي إلى انهيار النظام بأكمله!