خد نفسا عميقا، حفنة الأكسجين التي استنشقتها لتوك هي من منتجات النباتات التي ربما يقطن بعضها بالقرب منك، لكن الفضل في بقائك حيا لا يقتصر عليها فقط. فهي بدورها لم تكن لتنجو لولا ديدان الأرض والحشرات التي تتغذى على البقايا العضوية لتجعل التربة خصبة. وقد اعتمدت كذلك على عناقيد من البكتيريا المثبتة لغاز النيتروجين من الجو في صور تستطيع النباتات امتصاصها لتصنيع حاجتها من البروتين. وهو ما أغرى بدوره قطيعا من الماشية للتغذي عليها ليصبح ذلك البروتين جزءا من تكوينها، أو من قطعة اللحم الشهية على سفرة غدائك. والآن قبل أن تهم بتناول طعامك اللذيذ، هل تساءلت ما أهمية الحفاظ على الأنواع الحية؟ ولماذا تنفق العديد من المنظمات الملايين للحفاظ على الأنواع المهددة بالانقراض؟

ربما شعرت ببعض الأسى عندما شاهدت صورة آخر ذكر «وحيد قرن أبيض شمالي» على الكوكب، والتي تصدرت المواقع والمنصات الإعلامية قبل عامين حاملة عنوان «صورة للوحدة». إلا أنه عند الحديث من ناحية عملية، هل يكفي ذلك التعاطف ليكون الدافع وراء حملات تتكلف ملايين الدولارات تهدف ببساطة إلى حماية أنواع حية مهددة بالانقراض؟

وفقا لدراسة تعود إلى عام 2012 فإن مهمة الحفاظ على كل الحيوانات البرية المهددة بخطر الانقراض ستتكلف قرابة 76 مليار دولار أمريكي سنويا. هل يجدر بنا إنفاق تلك المبالغ الطائلة على تلك المهمة، أو أنه من الأكثر منطقية توفيرها لمحاربة أزمات البشر المستعصية كالأمراض الفتاكة والفقر؟ هل يقدم لنا العلم أي دوافع أخرى تلزمنا بإتمام المهمة أم أن الدافع أخلاقي بحت؟


الطبيعة من أجل الإنسان

مع أن فكرة الحفاظ على التنوع الحيوي من الحيوانات والنباتات هي حديثة نسبيا، فإن الحفاظ على الموارد الطبيعية هي فكرة قديمة تمتد جذورها للحضارات القديمة. وقد ارتبطت منذ نشأتها بالمصلحة المادية التي تقدمها مكونات الطبيعة للمجتمعات البشرية والخوف من تحمل كارثة نفادها. على سبيل المثال؛ سنت المملكة المتحدة أول قرار بيئي للحفاظ على «أشجار التيك» في القرن السابع عشر خوفا من نفادها بعد استهلاكها المفرط في فترة الحروب النابليونية، حيث كانت تستخدم في صناعة سفن البحرية الملكية.

مع بزوغ العصر الذهبي لعلم التاريخ الطبيعي بداية النصف الثاني من القرن الثامن عشر حتى التاسع عشر، زاد الاهتمام بتفرد الأنواع الحية، وتعرف العالم لأول مرة على مفهوم «الانقراض» على يد عالم التاريخ الطبيعي الفرنسي «جون كوفيه»، وانطلق المولعون بالطبيعة في شتى أنحاء العالم لجمع الأنواع الفريدة قبل انقراضها.

مع بداية القرن العشرين تزايدت أعداد جمعيات حفظ البيئة والمحميات الطبيعية بشكل مطرد مع زيادة الاهتمام بالأنواع ذات القيمة الاقتصادية. لكن العلم كان لينتظر 70 سنة أخرى حتى بزوغ فرع من علوم الأحياء يختص بشكل متفرد لدراسة التنوع الحيوي، ويسعى بشكل أساسي لتحقيق هدفين هما : تقييم التأثيرات البشرية على التنوع الحيوي وتطوير نهج عملي مناسب للتقليل من حوادث الانقراض، ذلك الفرع هو علم حفظ الأحياء conservation biology.

يكثر الجدل عند الحديث عن الدوافع المحركة لنشأة حركات وعلم حفظ الأنواع، لكن الارتباط بالجذور يظل الأقوى، أي حفظ الطبيعة من أجل الإنسان. وندرك الآن جيدا أن الأمر لا يقتصر على أخشاب أشجار التك عالية الجودة، حيث تقدر دراسة تعود إلى عام 1997 أن متوسط قيمة الخدمات التي تقدمها البيئة تعادل 33 تريليون دولار أمريكي سنويا، بينما لا يتجاوز إجمالي الناتج القومي العالمي 18 تريليون دولار أمريكي.

بعض تلك الخدمات مباشرة واضحة من مثل النباتات والحيوانات التي تشكل مصدر غذاء البشرية، أو كالأكسجين الذي تطلقه النباتات والعوالق البحرية في الجو لإبقائنا أحياء. كما تقوم الأنظمة البيئية بمهام أخرى أكثر تعقيدا كضبط المناخ ومقاومة التصحر، والحشرات التي تقوم بتلقيح المحاصيل الزراعية، كذلك المواد الخام المستخدمة في تصنيع المنتجات الصناعية، ناهيك عن دور ما يعرف بالمنتجات الطبيعية المستخلصة من الكائنات الحية على مختلف أنواعها في الطب وصناعة الدواء لأمراض البشر المستعصية.

تبدو تلك النظرة العملية مقنعة للوهلة الأولى، لكنها تطرح معضلة جديدة عند الحديث عن أنواع مهددة بالانقراض ليست ذات قيمة اقتصادية أو طبية، ما الفائدة التي قد يقدمها درع الأرميدلو أو النمر البنجالي لنا؟ الإجابة هي النظام البيئي. ويعرف النظام البيئي بأنه مجتمع من الكائنات الحية والمكونات غير الحية تجمع بينهم روابط وعلاقات مشتركة في بيئة محددة، وعند إزالة أحد مكونات النظام البيئي قد لا يحدث أي ضرر يذكر في بيئته، أو قد ينهار النظام كله بشكل مفاجئ غير قابل للإصلاح، ولدينا من التاريخ أمثلة عديدة.


مجزرة القطط والنحلة التي تهدد العالم

http://gty.im/167524958

يمكن للمجتمعات البشرية أن تهلك أنظمة بيئية وتودي بأنواع حية لحافة الانقراض عن طريق ممارسات مختلفة، يتصدرها تجريف المناطق الطبيعية لأهداف صناعية أو زراعية، والتلوث البيئي وتقديم أنواع دخيلة على نظام بيئي مما يؤدي إلى الإخلال به وتفكك الروابط بين مكوناته. ومن جزيرة ماكواري التابعة لأستراليا نرصد من التاريخ مثالا متميزا عن كيف يحدث أحد التدخلات البشرية السابق ذكرها تأثيرا متواليا، ينتهي بخسائر بيئية واقتصادية كبرى.

اكتشفت الجزيرة الساحرة أوائل القرن التاسع عشر. وبهدف الحصول على لحومهم وزيوتهم الطبيعية طارد الصيادون البطريق الملكي والفقمة الفيل، وهما من الأنواع الأصيلة في الجزيرة حتى حافة الانقراض. ولم تكن تلك آخر جرائمهم، فقد حملت سفنهم غزاة آخرين وهي القط المنزلي والأرانب والفئران.

تكاثرت الأرانب بشكل مطرد مما أدى إلى تآكل الغطاء الأخضر الجذاب للجزيرة. بدأت السلطات عام 1968 في القضاء على جماعات الأرانب من خلال نشر فيروس مميت لها. وبالفعل نجحت الخطة في تقليل تعداد الأرانب من قرابة 100 ألف فرد إلى 20 ألفا فقط، لكن الأزمة لم تكن لتنتهي بعد. فمع تناقص الأرانب مصدر الغذاء الرئيسي للقطط، كشفت القطط عن أنيابها للطيور البحرية الأصيلة في الجزيرة، والتي تعد مصدر جذب سياحي رئيسي في الجزيرة.

عادت الحكومة لتتدخل بعملية إبادة موسعة لكل القطط في الجزيرة، وبعد انتهاء المجزرة بـ 9 سنوات، عادت الأرانب لتجتاح الجزيرة بعد رحيل مفترسها الرئيسي لتضع النظام البيئي ككل في حالة حرجة للغاية، بعد أن تكبدت الحكومة ملايين الدولارات هباء.

هناك مثال آخر عن كائن صغير مهدد بالانقراض، لكن انقراضه لا يهدد جزيرة فقط بل يهدد في الواقع كل المجتمعات البشرية. ذلك الكائن الصغير هو نحلة العسل. وندرك جميعا أننا نستفيد بشكل مباشر من النحل عن طريق منتجه حلو المذاق «عسل النحل»، لكن النحل يؤدي مهمة بيئية أكثر أهمية وهي تلقيح ما يقارب 70% من أصل المحاصيل الزراعية التي يعتمد عليها البشر، وهو ما قد يعادل قيمته 200 بليون دولار أمريكي.

يمكننا من تلك البيانات الاستنتاج أن القيمة الاقتصادية لأي نوع حي لا تستمد من وجوده وحده، بل من الدور الذي يلعبه في النظام البيئي، ذلك الدور الذي قد يجعل طنين نحلة صغيرة أكثر قيمة من آلاف المصانع، أو كما يقول «جون موير» أحد أشهر المؤسسين لحركات الحفاظ على البيئة في القرن العشرين:

عندما تحاول عزل أي شيء بذاته، ستجد أنه مرتبط بآلاف الحبال غير المرئية وغير القابلة للكسر مع كل شيء آخر في الكون.

والآن هل تشعر عزيزي القارئ أن الحديث عن إنقاذ الحيوانات من خطر الموت الأبدي كأرقام اقتصادية في بنوك البشر هي نظرة جافة غير أخلاقية؟ يسعدني أن أخبرك أن العديد من البيئيين يوافقونك الرأي، ويدعمون الحفاظ على الطبيعة من أجل سبب آخر، وهو الجمال والحق في الوجود، أو الطبيعة من أجل الطبيعة.


الطبيعة من أجل الطبيعة

عند إزالة أحد مكونات النظام البيئي قد لا يحدث أي ضرر يذكر في بيئته، أو قد ينهار النظام كله بشكل مفاجئ غير قابل للإصلاح، ولدينا من التاريخ أمثلة عديدة

تنتقد عالمة حفظ الأحياء «جورجينا مايس» بشدة النظر إلى قيمة الطبيعة كقيمة اقتصادية فقط.

تلك النظرة تخالف ما تدعو له حركات حفظ الطبيعة، عد بنا إلى الستينيات وستجد الناس يطالبون بالحفاظ على الحياة البرية ببساطة لأننا نريد الحفاظ عليها
تقول جورجينا

بينما يوجه عالم البيئة «جورج مونبيت»انتقادا لاذعا للآلية التي قد تقومها فلسفة مشابهة، حيث يشير إلى أن النظر إلى الطبيعة والحياة البرية كقيمة اقتصادية سيجعل القرار في الحفاظ عليها أو إهمالها في أيدي رجال الأعمال، حيث يصبح الجدل بين قيمة إنشاء طريق بري أهم من مواطن بيئية طبيعة محسوما لمن بيده السلطة والمال.

فإذا كنا لا نقدر الجمال في حد ذاته كمفهوم يستحق الاهتمام والإنفاق المستمر عليه، لماذا لا نمزق لوحة الموناليزا ونغلق كل المعارض الفنية؟ أليس الجمال في حد ذاته فائدة قيمة للمجتمعات البشرية؟

وينظر البعض الآخر إلى مهمة الحفاظ على الطبيعة كمسئولية محتمة علينا تجاه الكوكب والأجيال القادمة. فقد أدت أنشطة البشر خلال القرن الماضي وحده إلى زيادة معدل الانقراض 100 ضعف عن المعدل الطبيعي قبل ظهور البشر.

يجب عدم النظر إلينا كأبطال نسعى لإنقاذ الكوكب الوحيد الذي يمكننا الحياة فيه، بل أملنا فقط هو تصحيح جزء صغير من الضرر الضخم الذي أحدثناه،الآن خذ نفسا عميقا وعد إلى تناول وجبتك الشهية.