المناظرات مادة شيقة بطبعها، خاصة عندما يكون الخصمان على طرفي النقيض. لكنك وبرغم ذلك قد تصرف النظر عن موضوع تكرر وقُتل بحثًا كهذا. وغالبًا ما ستكون إعادة الكلام فيه مثيرة للملل. لكنك قد تغير رأيك عندما تعرف أن رد «الأفغاني» على «رينان»؛ ظل مثارًا للجدل ومبررًا للطعن فيه، إلى درجة تشويهه في الترجمة!.

إن تحرير المسلم من دينه هو أفضل الخدمات التي يمكن أن نقدمها له.
«إرنست رينان»
هنا تبدو الديانة الإسلامية مسؤولة، فمن الواضح أنها حيثما حلّت فقد خنقت العلم، وأعانها الاستبداد إعانة كبرى على تحقيق مقاصدها.
«جمال الدين الأفغاني»

أما عالم الدين والمجدد الإسلامي المصري «محمد عبده» موجهًا الحديث لـ«الأفغاني» قائلًا:

لا تقطع رأس الدين إلا بسيف الدين.

ولعله يقصد هنا أن عليه ألا يضحي بالدِين من أجل الإطاحة برأس الدين (الخليفة الفاسد).

بدأت أحداث تلك المناظرة عندما ألقى أستاذ اللغات السامية والمفكر الفرنسي «إرنست رينان» محاضرة في «الكوليج دي فرانس» أهم المؤسسات العلمية في فرنسا بعنوان «الإسلام والعلم». هاجم فيها «رينان» الإسلام والعرب، ورآهم عوائق في طريق العلم.كان هذا مستفزًا بالنسبة للبعثات العربية والإسلامية في فرنسا. لكنه يبقى مفهومًا أن يهاجم مفكر غربي متعصب الإسلام. أما ما كان مثيرًا للدهشة بحق، فهو أن رد «جمال الدين الأفغاني» بما كان يتمتع به وقتها من مكانة كمفكر وداعية إصلاح إسلامي، جاء هادئًا بل وموافقا لآراء «رينان» المتطرفة بقدرٍ ما، إلى حد أن يصفه «رينان» في تعليقه على الرد بأنه «يذكره بالملحدين العظماء»، مما أدى إلى أن تبقى مادة المناظرة الأصلية بلا ترجمة كاملة على مدى قرن من الزمن.


المستشرق العنصري

بدأ «إرنست رينان» (1823 – 1892) حياته بالسعي إلى أن يكون رجل دين كاثوليكي، لكنه، وبعد قراءته لكتب «هيجل»، دخل في أزمة روحية، وعزف عن الدين إلى إيمان متطرف بالعلم كما في ظهر في كتابه «مستقبل العلم».

حصل «رينان» على الدكتوراه عن دراسته «ابن رشد والرشدية»، التي بسببها ذاع صيته في العالم العربي. وعمل أستاذا للغات السامية لكن آراءه المعادية للدين أدت إلى إيقافه عن التدريس.

زار «رينان» القدس، وشرع في كتابة تاريخ للمسيحية بدأه بكتابه الشهير «حياة المسيح» الذي يعتبر من أهم الأعمال التي حاولت أن تفسر المسيح والمسيحية كظاهرة إنسانية بلا أية عناصر لاهوتية. اشتهر «رينان» كذلك بعنصريته الآرية الصريحة، ومعاداته للسامية. وهو الأمر الذي تعتبر محاضرته «الإسلام والعلم» دليلا عليه. وفي كل ذلك يظهر أثر «هيجل» جليًا عليه.


الداعية والمصلح الغامض

لا زال يدور الجدل حول محل ميلاد «جمال الدين الأفغاني» (1839 – 1897)، هل هو أفغانستان حقًا أم إيران؟ كما يدور الجدل حول حقيقة تشيعه من عدمه. فر «الأفغاني» مبكرًا إلى الشرق، ونشأت علاقة جيدة بينه وبين «الخديوي إسماعيل» حاكم مصر المولع بالثقافة، والذي كانت تجمعه بالسلطان العثماني علاقة متوترة.

تأثر المثقفون والإصلاحيون العرب كثيرًا بـ«الأفغاني» الذي رأوا فيه مثلهم الأعلى ومعلمهم واعتبروه «موقظ الشرق». احتل الاستبداد مركز اهتمام «الأفغاني» الذي رأى فيه معضلة الشرق، والعائق الذي يحول دون المسلمين ودون النهضة والرقي والحياة الإسلامية السليمة.أخذ البعض على «الأفغاني» غموضه، وبعض سلوكياته الشخصية، وعلاقاته القوية مع مثقفين غربيين مثيرين للجدل.


قصة المناظرة

بعد نفيه من مصر على يد الخديوي «توفيق» عام 1879 إلى حيدر أباد، سمح الإنجليز بعد احتلالهم لمصر وانقضاء الثورة العرابية لـ«الأفغاني» بالسفر إلى أوروبا. توجه إلى لندن ثم إلى باريس عام 1883. وفي باريس، التقى «الأفغاني» بـ «رينان» بترتيب من «خليل غانم»؛ وهو أحد نواب مجلس النواب العرب العثمان الذي فر إلى باريس بعد تراجع السلطان «عبد الحميد» عن الإصلاحات.

جرى بينهما نقاش دفع «رينان» إلى تقديم محاضرته بعدما نشر كتيبا بنفس العنوان «الإسلام والعلم». ألقى «رينان» محاضرته في «السوروبون»، ونشرت في جريدة «Debats» في 29 مارس/آذار عام 1883. وفي الـ 18 من مايو/ آيار أرسل «الأفغاني» ردًا على المحاضرة إلى نفس الجريدة ونشر فيها.

والغالب أن «الأفغاني» لم يكن يحسن الفرنسية تمامًا في تلك الفترة، وأن المقالة التي كتبت بفرنسية بليغة لا شك من قام بتحريرها هو «خليل غانم».وفي اليوم التالي مباشرة نشرت نفس الجريدة تعليقًا من «رينان» على رد «الأفغاني».


من صنع الحضارة الإسلامية؟

يبدأ «رينان» محاضرته برصد حالة التخلف التي يعانيها المسلمون والبلدان الإسلامية، مما يستدعي أن نبحث في حقيقة ما نسميه «فلسفة عربية أو إسلامية، وعلمًا عربيًا أو إسلاميًا».

إن الإسلام بالفعل منذ عام 775 م وحتى منتصف القرن 13، أي في عهد الدولة العباسية شهد نهضة علمية، لكنها لا تعود إلى أن الإسلام يرعى العلم، ولكن إلى صعود الفرس ونساطرة الشام إبان الحكم العباسي. (نساطرة): هو المعتقد الديني المسيحي الرافض لـ«مجمع أفسس» المعقود سنة 431م.

سمح الحكام العباسيون الذين لم يكونوا مؤمنين صادقين في إيمانهم، بهذه الحرية الفكرية التي لم يكن المتدينون ليسمحوا بها، واضطروا إلى التشدد أحيانا على مضض تحت ضغوط المتدينين.أما الإسلام وطبيعة المسلمين؛ فهم يؤمنون بأنهم يملكون الحقيقة المطلقة، لذا فليسوا في حاجة إلى البحث والفكر، وهم متعصبون متشددون ضد سواهم. وهم يرون أن رزق الله لا يتأتي عن استحقاق من سعي، لذا فلا حاجة إلى السعي.

هذا الأثر الإسلامي يظهر على كل الأعراق التي تعتنق الإسلام فيذهب بمزاياها العرقية، ولا يشكل استثناء في هذا سوى الفرس الذين احتفظوا بروحهم الحضارية، ولم يكن الإسلام فيهم سوى قشرة. كما أن الإسلام يؤسس دولته على وحي مزعوم، بما يذهب بالتسامح ويؤسس للتعصب الديني.فالفلسفة والعلوم التي هي في أصلها علوم إغريقية، لم يحتضنها المسلمون الحقيقيون؛ بل ظلت موضع ريبة، بل الفيلسوف عندهم موضع اتهام!. ومن هنا لا يمكن أن ينسب لهم الفضل فيما كانوا أعداء له. وعلينا أن نميز بين مرحلتين: المرحلة الأولى التي خف فيها التعصب والتشدد، والمرحلة الثانية منذ القرن الـ 13 والتي خنق فيها الإسلام العلم تمامًا.

العرب واللغة العربية ضد العلم!

العرب في نظر «رينان» أمة همجية لا تحب العلم. وقد استغلوا الإسلام لتبرير غزوهم ونهبهم للشعوب. أما اللغة العربية فهي لغة غير مناسبة لفلسفة ما وراء الطبيعة، وقد فرضت لغتهم على علوم الأمم التي خضعت للإسلام رغم أنف تلك الأمم ورغم أنف العلوم والفلسفة.


الدين مرحلة من حياة الأمم

يلخص «الأفغاني» ما طرحه «رينان» في محاضرته في نقطتين. الأولى منهما؛ هي أن الإسلام كان في جوهره معارضًا للعلم. ويرى «الأفغاني» أن هذا ليس خاصًا بالإسلام، والقرون الوسطى للمسيحية خير شاهد على ذلك. ولم يرتدع رجال الدين المسيحيين بعد عن محاولتهم قمع العلم والفلسفة؛ فلا ينبغي اختصاص الإسلام بذلك.

السبب لأن الدين هو مرحلة طبيعية في حياة الأمم عند نشأتها. حيث تكون تلك الأمم مذعوة من الطبيعة التي لا تفهمها، كما كانت عاجزة عن التمييز بين الخير والشر. لذا احتاجت تلك الأمم إلى ملاذ من خارجها هو كائن أعلى، يكون سببًا لكل تلك الأحداث وهو قادر على توجيهها. كما أن أوامر وتعاليم المربين الكبار فرضت على تلك الأمم عبر نسبتها إلى هذا الكائن الأعلى.من هنا كان الدين دورًا أساسيًا من الضروري أن تمر عليه الأمم في طريقها نحو الرقي والمدنية. لكن هذا الدور في الحقيقة كان نيرًا رزح تحته الإنسان في أشد عبودية تعرض لها. وعزف بسببها عن السعي والبحث. لكنه يأمل في أن تتخلص الأمة المحمدية من تلك القيود كما تخلصت المسيحية الغربية.ويختتم «الأفغاني» مقالته بأن الصراع بين الدين والفلسفة سيظل قائمًا طالما بقيت البشرية. والانتصار لن يكون للفكر الحر، لأن العقل يزعج الجماهير، ولا يفهمه سوى قلة من الأذكياء، بينما تحب البشرية الزراعة في المناطق المعتمة حيث لا يصل العلم ولا الفلسفة.


العرب والحضارة

يتصدى «الأفغاني» لـ«رينان» في النقطة الثانية -ألا وهي حب العرب للعلم وتفوقهم الحضاري- بوضوح أكبر من موقفه في مسألة العلاقة بين الإسلام والعلم، على الرغم من أن «الأفغاني» ليس عربيًا. يحتج «الأفغاني» باستيعاب العرب لعلوم فارس واليونان التي اطلعوا عليها ف البلدان المفتوحة، وصياغتهم لها في لغتهم العربية وشرحهم لها.

ويظهر تفوق العرب على غيرهم من الأمم في أنهم هم من استفادوا من كنوز اليونان من القسطنطينية، في حين أن شعوب أوروبا لم تلتفت إليها.ويحتج «الأفغاني» كذلك على فضل العرب بأن نصارى «حران» عرب وإن لم يكونوا مسلمين، وأن الأندلسيين لم يتخلوا عن عروبتهم، ولا يمكن إنكار ما للشعوب الفاتحة من فضل. لكن «الأفغاني» يحمل مسئولية تراجع الحضارة العربية؛ للعقيدة الإسلامية التي خنقت العلوم، واستخدمت من قبل الاستبداد.


الأفغاني يشبه الملاحدة العظام

أثار تعليق «رينان» على رد «الأفغاني» من الجدل ما يفوق المناظرة نفسها. فقد رأى أن «الأفغاني» يتفق معه بخصوص علاقة الإسلام بالعلم بين مرحلتيه الأولى والثانية. وأن «الأفغاني» نفسه دليل على رأيه في أن عظمة الأديان بعظمة معتنقيها، وعلى عظمة الآرية الفارسية التي تجلت في «الأفغاني». وأنه يذكره بـ«ابن رشد، وابن سينا» أو بأحد هؤلاء الملاحدة العظام الذين حملوا تراث العقل على مدى 5 قرون (يشير إلى رموز عصر النهضة).

ويؤكد «رينان» أنه لا يفرق بين المسيحية والإسلام، وأنه يرى أن دور المجتمع المدني هو في إضعاف الدين وتخليص الناس من سلطانه وتحويله إلى تعبير فردي كالآداب والفنون.


كيف تلقى المسلمون المناظرة؟

على مدى سنوات لم تترجم مقالة «الأفغاني» على الرغم من كثرة طلابه وكثرة الطلاب العرب والمسلمين في باريس؛ والغالب أن ذلك كان بسبب تواضع رد «الأفغاني» وآرائه الخطيرة فيه. لكن الشيخ «مصطفى عبد الرازق» أعاد فتح الموضوع في محاضرة ألقاها بالجامعة المصرية عام 1923 في محاضرته بعنوان «ذكرى رينان».

ويظهر فيما بقي لنا من نص محاضرته التي نشرت وقتها بـ«جريدة السياسة» أنه انتقد رد «الأفغاني» بقوة، وأنه كان أمينا في نقل عبارات «الأفغاني، ورينان» دون بتر.وقد فسر الشيخ «مصطفى عبد الرازق» موقف «الأفغاني» برغبته السياسية في استمالة الفرنسيين ضد الإنجليز.

ويؤيد ذلك تعقيب «الأفغاني» الذي نشرته جريدة «البصير» التي يرأسها «خليل غانم» على رد قوي من أحد الطلاب الجزائريين على «رينان». حيث ذكره «الأفغاني» بأن الفرنسيين يحسنون إلى رعاياهم المسلمين مقارنة بقمع الإنجليز للمسلمين في الهند. لكن الصورة التي سادت لاحقًا في كتابات العرب عن «الأفغاني»؛ هو أنه انبرى للدفاع عن الإسلام وإفحام «رينان».

نشرت الترجمة الكاملة لمقالة «الأفغاني» للمرة الأولى في كتاب «محمد الحداد»؛ «الأفغاني صفحات مجهولة من تاريخه» (1997). وفي العام 2005 نشر «مجدي عبد الحفيظ» دراسة كاملة وترجمة تامة للمناظرة في كتابه الذي يحمل العنوان؛ «الإسلام والعلم.. مناظرة رينان والأفغاني». وهي نفس الفترة التي ظهرت فيها ترجمة كاملة للمناظرة لـ«محمد الحداد» بعنوان «النص الحقيقي والكامل للمناظرة بين رينان والأفغاني».