إنني لا أنقاد لأي دافع ديني، فأنا (لا غنوصي)،

يقول تيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، التي جعلت المفكر الفرنسي روجيه (رجاء) جارودي يرى أنها ليست حركة دينية تعود للديانة اليهودية، بل عقيدة سياسية ولدت من القومية الأوروبية في القرن التاسع عشر.

ومن الأدلة على ذلك أن هرتزل (توفي في 1904م) والحركة الصهيونية عمومًا قبلت بقيام دولة لليهود في قارات مختلفة من العالم، قبل إقامتها في فلسطين وفقًا لأفكار دينية يهودية، ومنها: أوغندا، موزمبيق، الكونغو (أفريقيا)، قبرص (أوروبا)، الأرجنتين (أمريكا اللاتينية).

بجانب هذه الدول التي اقتُرِحت لإقامة دولة إسرائيل عليها، كان هناك منطقة عربية أخرى كادت تقام عليها الدولة الصهيونية، قبل شهرين فقط من وعد وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور الذي صدر في 2 نوفمبر 1917 بإنشاء دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية، وذلك خلال خطابه الشهير إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد، أحد أبرز أعيان اليهود في بريطانيا.

الاقتراح الذي سبق وعد بلفور، كان إنشاء دولة يهودية في منطقة الأحساء، الواقعة اليوم ضمن المنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية، وتطل على ساحل الخليج العربي بالقرب من دولة البحرين، وكان هذا الاقتراح في سبتمبر عام 1917م.

الوجود اليهودي على ساحل الخليج العربي، شرقي شبه الجزيرة العربية مر بمراحل كثيرة عبر التاريخ، قبل قيام إسرائيل على الأراضي الفلسطينية عام 1948م، وبعد قيامها. وربما آخر تجليات هذا الوجود، هو إعلان الحاخام الأكبر للمجلس اليهودي في الإمارات، عن وجود خطة لإنشاء أول حي يهودي كامل في دولة الإمارات العربية المتحدة عام 2022.

ما قصة اقتراح قيام دولة إسرائيل في الأحساء؟ ولماذا لم تقم؟ وما أسباب اقتراح هذا المكان، سواء الأسباب المعلنة أو الأسباب المحتملة التي لم تعلن؟ هذا ما نحاول توضيحه.

دولة يهودية في الأحساء

عرض وُصِف بالغريب قدمه طبيب يهودي روسي يقيم في باريس اسمه «م. ل. روثنشتاين»، في سبتمبر 1917، إلى وزارة الخارجية البريطانية، عن طريق السفير البريطاني في باريس لورد بيرتي.

العرض كان خلال الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)، حيث كانت الدولة العثمانية خصمًا للحلفاء وعلى رأسهم بريطانيا.

واقترح روثنشتاين أن تقوم دول الحلفاء (بريطانيا، فرنسا، روسيا… وغيرهم) بتجهيز وتنظيم جيش من اليهود قوامه 120 ألفًا في البحرين، تضعه تحت قيادته، وينطلق هذا الجيش من البحرين لاحتلال منطقة الأحساء، التي كانت وقتها تابعة للدولة العثمانية، ثم إعلان الأحساء دولة يهودية على شاطئ الخليج العربي.

ويقول روثنشتاين، إن هذا العرض يبدو للوهلة الأولى وهمًا، ولكنه واثق أنه سيكون حقيقة واقعة حين تصل الآلاف الأولى من الفرقة اليهودية التي تعهد بجمعها إلى أماكن تمركزها في البحرين في ربيع 1918، التي لن تقل عن 120 ألف مقاتل من المحاربين الأشداء، يسهمون بشروط معينة إلى جانب قوات الحلفاء.

الشروط هي، أن تصبح الأحساء دولة يهودية، التي ستتأسس بسواعد الجيش اليهودي الذي تتكفل بتجهيزه بريطانيا أو الحلفاء عمومًا، وأن يتولى الحلفاء تدريبه ويشتركون في هيئة قيادته، على أن يعتبروا في خدمة الجيش اليهودي ويرتدوا زيه.

كما اشترط روثنشتاين ألا تحارب الفرق اليهودية إلا في آسيا، وأن يتولى هو مهمة الإدارة العليا للعملية بنفسه، ولكن بمساعدة خبرات من إنجلترا ودول الحلفاء، لضمان مصالح اليهود من ناحية، ولضمان القيام بالمهمة بدقة واحترافية من ناحية أخرى.

ويتطلب ما سبق إبرام معاهدة بين الحلفاء وإنجلترا من جهة، وبينه (روثنشتاين) من جهة أخرى، بصفته المتحدث باسم الدولة اليهودية المقترحة، وسيصبح المشروع معاهدة لما يحدد وضعه رسميًا مجمع الحاخامات القائم على رأس الفرق اليهودية.

ثم بعد عمليات الانتقال إلى البحرين ووضع كافة أدوات التجهيزات والتسليح والتدريب والتأهب للحرب، يتم غزو الأحساء، ثم إعلان قيام الدولة اليهودية، واعتراف دول الحلفاء بالدولة الجديدة، وتنظم أمور الدولة الوليدة سريعًا، مع وصول متطوعين جدد وتدريبهم وتنظيمهم.

بعد ذلك تعلن حالة الحرب بين الدولة اليهودية والدولة العثمانية من جراء غزو الأولى لأراضي الأخيرة، وتدخل الفرق اليهودية فورًا في المعركة، وتبقى على هذه الحال حتى النصر النهائي لدول الحلفاء.

وسيشكل الإعلان الفوري للدولة اليهودية واعتراف دول الحلفاء بها عاملًا قويًا لحماس ما وصفه روثنشتاين بالأمة اليهودية، واندفاعها نحو دول الحلفاء، التي تشكل الدولة اليهودية جزءًا لا يتجزأ منها، مع ما يرافق ذلك من تدفق الأموال والمحاربين.

إضافة إلى ذلك سينطفئ الشعور الديني لدى الجنود اليهود المحاربين في جيوش الدولة العثمانية وألمانيا، وفي المقابل سيكون للحماس اليهودي تأثير في روسيا على إخوانهم المسيحيين، بحسب وصف روثنشتاين.

رفض بريطاني ومداولات

بعث السفير البريطاني في باريس هذا الاقتراح الذي قدمه له روثنشتاين إلى وزير الخارجية بلفور في 14 سبتمبر 1917، وطلب تعليماته حول الرد المناسب.

واستطلعت وزارة الخارجية رأي الوزارة المسؤولة عن شؤون الهند، باعتبار أن وزيرها يهودي، في ما يتعلق بهذا العرض قال الوزير مونتاجو (الوزير اليهودي الوحيد بالحكومة البريطانية) في رده الموثق بتاريخ 15 أكتوبر سنة 1917:

بصرف النظر عن الاعتراض العام على إدخال عنصر جديد إلى الجزيرة العربية، وبصرف النظر عن المشكلة مثار الجدل حول الرغبة في إقامة دولة يهودية بأي مكان، فإن هناك أسبابًا خاصة لاعتبار المواقع المختارة لتمركز الفرق اليهودية، وللإقامة النهائية للدولة المقترحة غير ملائمة تمامًا.

إن وصف الأحساء كولاية تركية يمكن أن يكون صحيحًا من وجهة فنية، ولكن المنطقة في الحقيقة بحوزة عبد العزيز ابن سعود أمير نجد منذ 1912، الذي عقد معاهدة صداقة وتحالف مع الحكومة البريطانية في ديسمبر 1915 التي تعترف بصراحة بحقوق ابن سعود في الأحساء، وتضمن له المساعدة في حالة هجوم أي دولة أجنبية على بلاده.

وفي ما يتعلق بالبحرين فإن شيوخها كانت لهم معاهدة مع بريطانيا منذ 1820، والحكومة البريطانية لا يمكنها أن تقر، دون موافقة صريحة من هؤلاء الحكام، أي اقتراحات تتعلق بحقوقهم الإقليمية.

بناء على هذا الرد رفضت الحكومة البريطانية طلب روثنشتاين، لكنه جدد طلبه وقدم تعديلًا على اقتراحه، وطلب من بريطانيا اختيار منطقة أخرى تتماشى مع مصالحها ومصالح الدولة اليهودية، إلا أن طلبه ووجه مرة أخرى بالرفض، وكان رد وزارة الخارجية البريطانية بأنها «لا تستطيع النظر إلى هذا الاقتراح بعين الاعتبار في الوقت الحاضر».

هناك احتمالات كثيرة لرفض بريطانيا، أولها ما جاء صراحة على لسان الوزير اليهودي بالحكومة، ولكن ربما هناك أسبابًا أخرى، أهمها ما يلي:

الاقتراح لم يكن له دعم كبير بين الأوساط الصهيونية ذات النفوذ، بخاصة وأن هناك جناحًا آخر قويًا في الحركة الصهيونية كان يتفاوض مع الحكومة البريطانية على تأسيس دولة في فلسطين.

السبب الآخر، هو أن الحكومة البريطانية ربما اعتقدت أن روثنشتاين مدعوم من الحكومة الفرنسية، وهو أمر لا تحبذه بريطانيا التي تريد أن تكون صاحبة اليد العليا، بخاصة وأن فرنسا لم يكن يعنيها إلا التخلص من اليهود ووضعهم في أي مكان من العالم، بحسب الباحثة الفلسطينية خيرية قاسمية.

وبجانب ما سبق يرى الكاتب السعودي عبد الرحمن الراشد أن الأحساء مكان صحراوي، وكانت بريطانيا تبحث لليهود عن مكان به ماء وزراعة ورعي، ولذلك كان التفكير في الأرجنتين وأوغندا، وفلسطين، ولو علم بلفور أن هناك بترولًا تحت أرض الأحساء وشبه الجزيرة العربية كان يمكن أن يغير رأيه وقتها.

لماذا اختار روثنشتاين الأحساء؟

السبب الذي أعلنه روثنشتاين لاختياره الأحساء كوطن لليهود هو أنها كانت مقاطعة عثمانية، وبالتالي فإن احتلالها من اليهود هو بمثابة إضعاف للدولة العثمانية التي تحاربها بريطانيا والحلفاء، بخاصة وأن سيطرة ابن سعود عليها حديثة، وكانت لا تزال محل نزاع بينه وبين الأتراك.

إلا أن هناك عوامل جغرافية وسكانية لا يمكن إغفالها، فالأحساء مطلة على الخليج العربي، ووجود دولة يهودية تابعة لقوات الحلفاء عليه يضمن نقطة سيطرة عسكرية مهمة على الممر المائي المهم.

أما من الناحية السكانية فقد كانت بالمنطقة جالية يهودية قديمة، ربما كانت ستكون حاضنة لليهود الوافدين من العالم في تلك المنطقة.

فالوجود اليهودي بالمنطقة (البحرين، الأحساء، ساحل الخليج) قديم، وكانت دائمًا وجهة للهجرات اليهودية، بخاصة الهاربون من اضطهاد الدولة العثمانية في توقيت عرض المقترح، الذين لديهم مشاعر عداء شديدة للعثمانيين ستحمسهم للقتال ضدهم بالتأكيد.

كانت البحرين قبلة ومستقرًا لليهود القادمين من العراق خلال القرن الأول الميلادي، وازدادت أعدادهم خلال القرنين الثالث والرابع الميلاديين، هربًا من الاضطهاد الفارسي لهم منذ ما يعرف بالسبي البابلي.

وفي مرحلة لاحقة استقرت بالبحرين والأحساء المتجاورتين جغرافيا مجموعات يهودية جديدة، نزحت من بلاد فارس ومناطق شرق وجنوب العراق نتيجة لاضطهادهم على يد الفرس في عهد فيروز بن يزدجر (457 حتى 484م).

وساعد على ذلك أن يهود شرق شبه الجزيرة العربية، في البحرين والأحساء وساحل الخليج عموما، كانوا بعيدين عن الخلافات والمعارك التي وقعت بين يهود الحجاز والنبي محمد في يثرب، غربي شبه الجزيرة العربية.

وفي مرحلة وسيطة حدثت بينهم هجرات إلى الهند وعدد من مناطق بلاد فارس، ولكن بعد الغزو البرتغالي لساحل عمان والخليج العربي، الذي أعقب اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح عام 1498م بدأ الوجود اليهودي يزيد من جديد في المنطقة.

وفد أغلب اليهود الذين استقروا هناك في تلك الفترة من البرتغال، وعمل قسم كبير منهم مع القوات البرتغالية كمرشدين ومترجمين، وبعضهم جاء من دول أوروبية أخرى، وكثير منهم أقام بشكل دائم في الخليج، حتى بعد رحيل القوات البرتغالية في منتصف القرن السابع عشر.

واستمر الوجود اليهودي في الخليج، لا سيما في الأحساء والبحرين، بحسب ما ذكر الرحالة الألماني كارستن نيبور الذي زار المنطقة بين عامي 1761 و1770م.

وفي القرن التاسع عشر ازدادت الهجرة اليهودية إلى الخليج بسبب اضطهاد الوالي العثماني داوود باشا الكرجي (1816 – 1831م) لهم، بخاصة بعد ما جرى عام 1822 عندما طالب داوود باشا يهود بغداد بإقراضه أموالاً، ونتيجة لرفضهم تعرضوا للاعتقال ومصادرة أموالهم، مما دفعهم للهجرة إلى الخليج وبخاصة البحرين والكويت.

كذلك أدى ظهور وباء الطاعون في بغداد عام 1830، ثم تعرض بغداد إلى فيضان نهر دجلة وغرق محلة اليهود إلى هجرة كثير من أسرهم إلى الأحساء والبحرين والكويت ومسقط.

وبالتزامن مع ذلك، وفدت هجرات يهودية أخرى من بلاد فارس، خلال حكم الأسرة القاجارية، التي كانت تفرض الإسلام على اليهود قسرًا، فتحول بعضهم إلى الإسلام نفاقًا، وبعضهم هاجر إلى البحرين والكويت.

ولعل أكثر العوامل تأثيرًا في هجرة اليهود إلى الخليج هو البحث عن فرص تجارية أفضل، فقد هاجرت مجموعة من يهود العراق إلى الأحساء خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر بحثًا عن فرص تجارية.

ولكن بعد الاضطراب الأمني الناتج عن الصراع بين آل سعود والعثمانيين، الذي انتهى بسيطرة عبد العزيز آل سعود، على الأحساء عام 1913م، بدأ اليهود حركة هجرة من الأحساء إلى البحرين والكويت ومناطق أخرى من ساحل الخليج.

ومع بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914م، بدأت أعداد اليهود الوافدين من العراق الخاضع للدولة العثمانية إلى البحرين –المستقلة- تزداد بصورة واضحة، هربًا من الخدمة العسكرية الإلزامية التي تفرضها الحكومة العثمانية عليهم، وبحثًا عن فرص تجارية أفضل، بعد أن تدهورت الأحوال في العراق نتيجة الحرب.

مما ساعد على هجرة اليهود إلى ساحل الخليج كان الاستقلال السياسي الذي تمتعت به الكويت والبحرين وعمان عن الدولة العثمانية، مما وفر أجواءً مناسبة لهجرة اليهود؛ فالكويت والبحرين ارتبطتا باتفاقيات وعهود مع بريطانيا، وعمان لم تدخل تحت السيطرة البريطانية يومًا.

وكان سكان هذه المنطقة في ذاك الوقت يتميزون بالتسامح الديني وتقبل الآخر، بحسب وصف الرحالة الألماني كارستن نيبور. كذلك وفرت لهم السلطات الاستعمارية الحماية في المناطق التي تحتلها.

هذا الوجود اليهودي المتجذر تاريخيًا في هذه المنطقة يدفعنا إلى القول إن روثنشتاين كان يبحث عن مكان به حاضنة شعبية، لها خبرة بالأرض والناس والظروف، تدعم القوات اليهودية الوافدة لاحتلال الأحساء، وتشكل قاعدة لبناء المجتمع اليهودي الجديد.

المراجع
  1. «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية»، روجيه جارودي
  2. «وثائق بريطانية حول اقتراح يهودي بإقامة دولة يهودية في منطقة الخليج العربي أثناء الحرب العالمية الأولى»، لخيرية قاسمية
  3. «الأصول التاريخية للوجود اليهودي في الخليج العربي»، لوسام حسين عبد الرازق، وعصام خليل محمد إبراهيم
  4. «تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام»، لإسرائيل ولفنسون.
  5. «حكايات من البحرين»، لخالد البسام
  6. «رحلة إلى شبه الجزيرة العربية»، لكارستن نيبور، ترجمة عبير المنذر
  7. «بلفور وإسرائيل والنفط والأحساء»، لعبد الرحمن الراشد، الشرق الأوسط، عدد 12 أبريل 2014.
  8. – «”From Abraham to the Destruction of the Second Temple”: The Illustrated Atlas of Jewish Civilization»، لـ Josephine Bacon.