هذه مقالة بعنوان «الدفاع عن الإسلام» كتبها الأديب المصري المعروف توفيق الحكيم، وصدرت في العدد رقم 93 من مجلة «الرسالة»، بتاريخ 15 أبريل 1935. ومجلة الرسالة مجلة ترأّس تحريرها الأديب المصري أحمد حسن الزيّات، واستمر صدورها بين عامي 1933 و1952، حيث توقّفت بعد ثورة يوليو، ثم عادت عام 1963 برئاسة الزيّات كذلك، قبل أن يتوقّف صدورها نهائيًا عام 1965. وكانت تلك المقالة منبرًا أسبوعيًا لكبار الأدباء والكتاب آنذاك كالعقّاد وسيد قطب ومحمود شاكر ومحمد مندور.في هذه المقالة، يظهر توفيق الحكيم بمظهر المسلم الغيور على دينه، والشرقي الحريص على الدفاع عن حضارته، خلافًا لما اشتُهِر عنه في بعض الدوائر من انتماء خالص للغرب. ينتقد الحكيم بشدّة هجوم فولتير على النبي صلى الله عليه وسلم، ويتّهم دوافعه، بل ويسقطه تمامًا. ويستعرض بعض الجهود الحديثة في الدفاع عن الإسلام ضد الانتقادات الغربية، وعلى رأسها أعمال الأستاذ الإمام محمد عبده، والدكتور طه حسين، والدكتور محمد حسين هيكل.يوضّح الحكيم في تلك المقالة أن الدفاع عن الإسلام في هذا المقام هو واجب قومي، لا ديني فحسب. وهي إشارة ينبغي الالتفات إليها في ظل ما يتعرّض الإسلام والمسلمون اليوم له، من هجوم وإسقاط ذي جذور سياسية، ولكن تحت غطاء ثقافي، يشارك فيه أحيانًا بعض المسلمين دون التفات إلى تبعاته الحضارية والقومية.


قرأت لتسع سنوات مضت قصة فولتير التمثيلية «محمد»، فخجلت أن يكون كاتبها معدودًا من أصحاب الفكر الحر. فقد سبّ النبى فيها سبًا قبيحًا عجبت له. وما أدركت له علة، لكن عجبي لم يطل، فقد رأيته يُهديها إلى البابا بنوا الرابع عشر بهذه العبارات:

فلتستغفر قداستك لعبد خاضع من أشد الناس إعجابًا بالفضيلة، إذا تجرأ فقدم إلى رئيس الديانة الحقيقية ما كتبه ضد مؤسس ديانة كاذبة بربرية. وإلى مَن غير وكيل رب السلام، والحقيقة أستطيع ان أتوجه بنقدى قسوة نبى كاذب وأغلاطه؟ فلتأذن لى قداستك أن أضع عند قدميك الكتاب ومؤلفه؛ وأن أجرؤ على سؤالك الحماية والبركة. وإنى مع الإجلال العميق أجثو وأقبل قدميك القديسيتين.
فولتير 17 أغسطس 1745

وعلمت في ذلك الحين أن روسو كان يتناول بالنقد أعمال فولتير التمثيلية، فاطلعت على ما قال في قصة «محمد» علّنى أجد ما يرد الحق إلى نصابه، فلم أرَ هذا المفكر الحر أيضًا يدفع عن النبى ما أُلصق به كذبًا، وكأن الأمر لا يعنيه، وكأن ما قيل في النبى لا غبار عليه ولا حرج فيه، ولم يتعرّض للقصة إلا من حيث هى أدب وفن. ولقد قرأت بعد ذلك رد البابا بنوا على فولتير، فألفيته ردًا رقيقًا كيسًا لا يشير بكلمة واحدة إلى الدين، وكله حديث في الأدب. فعظم عجبي لأمر فولتير وسألت نفسى طويلًا: أيستطيع عقل مثقف كعقل هذا الكاتب العظيم أن يعتقد ما يقول؟

دين تبعه آلاف الملايين من البشر على مدار الأجيال، هو في نظره حقًا دين كاذب؟ ومبادئ إنسانية كالتى جاء بها الإسلام، هى عنده حقًا مبادئ بربرية؟ أم إنه التملّق والزلفى والنفاق. وإن الزمن والتاريخ يضعان أحيانًا أقنعة زائفة على نفوس تزعم أنها خُلقت للدفاع عن حرية الفكر…


منذ ذلك اليوم وأنا أحس أنى فُجعت في شيء عزيز لدي: الإيمان بنزاهة الفكر الحر. وقد كنت أحيانًا ألتمس الأعذار لفولتير، وأزعم أنه قال ما قال لا عن مجاملة أو ملق، بل عن عقيدة وحسن طوية استنادًا على علم خاطئ بأخبار النبي، ولكن كتابه إلى البابا كان يتهمه اتهامًا صارخًا، ويدع مجالًا للشك في دخيلة أمره. إني قرأت لفولتير كتبًا أخرى تكشف عن آراء حرّة حقًا في مسائل الأديان، وتنمّ عن روح واسعة الآفاق تكره التعصب الذميم، فما باله عندما عرض لذكر محمد والإسلام كتب شيئًا هو التعصب بعينه، تعصبٌ لدينه، ذهب فيه إلى حد السجود وتقبيل الأقدام، لا لرب العزة والخلق، بل لبشر هو رئيس الكنيسة التي ما أرى أن فولتير كان ذات يوم من خدّامها المخلصين.

هي الأطماع التى كانت تدفع فولتير إلى التمسح بأعتاب الملوك والباباوات، ولقد يقدم ثمنًا لذلك أفكاره الحرة أحيانًا. منذ ذلك الحين وفولتير عندى مُتهم، ولن أبرئه أبدًا، ولن أعده أبدًا من بين أولئك العظام الذين عاشوا بالفكر وحده وللفكر. وأحسب أن التاريخ العادل سوف يحكم عليه هذا الحكم، فينتقم للحق بما افتراه على نبي كريم ظلمًا وزورًا. على أن الذي يدعو إلى الدهش أكثر من كل هذا أن الشرق والإسلام وقفا من الأمر موقف النائم الذي لا يعي ولا يشعر بما يحدث حوله، فلم أرَ كاتبًا من كتاب الاسلام قام في ذلك الوقت يدفع عن دينه هذا الهراء الذي قال فولتير، ويقذف في وجه هذا الكاتب بالحقائق الباهرة القاطعة، أو أن مؤلفًا وضع كتابًا يبرز فيه شخصية النبى الخيرة العظيمة واضحة جلية.

لقد كان الشرق في ليل هادئ بهيم لم تُثر فيه حركة فولتير يومئذ ساكنًا، ولكن اليوم قد تغير الأمر، ولاحت في أُفق الشرق خيوط الفجر، وقام في هذا القرن كُتاب يمجدون عقيدتهم وهم يعلمون أن فى ذلك تمجيدًا للحق وللشرق. فإن المسألة ليست مسألة دين فقط، إنما هى أيضًا مسألة جنس وقومية؛ وإذ تقول أوروبا : «الإسلام» فإنما تعني في غالب الأحيان «الشرق».

إن الحروب الصليبية في حقيقتها لم تكن إلا حرب الغرب على الشرق؛ وإن الفتح الإسلامى عندما بلغ فرنسا وهدد أوروبا لم يكن في الواقع إلا حرب الشرق على الغرب. هذا المد والجزر بين الغرب والشرق يفهمه مفكرو الأوروبيين تمام الفهم، ويحسبون له الحساب، ويعملون دائمًا على أن تكون الغلبة لهم آخر الأمر، أو أن يطيلوا على الأقل أمد غلبتهم إن كان لابد من تبدل الحال ومن دوران الفلك طبقًا لناموس أعلى لا قِبل لهم به.

فالدفاع عن شخصيتنا وعقيدتنا دفاع عن حياتنا، وإن الكتابات التى تُوجَّه لهذا الغرض النبيل ينبغي أن يكون لها علينا حق المؤازرة والتعضيد، وإني لست بناقد منقطع للنظر في أعمال المؤلفين وتقدير قيم ما يكتبون، ولكنى أريد أن أشير إشارة سريعة إلى ثلاثة أساليب مختلفة من أساليب الكتابة، اتجهت في العصر الحديث إلى هذه الغاية، كل في دائرته.

ففي الكتابة الدينية: «الرد على هانوتو» للأستاذ الإمام محمد عبده، فلقد نشر جابريل هانوتو الكاتب والوزير الفرنسى يومًا مقالة جاء فيها:

قد أصبحنا اليوم إزاء الإسلام والمسألة الإسلامية، اخترق المسلمون أبناء آسيا شمال القارة الأفريقية بسرعة لا تجارى حاملين في حقائبهم بعض بقايا تمدين البيزنطيين (يونان الشرق) ثم تراموا بها على أوروبا، ولكنهم وجدوا في نهاية انبعاثهم هذا مدينة يرجع أصلها إلى آسيا، بل أقرب في الصلة إلى المدينة البيزنطية بما حملوه معهم، ألا وهي المدينة الآرية المسيحية، ولذلك اضطروا إلى الوقوف عند الحد الذي وصلوا اليه، وأكرهوا على الرجوع إلى أفريقية حيث ثبت فيها أقدامهم أحقابًا متعاقبة.
ثم قال في موضع آخر:
وقصر فريق منا بحثه وحكمه على ما شاهده من المناقضات والخلافات بين الدينيّن المسيحيّ والإسلاميّ، فرأى في الإسلام العدو الألد والخصم الأشد. قال المسيو كيمون في كتابه «باثولوجيا الاسلام»: «إن الديانة المحمدية جذام فشا بين الناس وأخذ يفتك فيهم فتكًا ذريعًا، بل هي مرض مريع وشلل عام، وجنون ذهولى يبعث الناس على الخمول والكسل، ولا يوقظه منهما إلا ليسفك الدماء ويدمن على معاقرة الخمور، ويجمح في القبائح. وما قبر محمد في مكة إلا عمود كهربائى يبث الجنون في رؤوس المسلمين ويلجئهم إلى الإتيان بمظاهر الهستريا (الصراع) العامة والذهول العقلى، وتكرار لفظة الله إلى ما لا نهاية، والتعود على عادات تنقلب إلى طباع أصلية ككراهية لحم الخنزير، والنبيذ، والموسيقى، والجنون الروحانى، والليمانيا، والماليخوليا، وترتيب ما يستنبط من أفكار القسوة والفجور في اللذات. [إلخ… إلخ…]

أمثال هذا الكاتب يعتقدون أن المسلمين وحوش ضارية، وحيوانات مفترسة «كالفهد والضبع»، كما يقول المسيو كيمون، «وأن الواجب إبادة خمسهم»، كما يقول أيضًا، «والحكم على الباقيين بالأشغال الشاقة، وتدمير الكعبة، ووضع ضريح محمد في متحف اللوفر» وهذا أيضًا قوله. وهو حل بسيط وفيه مصلحة للجنس البشرى..أليس كذلك؟ ولكن قد برح عن خاطر الكاتب أنه يوجد نحو 130 مليون مسلمًا، وأن من الجائز أن يهيب هؤلاء «المجانين» للدفاع عن أنفسهم والذود عن بيضة دينهم.

فما ظهر هذا الكلام في صحيفة المؤيد، حتى قام الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده لساعته مجرِّدًا قلمه، وكتب نحو أربع مقالات هي أقوى ما قرأت دفاعًا عن الإسلام، وإظهارًا لحقيقة مبادئه الخافية على أغلب الأوروبيين. وقد رد على هانوتو فيما أوردنا صائحًا :

ما هذا التمدين الآرى الذي كانت عليه أوروبا عندما انتقص أطرافها المسلمون ؟؟ هل كانت تلك المدنية هى التسافك في الدماء، وإشهار الحرب بين الدين والعلم، وبين عبادة الله وبين الاعتراف بالحق، نعم هذا هو الذي كان معروفًا عند الغربيين وقت ما ظهر الاسلام. ماذا حمل الاسلام إلى أوروبا، وما هى المدنية التى زحف عليهم بها فردوها؟ زحف عليهم بما استفاد من صنائع الفرس وسكان آسيا من الآريين، زحف عليهم بعلوم أهل فارس والمصريين والرومانيين واليونايين. نظف جميع ذلك ونقاه من الأدران والأوساخ التى تراكمت عليه بأيدى الرؤساء في الأمم الغربية لذلك التاريخ، وذهب به أبلج ناصعًا بهر به أعين أولئك الغافلين المتسكعين الذين كانوا في ظلمات لا يدرون أين يذهبون. إني أكيل لمسيو هانوتو إجمالًا بإجمال، والتفصيل لا يجهله قومه وكثير من منصفيهم لم يستطع إلا الاعتراف به. إن أول شرارة ألهبت نفوس الغربيين فطارت بها إلى المدنية الحاضرة كانت من تلك الشعلة المُوقدة التى كان يسطع ضوؤها من بلاد الأندلس على ما جاورها، وعمل رجال الدين المسيحى على إطفائها مدة قرون فما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. واليوم يرعى أهل أوروبا ما نبت في أرضهم، بعد ما سُقيت بدماء أسلافهم المسفوكة بأيدى أهل دينهم في سبيل مطاردة العلم والحرية وطوالع المدنية الحاضرة.
ثم رد الإمام في موضع آخر:
يجب على الباحث في الإسلام أن يطلبه في كتابه، كما يجب عليه أن يطب آثاره والاسلام إسلام، والمسلمون مسلمون، ولو استشم مسيو (كيمون) الذي استشهد هانوتو بكلامه ريح العلم لما استفرغ ذلك القذر من فيه، ولا حاجة إلى الكلام فيه، فسخافة رأيه وقلة أدبه تكفيه. من أين أتى المسلمون وكيف دخل عليهم في عقائدهم بالتشبيه، وفي عوائدهم بالتمويه ؟ وممن تعلموا الافتراس، وعمن أخذوا الضراء بالشهوات ؟ أنا أعلم ذلك وأهل العلم يعلمون، والله من ورائهم محيط. اتبع المسلمون سنن من قبلهم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى سقطوا في مساقطهم، وطارحوا الأوهام حتى انجروا إلى مطارحهم، وباءوا بما كان لهم وما عليهم. حدثت في الدين بدع أكلت الفضائل وحصدت المقائل، وترامت بالناس إلى حيث يصب عليهم ما استفرغه (كيمون). أما لو رجع المسلمون إلى كتابهم واسترجعوا باتباعه ما فقدوه من آدابهم لسلمت نفوسهم من العيب، وطلبوا من أسباب السعادة ما هداهم الله اليه في تنزليه على لسان نبيه، ومهده لهم سلفهم وخطه لهم أهل الصلاح منهم، واستجمعت لهم القوة ودبت فيهم روح الفتوة، وكان ما يلقاه هانوتو وكيمون من دين صحيح شرًا عليهما مما يخشونه من دين شوهته البدع.يرى كيمون أن يخلى وجه الأرض من الاسلام والمسلمين ويستحسن رأيه هانوتو لولا ما يقف في طريق ذلك كثرة عدد المسلمين؛ وبئسما اختارا لسياسة بلدهما أن يظهرا ضغنهما، ويعلنا خطل رأيهما وضعف حلهما. أما فليعلم كل من يخدع نفسه بمثل حلمهما أن الاسلام إن طالت به غيبة، فله أوبة، وإن صدعته النوائب فله نوبة، وقد يقول فيه المنصفون من الانكليز مثل (اسحق طيلر) وهو قس شهير ورئيس في كنيسة: إنه يمتد في أفريقيا ومعه تسير الفضائل حيث سار، فالكرم والعفاف والنجدة من آثاره، والشجاعة والإقدام من أنصاره.

بهذا القلم وهذه المعرفة وهذا الذهن، وقف رجل الاسلام الحديث محمد عبده يذود عن بيضته أمام عدوان جهابذة الفكر والقلم من الأوروبيين.

أما في الكتابة الأدبية، فأذكر «على هامش السيرة» للدكتور طه حسين، ففي هذا الكتاب دفاع عن الإسلام كما يستطيع الأدب البحت أن يدافع. فهو لا يسلك الطريق المستقيم في الكلام عن الإسلام، ولا يلجأ إلى التدليل العقلى، إنما يخلق جوًا شعريًا يحبب إلى النفس سيرة النبى وبيئته؛ وقد عمد الدكتور طه حسين إلى الأساطير ينسج منها هذا الجو الأدبي الجميل، وتلك وسيلة الأدب والفن، ومن ذا يقرأ هذا الوصف لبلاد النبى ولا تأخذه روعته؟

هنالك دعت آمنة إليها من حضرها من نساء بنى هاشم، فأسرعن اليها وقضين معها ليلة لا كالليالى، أنكرن فيها كل شئ، وأعجبن فيها بكل شئ، أنكرن حتى أنفسهن، فقد رأين مالم ير أحد، وسمعن ما لم يسمع أحد، وأحسسن ما لم يحس أحد. ولم تكن آمنة أقلهن إنكارًا وإكبارًا وإعجابًا
فقد كانت ترى وهى يقظة غير نائمة أن نورًا ينبعث منها فيملأ الأرض من حولها، ويزيل الحجب عن عينيها، وكانت تنظر فترى قصور بصرى في أطراف الشام، وكانت تنظر فترى أعناق الإبل تردى في أقصى الصحراء، وكانت لا تتحدث إلى من حولها بما ترى مخافة أن ينكرن ما تقول، أو يظنن بها الظنون، وكانت هذه من صاحباتها لا تمد طرفها إلى شئ حتى تراه نورًا كله، لا ظلمة فيه وانما هو مشرق مضئ، أو هو الإشراق الخالص، وكانت هذه الأخرى من صاحباتها تنظر، فإذا نجوم السماء تدنو من الأرض وتمد إليها أشعة قوية باهرة نقية ساحرة، وإنها لتدنو وتدنو حتى يخيل إلى الرائية أنها توشك أن تمسها وتقع عليها.

لقد دافع طه حسين عن الإسلام في كتابه «على هامش السيرة» وإن كان لم يقصد إلى ذلك. فإن الأدب الصرف والفن الصرف لا يقصدان أحيانا إلى شيء، ولكن في مجرد صوتيهما أبلغ الكلام.

أما في الكتابة العلمية: فها هو ذا كتاب «حياة محمد» للدكتور محمد حسين هيكل بك. ولو أنى أعتقد أن أسلوب الدكتور هيكل في «حياة محمد» يدخل أيضًا في منطقة الكتابة الأدبية، فإن هذا الكتاب في نظري يعتبر من كتب «التراجم والسير» التي يضعها الكتاب الأدباء، لا من البحوث العلمية التى يؤلفها المؤرخون العلماء ويعنون فيها بإضافة شيء جديد إلى العلم المعروف، أو استكشاف وثيقة من الوثائق التحريرية أو الآدمية، أو تحقيق مصدر من المصادر. على أن كتاب هيكل هو بلا نزاع أول سيرة نبوية خليقة أن تمثل تطور العقلية الاسلامية في هذا العصر الحديث.

وما أشق انتظارنا هذه الأجيال الطويلة لهذه السيرة الحديثة نضعها إلى جانب سيرة ابن هشام والسيرة الحلبية وطبقات ابن سعد وغيرها من السير القديمة حتى يستطيع عصرنا أن يجهر بأنه فعل شيئًا من أجل الاسلام.

ولو أن الأستاذ الشيخ محمد عبده حيٌّ اليوم لاستقبل هذا الكتاب بمثل ما استقبله به الأستاذ الشيخ المراغي، فرحًا بهذا القلم الجديد ينهض لخدمة الحق والاسلام.

ولقد ذكرت هذه الكتب وهذه الأساليب الثلاثة بالذات لما رأيته فيها من نظرة جديدة إلى محمد والإسلام. نظرها ملؤها إلا كبار الصادر عن فكر حر لا تعصب أعمي. إن الناس لم تعد تعني بتلك الكتب المفعمة بالثناء الأجوف والألقاب الطويلة يحاط بها اسم النبي، وهو في عظمته أجل من أن يحتاج إليها. إنما تريد الناس اليوم حقيقة مجردة ناصعة في تجردها أجمل وأسمى وأبلغ في النفوذ إلى القلوب، وهذا ما صنع هيكل بك في كتابه «حياة محمد» على نحو خليق بالثناء، فلقد أسقط من حياة النبي تلك المعجزات التي لاتغني من الحق شيئًا ما دمنا في مجال التدليل العقلي، وأظهر شخصية النبى عظيمة فى بشريتها السامية، وأبان عن غرض النبى في الدعوة إلى دين جوهره اقتناع النفس بالحقيقة العليا. إن هذه النظرة الجديدة فيها إجلال للنبوة. وإن أولئك السفهاء الذين كانوا يطلبون إلى الأنبياء أن يثبتوا نبوتهم بالمعجزات قد أثموا في حق الفكر البشرى قبل أن يأثموا في حق الدين.

إن المعجزة : أى الاتيان بعمل خارق للمعتاد لا يدل على شئ ولا يثبت نبوة ولا يدحضها. فإن من الكهان أو بسطاء الناس من يملكون أحيانًا تلك القوى الخارقة في أجسامهم أو عقولهم أو أرواحهم دون أن يكونوا من أجل ذلك أنبياء. إن النبى ليس في حاجة إلى معجزة كى يكون نبيًا. إنما النبى من حُمل رسالة علوية لا ينصرف عن الحياة حتى يؤديها، ومن فضل محمد أنه لم يشأ أن يقنع الناس بغير ذلك، فقد بلغهم رسالته واعتمد في اتيانها على العقل المجرد.

ولقد جاء في كتاب هيكل بك: لما جهد المسلمون عطشًا أثناء ميرة جيش العُسرة إلى غزوة تبوك ثم أمطرتهم السماء ذهب بعضهم إليه (إلى النبي) يقول إنها معجزة، فكان جوابه : «إنما هي سحابة مارّة»؛ ولما كسفت الشمس يوم اختار الله ابنه إبراهيم إلى جواره قال الناس: إن هذا الكسوف معجزة، فكان جوابه: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته ). هذا جواب محمد الذي قيل إنه نبي كاذب! فهل يمكن أن يكون هذا جواب نبي كاذب؟

إن في كتاب هيكل صفحات تصلح ردًا بليغًا على فولتير. إن محمدًا هو أعظم من فهم حقيقة النبوة، ووعى معنى الحقيقة العليا، وأدرك أن أكبر معجزة في هذا الكون هى أنه لا يوجد في الكون معجزات، وأن كل شيء يسير وفقًا لنظام دقيق، وإذا قيل نظام قيل قانون، وإذا قيل قانون قيل عقل مدبر، وهذا العقل واحد أحد تبدو سمته في إدارة الأجسام غير المحدودة كما تبدو في إدارة الأجسام غير المحدودة في الصغر، ذات اليد العلوية وعين أثرها في كل شيء، يد واحدة لا تتغير وقانون واحد لا يتغير. إن محمدًا كما يبدو في وصف الدكتور هيكل قد تأمل الطبيعة كثيرًا، وفكر مليًا في نظامها العجيب فكشف عن بصيرته وبصره فامتلأ قلبه بالله، كما اقتنع عقله بوجوده، فجاء دينه دينًا كاملًا، صادقًا في نظر القلب والعقل معًا. ولئن كان على الأرض نبى أحب العلم، ولم يخش دينه العلم، ولم يضطهد العلماء، فهو «محمد» الذي قال: «فضل العلم خير من فضل العبادة»، «اطلب العلم ولو في الصين»، وكثيرًا من الأحاديث التى تثنى على العلم وتحض عليه. ذلك أن مصدر اقناع العلم ومصدر اقتناع محمد واحد : الكون وملاحظة ما فيه من ابداع ينم عن يد الخلاق العظيم.

في كتاب حديث للعالم أينشتين فصل ذكر فيه رأيه في الدين، فقال إنه يعتنق ما يسميه «الديانة الكونية» تلك الديانة التي تملأ قلب كل عالم انقطع لتأمل «ذلك التناسق العجيب بين قوانين الطبيعة وما يخفى من عقل جبار لو اجتمعت كل أفكار البشر إلى جانبه لما كونت غير شعاع ضئيل أقرب القول فيه أنه لا شيء».

لا ريب عندى أن إحساس اينشتين نحو الكون والله هو عين إحساس محمد يوم كان يتحتث في غار حراء قبل نزول الوحى.

إنما الأنبياء والعلماء قلوب واعية تشعر بجلال الله. ولا يمكن لنبى أن يكون نبيًا إلا أن يشعر من تلقاء نفسه بعظمة الخليقة ويتحرق شوقًا إلى معرفة صانعها، ولا يزال الشوق بقلبه حتى يكشف له الصانع الأعظم عن بعض نوره، ويوحى إليه بنشر هذا النور على الإنسانية. إنى كلما تأملت شخصية محمد مجردة ثبت إيمانى بأن الخصومة المعروفة بين العلم والدين ليس لها في الحقيقة وجود، وأن الدين الحق لا يتعارض والعلم الحق … بل إن الدين والعلم شئ واحد، وكلاهما يعى ويؤمن ويلهج بتناسق الوجود ووحدة قوانينه ودلالة وحدة الوجود على وحدة الخالق، ولم يظهر نبى حق ولا عالم حق شعر بغير ذلك. إنما الفارق بين العلم والدين في السبل التي يسلكها كل في الدنو من الله. ومن قال أن وسائل العلم ينبغي أن تماثل وسائل الفن أو وسائل الدين؟

إن الطرائق والسبل يجب أن تظل مختلفة مميزة لايختلط بعضها ببعض، إنما المصدر واحد دائمًا والغاية واحدة. فما الدين والعلم والفن إلا خيوط ثلاثة كُتب على بشريتنا العمياء القاصرة أن تتمسك بها لتهتدي إلى ذلك النور الذي لابداية له ولانهاية: الله.

إن الاسلام وهو أحدث الأديان، وهو الذي لم يخاصم العلم، وهو الذي اتسع صدره لكل شيء يصلح فيما يرى الدكتور هيكل لمعالجة أزمات العالم الحاضر، الروحية والاجتماعية والاقتصادية. وهو رأي صادق إذا قيض الله للاسلام رجالًا ذوى نظرة نافذة وذهن مستنير واطلاع واسع، يبرزون فضائله بأساليب جديدة، ويتولون إذاعته والدفاع عنه بأقلام ذكية قديرة.

ولقد صنع هيكل كثيرًا في هذا السبيل بأسلوبه الجديد في «حياة محمد». ولئن كان قد أثم في دنياه فلقد اشترى بكتابه آثامه! ولسوف يتقدم يوم الدين وكتابه بيمينه يشفع له في دخول الجنة! ولسوف يدخلها بإذن الله متأبّطًا ذراع طه حسين بما قدمت يمناه هو أيضًا من كتاب أدبى جميل «على هامش السيرة»، كان له ولا ريب أبلغ الأثر فى حمل الناس على استمراء أخبار النبي، ولهما بعد ذلك ولأمثالهما ممن دافعوا ويدافعون عن الاسلام خير التحية. فإني قلتها وأقولها دائمًا: ليس الأمر أمر عقيدة وديانة، إنما هو إلى جانب هذا أمر حياة تلك الكتلة التى يسميها الغربيون: الشرق.

وما الدفاع عن الإسلام إلا الدفاع عن الشرق؟