كشف عبارة جان بول سارتر، الفيلسوف الوجودي البارز، أن «الجحيم هو الآخرون»، عن عقدة نفسية ووجودية أثقلت النفس البشرية لعقود. يعود أصل تلك العبارة الغامضة لمسرحيته المعروفة «لا مَخرج- No Exit»، المبنية على الأفكار الجوهرية لفلسفته الوجودية، التي يحاول سارتر من خلالها توضيح ديناميات العلاقات بين البشر وجوهر الحرية النهائية التي يبحثون عنها ويسعون إليها.

تدور فلسفة سارتر في المقام الأول حول مفهوم الوجودية. التي يسعى من خلالها لتوضيح أن الوجود يسبق الجوهر، وهو مبدأ يسلط الضوء على استقلالية الإرادة البشرية وقدرة الإنسان على أن يصير كما يريد. فهويتنا ليست محددة سلفًا، بل مقترنة بطموحاتنا واختياراتنا وأفعالنا.

«الجحيم هو الآخرون» إذن ليست إدانة للمجتمع أو العلاقات الاجتماعية بحد ذاتها، ولكنها استكشاف للذات من خلال عيون الآخرين. يعتقد سارتر أننا نرى قيمة أنفسنا ونشكل هويتنا استنادًا إلى تقدير ونظرة وعيون الـ«الآخر» القاسية لنا. انحيازنا المؤسف إلى رؤية أنفسنا كما يرانا الـ«الآخر» هو ما يصفه سارتر بأنه «الجحيم» الذي يُقيد حريتنا في تحديد وتشكيل من نكون.

العبارة التي غالبًا ما يساء فهمها لا تعني بالضرورة أن الناس هم الجحيم؛ بل هو استكشاف للألم النفسي والوجودي الناجم عن العملية المعقدة لتحديد الذات من خلال فهم الآخر لنا وحكمه علينا. «الجحيم» هنا يدل بشكل مجازي على الصراع الداخلي الناجم عن زيادة الأهمية التي نعطيها لتصورات وحكم الأشخاص الآخرين علينا.

هل يمكن وصف الجحيم بأنه الإفراط في أي شيء دون قيد أو حد؟
سارتر

ونحن ندلف في جحيم الآخر الذي بيّنه سارتر نمرُّ بما يطلق عليه «النية السيئة»، وهو مبدأ آخر أساسي في فلسفته الوجودية. يمكن وصف «النية السيئة» بأنها الحالة التي نستسلم فيها للأعراف المجتمعية وتوقعات الأشخاص إلى الدرجة التي نظل فيها غير مدركين لحقيقة أنفسنا فننسى أو نتناسى مقدار الحرية الذي كان من الممكن أن ننعم به لو لم نسقط في فخ الاهتمام بما يقوله الناس عنَّا.

شخصيات مبتورة ونفوس متأزمة

يفند سارتر إذن بتلك الكلمات الثلاث [الجحيم هو الآخرون] عبء وجود الإنسان في مجتمع ما بل ويضعه تحت المجهر. تلمح فلسفته بشكل غير مباشر إلى ضعف الإنسان النرجسي الذي يجبرنا دومًا على العيش في ظل تقييم ونظرة وآراء «الآخر». 

يشكل الشعور بأننا مراقبون ومحكومون ومقيمون باستمرار حالة تشل إمكانياتنا النفسية وقدراتنا على اختيار هوية خاصة منفصلة لنا. الآخر هنا يعدم حريتنا في أن نكون مَا نريد. مما يقود إلى التصور بأن الجحيم، في الواقع، هو الناس الآخرين [أي المجتمع].

عبارة سارتر، مع ذلك، ليست مجرد تصريح عن عذاب العلاقات الاجتماعية، بل هي تمثيل رمزي للفلسفة الوجودية. إنها تذكير قاسٍ بميل الإنسان للتورط في الحكم على الآخرين والخضوع لأحكامهم في آن. هنا يثير سارتر الوعي بضرورة احترام حرياتنا الفردية، ووجوب أن نعترف وأن نحرر أنفسنا من «النية السيئة» وأن نتخذ خيارات حقيقية، وبالتالي تَبنّي حريتنا الوجودية.

الجحيم في عصر منصات التواصل

لا يزال يحثنا مفهوم سارتر بأن «الجحيم هو الآخرون» على التأمل العميق في التفاعلات البشرية وجوهر وجودنا. هنا تكمن أهمية سارتر الفلسفية التي لا تزول، ممتدة عبر عديد من المجالات المجتمعية والنفسية. هذا المفهوم بالرغم من العقود التي مرت عليه يصبح اليوم ذا صلة، أكثر من أي وقت مضى، في عالمنا هذا المشبع بوسائل التواصل الاجتماعي التي ما تفتأ تؤكد المقارنة والحكم.

 باتت وسائل التواصل هي عين الجحيم قياسًا على المعاني التي أدرجها سارتر. يقوم كل واحد منا بتقديم حياته بشكل يرضي «الآخر»، لدرجة تتقلص معها الحرية الفردية ويموت معها الصدق. لقد تم تضخيم الخوف من «الآخر» الحاكم، مما أدى إلى تشوه تصوراتنا عن الذات. هنا تكمن الأهمية الخالدة لفلسفة سارتر في عصر تعزز فيه منصات التواصل المقارنة والحكم.

لكن هل نستطيع إعادة تعريف قيمتنا الذاتية بتحريرها من قيود الرأي العام ونظرة الآخرين لنا وحكمهم علينا؟

ليس ببعيد عن أي شخص مقدار الصراعات النفسية الداخلية الناتجة عن رؤية أنفسنا من خلال عيون الآخرين. فعصر التواصل المفتوح صار بعينه عصر الإجهاد والقلق والتقدير السلبي للذات. وقد وصل الأمر في أحيان عدة إلى الإصابة باضطراب القلق والاكتئاب والوسواس القهري ومشاكل عقلية ونفسية أخرى.

على المستوى الفلسفي، يوفر السياق الوجودي لعبارة سارتر إطارًا يتحدى المعنى التقليدي للتفرد والذاتية. فها هو يعترف بالطبيعة المتشابكة للوجود الإنساني. ويكشف أن استقلال الفرد يأتي بعد رحلة طويلة وشاقة وصدام قاس بين التكتلات الاجتماعية والرغبات الذاتية والتمسك بالقيم. تلك المعركة حامية الوطيس بين الاستقلال والانضمام إلى الوعي الجماعي تؤكد أهمية احترام الحريات الفردية وفي ذات الوقت كبح جماح توقعات المجتمع.

خلاصة القول ، تبقى «الجحيم هو الآخرون» لسارتر أكثر العبارات درامية وانعكاسًا على وضعنا الحالي في العصر الرقمي، حيث تداعيات تصور الذات اعتمادًا على نظرة الآخرين، والتي كانت فيما مضى جحيم، صارت اليوم جحيم مضاعف. فنحن لم نعد فقط ننتظر تقييم الآخرين لنا ورضاهم عنا، بل صرنا نقارن أنفسنا بهم فلا نرضى عنَّا.

ألا يكون التنوع والاعتدال والتوازن أدوات نستخدمها كي لا نغلي في جحيم الإفراط.
سارتر، لا مخرج

وعلى غرار ما سماه سارتر «لا مخرج» فقد يكون مخرجنا الوحيد هو السعي إلى الموازنة، بحيث يكون التفكير في نظرة «الآخر» لنا محفز، لا ننكسر أمامه، بل نبني هويتنا الخاصة في وجه الضغوط الاجتماعية وبالتالي تحصيل حريتنا الوجودية، فقد ندرك في نهاية المدى أن الجحيم هو أن نفقد أنفسنا بسبب الخضوع لنظرة «الآخرين».