اعتمدت ميكانيكا الكم على ثورية وإبداع مفكريها ومنظريها الأوائل، وتشكلت من قريحتهم الجريئة منظومة صادمة للبشرية تحمل أفكارا وتساؤلات غاية في الراديكالية وتضع حول مفهومي «الواقع» و«الطبيعي» عشرات علامات الاستفهام والتعجب.

بينما اعتمد هؤلاء على التفكير خارج الطريقة التقليدية ليصلوا للمبادئ التي أسهمت في تكوين ميكانيكا الكم المرحلي، اعتمد وولفجانج باولي على موهبة أخرى. كان باولي ناقدا فذا، ومن خلال نقده استطاع دائما أن ينظر للأمور بشكل أعمق ويقود الآخرين لرؤية ما لم يرونه من قبل.

في ذكرى ميلاده السابعة عشرة بعد المائة نعود لزيارة حياة باولي وعناصرها التي صنعت منه مثالا للعبقرية برأي شيخ العباقرة أينشتين ذاته.


عائلة جديدة كليا

إن الأمور كلها أكثر تعقيدًا بالنسبة إلى عنها بالنسبة إليك

هكذا شعر وأشار باولي للواقع المحيط به، فقد كانت حياته، أفكاره وواقعه دائمًا على مستوى استثنائي من التعقيد. ولد عبقريًا لعائلة ذات ظروف استثنائية كونها ذات أصول يهودية، وعلى نصيب من الثروة التي ضمنت لها أن تكون مسيطرة ومنبوذة نسبيًا في آن واحد.

ولد وولفجانج في الخامس والعشرين من أبريل عام 1900، لأب كان أستاذًا في الكيمياء الطبية والكيمياء الفيزيائية الطبية، لكن هذه العبارة تخفي الكثير من التاريخ الذي رزح تحته «وولف باشيليس» والد وولفجانج باولي. كان تغيير باشيليس لاسم العائلة وتحوله من اليهودية إلى الكاثوليكية الرومانية نوعًا من تحديد الهوية الذاتي. تاركًا براغ وراءه ومتجهًا نحو فيينا، صنع باشيليس لعائلته صفحة جديدة من التاريخ سماها «باولي» وساعدته على أن يصبح أستاذًا وناشرًا للكتب في بيئة تصاعدت منها أدخنة معاداة السامية.

لم ير وولفجانج الابن براغ التي ترعرع فيها أبوه لكنه نشأ في طبقة فيينا العليا المثقفة التي كان جزءًا كبيرًا من ثقافتها هو نتاج أشخاص لهم أو لعائلاتهم تاريخ مع الجيتو، لكنهم استطاعوا بطريقة ما العبور منه لعالم الأضواء والشهرة والاحترام. على الأقل لبعض الوقت قبل أن يضطروا للفرار أو للموت.

عند تعميد وولفجانج الرضيع، كان إيرنست ماخ – صاحب مبدأ ماخ الفيزيائي ومؤسس الفلسفة الوضعية الحديثة – الأب الروحي نظرًا للصداقة التي جمعت بين وولفجانج الأب وبين ماخ وابنه –لودفيج ماخ. ستستمر العلاقة بين وولف الابن وايرنست ماخ لسنوات عدة سيقدر فيها هذا الأخير عبقرية الابن وسيساعده على تطويرها.

بعد إنهائه لدراسته الثانوية – الجيمنازيوم آنذاك – التي تخصصت في العلوم الإنسانية ثم الطبية، قام باولي الابن بتغيير مسار حاد نحو الفيزياء، حائزًا على الدكتوراه بعد بداية دراسته الجامعية بثلاث سنوات.


موسوعة على قدمين

في مبتدأ دراسته الأكاديمية للفيزياء، كان باولي طالبًا لدى سومرفيلد – صاحب نظرية بور- سومرفيلد الكمومية – في جامعة ميونيخ. بحلول هذا الوقت كان باولي قد علم نفسه بنفسه كل ما يتعلق بالنظرية النسبية وقتها وكان قد قرأ كل ما هناك ليقرأ عنها وعن تفاصيلها.

كان على سومرفيلد أن يقوم بإعداد مجلد مرجعي عن النظرية النسبية لصالح موسوعة العلوم الرياضية، وهو الأمر الذي لم يتسن له الوقت لإتمامه. ربما ظهر الأمر كمجازفة جريئة من سومرفيلد أن يسند هذه المهمة لطالبه باولي ذي الواحد والعشرين عامًا لكن العبقرية التي ظهرت على ملامحه جعلت الأمر منطقيًا للغاية.

لقد كان سومرفيلد وباولي يعرفان حق المعرفة أن الأخير شاب معجزة.

حظيت مقالة باولي المطولة – أكثر من250 صفحة – عن النسبية برضا أينشتين واحتفائه، مما جعل أنظاره تهتم بكتابات ومنشورات باولي لكن ظلت «مراسلاته» هي الأهم على الإطلاق. بعد سنوات من العمل والتدريس والبحث في جامعات جوتنجن وهامبورج وميونيخ ستظل أكثر ملاحظاته عبقرية هي الانتقادات التي أشار إليها في مراسلاته مع مختلف الفيزيائيين المؤثرين في حقبة الفيزياء الحديثة. كان انتقاد باولي لنظرية بور الذرية سببًا في استضافته لباولي لمدة سنة في معهد الفيزياء النظرية وتوطدت مراسلاتهما فيما بعد.


الفيزياء كفلسفة

لم يكن باولي متدينًا بالمعنى التقليدي، لكنه رفض فكرة العشوائية بسبب شعور غامض تملكه طيلة حياته، حتى بعد أن غادر الكنيسة. لم تكن الفلسفة في حياة باولي شيئًا جانبيًا بل كانت المرتكز الذي حاول على أساسه فهم الفيزياء ثم لاحقًا فهم علم النفس جنبًا إلى جنب مع كارل يونج.

في فهمه للعلم والمعاني الأعمق لمقولات النسبية، حاول باولي ألا يتخلى عن فكرة وجود أرض صلبة ما تمنعه من الضياع في العوالم الغريبة التي تزامنت مع نشأة النسبية ونظرية الكم وازدادت غرابتها سنة تلو الأخرى. كانت هذه الأرض متأثرة نوعًا ما بالوضعية ثم الوضعية المنطقية. لقد حاول باولي أن يتمسك بوجود قاعدة أولية ما في عالم تجتاحه الصدمات.

كانت الفلسفة المنقذة تتمثل في مبدأ «الملاحظة Observability». تجلت هذه الفلسفة في الأساس العلمي الذي انتقد باولي على أساسه نظرية فايل التي حاولت – دون توفيق رغم إجماع العلماء على اتسامها بالجمال الرياضي المدهش- توحيد نظرية النسبية مع الكهرومغناطيسية. في مقالته آنفة الذكر عن النسبية، يذكر باولي أن جذور الأمر برمته تعود – كما سيصبح نمطًا عامُا لميكانيكا الكم في تفسير كوبنهاجن– إلى مشكلة القياس.

يقول مبدأ الملاحظة، إن أي خاصية لا يمكن قياسها، ينعدم معناها الفيزيائي وبالتالي أهميتها. في هذه الكلمات البسيطة وضع باولي مبدأه الأول، حيث سيساند أينشتين في معارضة النظرية لأنها تحتوي على خواص لا يمكن التعامل معها ولا يمكن قياسها.

سيتسبب هذا الموقف في فجوة بين باولي وبقية معاصريه من مؤسسي ميكانيكا الكم. ففي الوقت الذي وضع فيه نظريته الجديدة حول العدد الكمي المغزلي 4th quantum number، كان باولي رافضًا لتسمية خاصيته الفيزيائية باسم مغزلية spin. كان باولي رافضًا لفكرة أن كل مفاهيم ميكانيكا الكم يجب «تخيلها» بصورة مادية كما كان يحدث مع الفيزياء الكلاسيكية.

مع ذلك تم إيجاد وصف كلاسيكي لمغزلية الإلكترون. ربما كان لبعض الخصائص الكمومية القدرة على صناعة صورة ما رغم أنف باولي.

ربما تستطيع أن تشعر بنزعة «إيمانية» في موقف باولي. لا يعني الإيمان هنا المفهوم الغيبي أبدًا بل تشير الكلمة للثقة القوية التي وضعها باولي في العلم وفي طريقة الاستدلال التي مارسها. هذه الثقة في قوانين حفظ الطاقة وحفظ الكتلة هي التي أدت به ليكون أول من تنبأ بوجود الجسيم الأكثر مراوغة في فيزياء الجسيمات، النيوترينو.


بديهيات غير بديهية

إذا ذكرنا اسم باولي وتمكنت أنت من تمييزه فإن هذا سيعود لمبدأ الاستبعاد Pauli’s exclusion principle. هذا المبدأ الذي يقبع في أسس ميكانيكا الكم وواحد من الأفكار القليلة التي صمدت في انتقال ميكانيكا الكم من نسختها الأولى لنسختها الحالية.

إذا كتبت قائمة بالأفكار البديهية بالنسبة إليك ربما لن تحتوي على بند يتعلق بالفرميونات، لكن إذا كنت عقلية فيزيائية فذة فربما ستفعل. ذكر باولي في شرحه لهذا المبدأ أنه مبدأ «طبيعي للغاية». لكن ماهي الفيرميونات؟

حسنًا في الحقيقة لم يبدأ من الفرميونات تحديدًا بل من أحد أنواعها; الإلكترونات. ينص المبدأ الذي صاغه باولي على أنه من المستحيل تواجد إلكترونين يمتلكان نفس أرقام الكم الأربعة بما فيها عدد الكم المغزلي. ما حدث هو أن هذا المبدأ «البسيط» وجد أنه ينطبق على كل الجسيمات ما تحت الذرية التي تملك عددًا مغزليًا نصفيًا half-integer والتي سميت فرميونات.

ظهر مبدأ الاستبعاد إلى النور بمعزل عن ميكانيكا الكم التي أسهم في تأسيسها، بل كان الأمر يتعلق بظاهرة تتعلق بأطياف المواد تسمى تأثير زيمان. ما يحدث هنا هو أنه عندما يصدر طيف إشعاعي عن مصدر ما، فإنه ينقسم إلى عدة خطوط في وجود مجال مغناطيسي ثابت لا تتغير شدته مع الوقت.

كان مبدأ الاستبعاد بفصله بين الإلكترونات وبعضها يفسر انفصال خطوط الطيف وبعضها. استطاع باولي بواسطة قيمتين «مختلفتين» لعدد الكم المغزلي تفسير طول الدورات لعناصر الجدول الدوري (2-8-18-32). هنا كانت جائزة نوبل مستحقة.

يحكى أن من المأثور عنه أنه قال يوما: «إذا قابلت الرب يوما، سيكون أول أسئلتي له: لماذا 1/137؟» . أبى باولي أن يمضي دون أسطورة أخرى تضاف للصورة الصوفية التي لازمته طيلة عمره. كان باولي دائم الانشغال بالرقم 137 منذ أن قابله عام 1916 في نظرية لسومرفيلد بخصوص التفاعل الكهرومغناطيسي بين الجسيمات المشحونة. يشاء القدر أن يموت في ديسمبر عام 1958في غرفة تحمل رقم 137 أيضًا.

المراجع
  1. Charles P. Enz: No time to be brief- A scientific biography of Wolfgang Pauli
  2. Kaplan, Ilya G.: The Pauli exclusion principle – origin, verifications and applications
  3. Professor Dr. Kalervo V. Laurikainen: Beyond the Atom- The Philosophical Thought of Wolfgang Pauli