في الخامس من فبراير/شباط الحالي أعلنت بينيلوبي جولدبيرج، كبيرة الاقتصاديين في البنك الدولي، استقالتها من منصبها، بعد أقل من 15 شهرًا فقط من توليها المنصب. لم تصرح جولدبيرج عن السبب وراء استقالتها المفاجئة، واكتفت بالقول إنها سوف تعود لعملها السابق في جامعة ييل.

لكن مصادر في البنك الدولي صرحت للإيكونومست أن السبب هو خلاف حول عدم نشر ورقة بحثية حول مساعدات البنك الدولي وتأثيرها على التحويلات المالية للحسابات البنكية في الملاذات الضريبة، وحول استفادة النخب السياسية والاقتصادية في البلدان النامية من تلك المعونات لصالحهم الشخصي بدون أي تأثيرات حقيقية لتلك المعونات على معدلات التنمية.

نشر نيلز يوهانسون من جامعة كوبنهاجن، وهو أحد المؤلفين المشاركين في الورقة البحثية، نص الورقة التي رفض البنك نشرها على مدونته الشخصية، قبل أن يعود البنك لينشرها على موقعه مرة أخرى في الثامن عشر من فبراير/شباط الجاري.

هل تحتاج الدول الفقيرة للمساعدات؟

ثمة أدبيات كثيرة تتحدث عن تأثير المساعدات الاقتصادية على معدلات النمو، ومدى استفادة الفئات الأكثر فقرًا في الدول النامية من أموال المساعدات.

لطالما كانت المساعدات في القلب من النقاش الاقتصادي حول الأساليب الأمثل لمحاربة الفقر في الدول النامية، فينما تبنى اقتصاديون مثل جيفري ساكس في كتابه الشهير نهاية الفقر وجهة النظر القائلة بأهمية تلك المساعدات وضروريتها لانتشال الدول النامية من هوة الفقر، يجادل اقتصاديون آخرون بعدم جدوى تلك المساعدات، وأن لها أهدافًا سياسية وآثارًا اقتصادية سيئة طويلة الأمد على الدول النامية.

هذا النقاش النظري والعملي كان دائمًا في القلب من الانتقادات الموجهة للمؤسسات الدولية، وأدوارها الاقتصادية في الدول النامية. لكن ما يجعل هذه الورقة حدثًا كبيرًا هو أنها صادرة عن البنك الدولي نفسه، وتوضح بالبيانات العلاقة المهمة بين المساعدات الأجنبية وهروب الأموال نحو الملاذات الضريبية.

أين تذهب الأموال؟

تشرح الورقة المعنونة «من يستفيد من المساعدات الدولية: أدلة من حسابات بنوك الملاذات الضريبية»، التي قدمها ثلاثة من علماء الاقتصاد، وهم عالم الاقتصاد النرويجي يورجن أندرسون ونيلز يوهانسون الأستاذ بجامعة كوبنهاجن وبوب ريجكرز أحد باحثي البنك الدولي، العلاقة بين تدفق أموال المساعدات الأجنبية للدول النامية وبين نمو الحسابات البنكية في الملاذات الضريبية.

الاعتقاد بأن أموال المساعدات والقروض تذهب للنخب الاقتصادية في البلاد، وأنها لا تسهم بشكل كبير في التنمية الاقتصادية، هو اعتقاد قديم، لكن المثير هذه المرة أن الورقة أثبتت هذه العلاقة من خلال بيانات دقيقة من بنك التسويات الدولية، الذي يبين حركة الأموال إلى البلدان المختلفة وخارجها، عن الودائع البنكية للدول الفقيرة المتلقية للمساعدات وربطها بتواريخ المساعدات نفسها.

اعتمت الورقة على بيانات من 22 دولة الأكثر تلقيا لمساعدات البنك الدولي، وهي دول فقيرة في أفريقيا وآسيا تعتمد اقتصاداتها على المعونات الدولية مثل بنين وتوجو، و24 دولة أخرى تعتمد على المساعدات الدولية، وإن كان بدرجة أقل مثل الأردن. سمحت هذه البيانات للباحثين بقياس العلاقة بين أموال المساعدات وزيادة التحويلات المالية من تلك الدول إلى الملاذات الضريبية الشهيرة، مثل جزر العذراء البريطانية وجزر الكايمين، أو إلى الدول التي تتميز بسرية عالية للحسابات البنكية، مثل سويسرا.

يوضح الجدول التالي العلاقة بين أموال المساعدات والتحويلات إلى الملاذات الضرييبة في الدول الأكثر اعتمادًا على المساعدات الدولية بحسب بيانات البنك الدولي، وبنك تسوية النزاعات الدولية.

جدول يوضح العلاقة بين المساعدات الدولية للدول النامية والتحويلات المالية لبلدان الملاذات الضريبية. المصدر: البنك الدولي
/ / CC BY

لاحظ الباحثون الثلاثة عبر دراسة تلك العلاقة أنه في الدول التي تتلقى معونات تمثل أكثر من 1% من الناتج المحلي فإن ذلك غالبًا ما يصاحبه نمو لودائعها في الملاذات الضريبية بـ 3.4%. لمعرفة تلك العلاقة على وجه الدقة عمد الباحثون لدراسة العلاقة بين دفعات المساعدات المالية بشكل ربع سنوي، وحجم الودائع في الملاذات الضريبية بشكل ربع سنوي أيضًا.

وجد الباحثون أنه غالبًا ما يرتبط تواريخ دفعات المساعدات بتاريخ زيادات كبيرة في الودائع، وهو ما يدعم فكرة أن النخب السياسية والاقتصادية في تلك الدول تستولي على أجزاء من المساعدات، لتحولها لحساباتها البنكية في الخارج.

أموال القروض الأفريقية تذهب للدول الأوروبية

يساهم انتشار الفساد والمحسوبية وارتباط المال بالسياسة في الدول النامية، في حصول النخب السياسية على نسبة معتبرة من تلك المعونات وتهريبها إلى الخارج. وعلى الرغم من أن ورقة البنك الدولي ركزت على المساعدات وليس على القروض من بنوك عالمية كبرى أو من المؤسسات الدولية، إلا أن نفس المشكلة تظهر في القروض أيضًا.

يمكننا  التأكيد على نفس المسار الذي تأخذه الاستثمارات والقروض إذا نظرنا إلى دراسة أخرى، قامت بها مؤسسة أوكسفام عن استثمارات البنك الدولي في أفريقيا جنوب الصحراء، والتي تعتبر من الدول الأكثر تلقيًا للمساعدات كنسبة من الناتج المحلي.

في دراسة أوكسفام يتضح أن 51 شركة من 68 شركة ضخت فيها مؤسسة التمويل الدولية – أحد أذرع البنك الدولي- قروضًا أو استثمارات، كانت شركات تمتلك تاريخًا مع التجنب الضريبي عبر الملاذات الضريبية.

هنالك معضلة منهجية واجهها الباحثون في تلك الورقة، وهي أن البيانات المتوفرة عن التحويلات البنكية غالبًا ما تكون بيانات كلية وليست مفصلة، بمعنى أننا يمكن أن نعرف حجم الودائع التقريبي الذي تمتلكه دولة مثل نيجيريا في البنوك السويسرية، لكن لا يمكننا معرفة من هم المستفيدون من تلك الودائع بسبب سرية الحسابات.

فبينما يستمر الاتحاد الأوروبي في تبني خطاب مهاجم للملاذات الضريبية، فيما يتعلق بالشركات العاملة في أوروبا، فإنه يتغاضى كليًّا عن الأموال المهربة إلى بنوكه من دول العالم النامي.

مصر كنموذج لما يحدث في الدول العربية

على الرغم من صعوبة الحصول علي البيانات، فإن دراسات الحالة لكل دولة يمكن لها أن توفر لنا صورة أوضح بكثير عن الترتيبات المؤسسية للفساد والمحسوبية في توزيع أموال المساعدات والاستثمارات الأجنبية، ناهيك عن الكفاءة في إدارة أموال تلك المساعدات عبر الأجهزة البيروقراطية، والتي تحول جزءًا كبيرًا من المعونة أو القرض إلى عمليات الإدارة وليست في تنفيذ المشروعات نفسها.

قدمت دراسة، قامت بها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في 2018، صورة مصغرة عن الارتباط بين الاستثمارات التي تدعمها مؤسسة التمويل الدولية، وهي أحد أذرع البنك الدولي كما أسلفنا، وبين الشركات المصرية المسجلة في ملاذات ضريبية، والتي ترتبط بالنخبة الحاكمة في مصر .

في تلك الدراسة جمع باحثو المبادرة بيانات عن 93 استثمار لمؤسسة التمويل الدولية في مصر في الفترة من 1995 وحتى 2017، ومن خلال تحليل تلك البيانات استنتج الباحثون أنه على الأقل 50% من المشروعات التي مولتها مؤسسة التمويل الدولية في مصر كانت لشركات تمتلك حسابات بنكية في ملاذات ضريبية، بينما في 37% من الحالات لم يستطع الباحثون التأكد من عدم وجود علاقة بين الشركة وبين الملاذات الضريبية بسبب نقص المعلومات المتاحة، وفقط 11 % من تلك الشركات كانت بلا حسابات بنكية في ملاذات ضريبية.

أيضًا في نفس الدراسة، كانت 37 % من تلك الشركات، التي تلقت تمويلًا أو قروضًا من مؤسسة التمويل الدولية، مملوكة لشخصيات على علاقة مباشرة بالنظام الحاكم في مصر.

تضع تلك المحسوبية السياسية والاقتصادية عوائق كبيرة أمام التنمية في مصر، وتساهم في خلق دورة مفرغة من إعادة إنتاج الوضع الريعي للاقتصاد المصري المتمركز على المساعدات والقطاعات غير الإنتاجية مثل البترول والغاز والسياحة، وهو ما يعمق بدورة من صعوبة محاربة الفساد الهيكلي في الاقتصاد المصري.

هل تفيد المساعدات الدول الفقيرة أم تضرها؟

تلك التشابكية الشديدة بين أموال القروض والاستثمارات التي تضخها المؤسسات الدولية والجهات المانحة في الدول النامية، وبين هياكل الفساد القائمة في تلك الدول تؤدي مع الوقت لتفاقم الديون الخارجية للدول النامية، بدون أن ينال الفقراء شيئًا من ثمار هذه القروض والمساعدات.

تضعنا تلك المعضلة أمام سؤال مهم حول جدوى المساعدات الدولية والقروض في إحداث التنمية المستدامة.

ما تقوله لنا تلك الأصوات الاقتصادية النقدية، والتي وصلت اليوم لمراكز مرموقة داخل البنك الدولي وصندوق النقد، هو أن الطريق الحالي الذي تسلكه هذه المؤسسات من أجل مساعدة الدول النامية ليس هو الطريق الأصح، لأنه لا يسهم في معالجة المشاكل الرئيسية للتنمية في تلك الدول مثل الفساد والمحسوبية والبطالة المقنعة والحقيقية داخل الاقتصاد، بل إنه يسهم مع الوقت في زيادة تلك المشاكل عبر التعامل مع نفس شبكات الفساد والمحسوبية.

تدمج تلك القروض والمساعدات الاقتصادات النامية في الاقتصاد العالمي وتجعلها أكثر اعتمادًا مع الوقت على تلك القروض، ما يضع أعباءً إضافية على الأجيال القادمة في تسديد تلك الديون، ويصعِّب من مهمة تفكيك شبكات الفساد والمحسوبية في تلك الدول.