قرار غريب اتَّخذته جامعة بيكوكا في مدينة ميلانو بإعلانها حذف مؤلفات دوستويفسكي من مناهجها الدراسية ضمن حزمة العقوبات التي يسعى بها الغرب إلى فرض العزلة على روسيا بعد غزوها أوكرانيا.

وُجِّهت انتقادات جمَّة إلى هذا القرار حول العالم وداخل إيطاليا نفسها، بعدما تبارَى عددٌ من السياسيين الإيطاليين في شجب هذه الفِعلة، وعلى رأسهم ماتيو رينزي (Matteo Renzi) رئيس الوزراء السابق، الذي اعتبر أن «رواية الإخواة كارامزوف من جواهر الأدب».

بسبب تلك الموجة العارمة من الانتقادات تراجعت الجامعة الإيطالية عن قرارها، بعد أن فتح بابًا واسعًا للعديد من الأسئلة، أبرزها سؤال مهم؛ هل يستحق دوستويفسكي هذا الإجراء؟ ولو كان أديب روسيا البارز يعيش بيننا الآن أكان سيؤيد الحرب؟

معلومة غير مشهورة كثيرًا عن أبرز أديب عرفته روسيا، هو أنه التحق بالجيش وخدم بين صفوفه جنديًّا، لكنه لم يتلقَّ ما يكفي من تدريبات ليكون جنديًّا نظاميًّا، وبالتالي لم يخض أي معركة حربية تحت الراية الحمراء.

هذه الخدمة شبه العسكرية المبكرة في حياة دوستويفسكي هل لعبت دورًا في صياغة مفاهيم الرجل بشأن اعتبار «الحرب» وسيلة ناجعة لحل مشاكل روسيا؟

فيودور: اسحقوا الأتراك

بدءًا من العام 1875م اندلعت ثورات مسيحية أرثوذكسية عديدة ضد الحُكم التركي في هرتسوغوفينا (البوسنة) وصربيا والجبل الأسود وبلغاريا.

دعم الروسُ الصربَ في نضالهم ضد الأتراك بشدة؛ تدفقت فيالق المتطوعين الروس إلى البلقان للمساهمة في القتال، كما ركَّزت الصحافة الروسية على نشر جميع تفاصيل تلك الحرب.

خلال تلك الفترة جرت معركة صحفية حامية الوطيس بين جنبات الجرائد حول وجوب أو عدم وجوب الاصطدام مع الترك في البلقان. بعكس تولستوي أيَّد دوستويفسكي الحرب بشدة لأسبابٍ عِدة كشفتها كتاباته؛ بداية من رغبته في وضع حدٍّ للفظائع – على حد قوله – التي يتعرَّض لها المسيحيون على أيدي المسلمين، وانتهاءً بحلمه غزو روسيا للقسطنيطينة وإعادتها كمركز عالمي للمسيحية الأرثوذكسية.

تأييد فيودور لتلك الحرب ينسجم تمامًا مع قناعاته بأن المسيحية «ضرورة سياسية» يستطيع بها السياسيون إصلاح العالم وتخليصه من الفوضى التي يعيشها، كما اعتبر أن روسيا – دون بقية دول العالم – مؤهلة تمامًا للعب هذا الدور التطهيري، بعدما اعتبر أن المسيح هو «الحُب الوحيد» الذي ملأ قلوب الروس.

كما هو الحال دائمًا، عزف بعض معارضي الحرب الروسية على نغمة أن الوضع الاقتصادي لروسيا لا يحتمل خوض هذا القتال الطويل، وهو ما انتقده بشدة بسبب قناعته بــ «لا استثنائية» بلاده، وهي الحالة التي تحتِّم عليها تبعات إضافية تقوم على «التضحية بالنفس من أجل الدفاع عن القضايا الصالحة».

وفي كتابه «يوميات كاتب» اعتبر دوستويفسكي أن الحرب هي أكثر الطرق فاعلية لتوحيد الطبقات الاجتماعية المتطاحنة في روسيا، وكرَّر آراءه السابق نشرها من اعتباره أن الحرب وسيلة تُمكن روسيا من إعادة صياغة العالم وجعله مكانًا أفضل لـ «الضعفاء والمضطهدين».

في النهاية، تماهت الدولة الروسية مع رؤية دوستويفسكي – وغيره من دعاة الحرب – وأعلنت الحرب على الدولة العثمانية، ودبَّرت موسكو سلسلة هجمات منظَّمة ضد المسلمين واليهود في القوقاز، ألقت بظلالها القاتمة على مسلمي البوسنة والهرسك، فقُتل وهُجِّر منهم عشرات الآلاف عام 1879م.

انتهى القتال بانصياع العثمانيين لأغلب المطالب الروسية، فظفرت صربيا والبوسنة والهرسك بالحُكم الذاتي، وجرى تخفيف القيود الموضوعة على المسيحيين، لكن في نهاية المطاف كان تأثير تلك الحرب مروِّعًا على كلا الإمبراطوريتين ودفعتهما إلى حافة الانهيار.

يقول الروائي والمؤرخ الروسي ألكسندر سولجنيتسين إن حرب 1877م قوَّضت القوة العسكرية والمالية الروسية، وخفَضت من الروح المعنوية للناس، وكانت هذه الأحوال المتردية بداية لانتشار روح التذمر على الإمبراطورية الروسية البطرسية إيذانًا باندلاع الثورة البلشفية عليها عام 1917م.

هل تأثر بوتين بدوستويفسكي؟

 

كانت مدينة سانت بطرسبرغ الروسية هي الوجهة الأولى لتحويل فيودور إلى جندي مقاتل، حيث كانت مقر الأكاديمية التي تلقَّى فيها علومه العسكرية الأولى.

اعترف في كتاباته بشعوره بالغموض والرهبة من تلك المدينة العملاقة، وبعد 10 سنوات من الاضطرابات عاشها بعيدًا عنها بسبب ملاحقته من قِبل السلطة ما ترتَّب عليه قرار الإعدام الذي تغيَّر إلى النفي، عاد إلى بطرسبرغ حيث كتب فيها أعظم رواياته رغم أن معاناته لم تتوقف أبدًا.

بالمثل كانت الوجهة الأولى لتحويل رجل المخابرات بوتين إلى رجل سياسة، فلقد بدأ من خلالها طريقه السياسي حينما شغل منصبًا صغيرًا في مبنى البلدية أهَّله ليكون نائبًا لرئيس البلدية عام 1994م، ومن هنا انطلقت المسيرة البوتينية، وبفضل هذه المسيرة لم تعد بطرسبرغ تفخر فقط بخلودها الأدبي بفضل أدب دوستويفسكي، وإنما أيضًا بفضل سياسة بوتين التي تغيِّر شكل العالم هذه الأيام.

يقول دكتور أندور كيوفمان (Andrew Kaufman)، خبير الأدب الروسي، إن السؤال الذي يؤرِّق بوتين هذه الأيام، وقد يكون هو السبب الرئيس للأزمة الأوكرانية، هو نفس السؤال الذي تكرَّر مرارًا في الأدب الروسي خلال القرن الـ 19، وقاده تولستوي ودوستويفسكي على نهجين مختلفين؛ أحب تولستوي شعبه لكنه لم يكن قوميًّا يؤمن بضرورة تفوُّق العرق الروسي على غيره، وإنما حافظ على إنسانية جميع الشخصيات التي قدَّمتها رواياته، سواءً كانوا روسًا أو أتراكًا أو من الغرب.

أما دوستويفسكي فلقد كرَّر التحذير من النمط الغربي، معتبرًا إياه «بلا روح، ونموذج تجب مقاومته بأي ثمن»، كما حلم بإمبراطورية مسيحية شرقية جديدة نواتها الرئيسية تُبعث من روسيا، تحمل مهمة إنارة الإنسانية ضد الغرب الذي يمثِّل كل ما هو فاسد وشرير.

وبحسب دكتور أندرو، فإن بوتين اختار السير على نهج دوستويفسكي وليس تولستوي، فالرئيس الروسي يعتنق نفس الأفكار التي تعتبر أن روسيا دولة اختارها الله للوقوف بحزم ضد نوايا الغرب الفاسدة، هذا التماهي الكبير في أفكار الرجلين دفع السياسي الأمريكي الشهير هنري كيسنجر بالتصريح منذ سنوات بأن بوتين «رجل خرج من رحم أدب دوستويفسكي».

وهو ما ظهر بأوضح ما يكون في تصريح بوتين الشهير عام 2014م، حين نصح معاونيه بقراءة 3 كتب هي: «تبرير الخير» لفلاديمير سولوفيوف، و«فلسفة اللامساواة» لنيكولاس بيردييف، و«مهام» لإيفان إيليين، وبالرغم من التباين الكبير بين قناعات أصحابها وكلُّهم من أقطاب الثقافة الروسية، إلا أنها جميعًا تنادي بفكرة «الأمة الروسية» الخالدة، التي قدَّر لها الله دورًا فريدًا من نوعه لضبط موازين العالم المختلة.

ومن اللافت للنظر أن الفيلسوف والسياسي إيفان إيليين كان يؤمن بأن أوكرانيا هي حجر الأساس لروسيا، وأن اقتراب الغرب منها تحت دعاوى «الحرية» و«الاستقلال» سيكون أكبر خطر على روسيا.

وكأي روسي أصيل لم يتردَّد بوتين في أكثر من مناسبة في الإعراب عن إعجابه بأدب دوستويفسكي، وصرَّح في إحدى المقابلات أن أكثر ما أعجبه من روايات الأديب الراحل عملا «الإخوة كارامازوف» و«الجريمة والعقاب». ومنذ عدة أشهر زار بوتين متحف فيودور دوستويفسكي في موسكو بمناسبة حلول الذكرى المئوية الثانية لأديب روسيا البارز.

هل كان سيؤيِّد حرب بوتين؟

بعد قراءة الكثير والكثير عن حياة دوستويفسكي على مدى زمن طويل فإن رأيي الشخصي على هذا السؤال الافتراضي هي نعم، كان سيؤيِّد الحرب لأنها تسير على نفس النهج الذي اقتنع بأن روسيا يجب أن تعتنقه، وأهم ما فيه أن الدول المُحيطة بروسيا هي حزام أمان يجب عدم السماح للغرب الفاسد بالاقتراب منها بأي ثمن، وإلا اخترقوا صُلب المجتمع الروسي.

ربما ينتقد سلوكًا عسكريًّا بربريًّا هُنا أو هناك، وربما يستنكر استهداف مدنيين، لكنِّي أعتقد أنه لم يكن ليقف ضد تلك الحرب أبدًا.

وحينما توجَّهت بنفس السؤال إلى ماركوس ليفيت أستاذ اللغات والآداب في جامعة كاليفورنيا، والذي ألَّف عدة كُتب في الأدب الروسي، أكد أنه من المستحيل الإجابة على هذا السؤال.

وبرَّر إجابته خلال حديثه الخاص مع «إضاءات» قائلًا: صحيح أن بعض الأفكار القومية التي تبناها دوستويفسكي تنعكس اليوم في الأيديولوجيات الروسية المعاصرة، لكن السياق مختلف تمامًا، يجعل محاولة الربط بين ما قاله الأديب الروسي من قرون وبين ما يحدث الآن أمرًا بالغ الصعوبة.

أما ريتشارد ويسترمان باحث العلوم الاجتماعية في جامعة شيكاغو، والذي أعدَّ ورقة بحثية عن أفكار دوستويفسكي، فقال لـ «إضاءات» إنه كان سيؤيد – على الأرجح – قرار بوتين.

فالأديب الروسي كان مؤيدًا لحُكم الرجل الفرد (القيصر المُستبد)، ومعاديًا شرسًا للديمقراطية الغربية التي اعتبر أنها تؤدي إلى تطرُّف ثوري وروح اشتراكية خطيرة على المجتمع، وهي تقريبًا نفس المعالم الكبرى التي يقوم عليها نظام بوتين.

أيضًا، طالَب دوستويفسكي من قبل بعقد رابطة روحية تجميع الروس حول العالم، ينضوي تحتها جيران روسيا حاليًّا ومنهم الأوكرانيون، للانضمام إلى «الروح الروسية» التي تقاوم سيطرة الغرب الملحد على العالم.

وبحسب ويسترمان فإن كتابات دوستويفسكي التي كال فيها انتقادات عارمة للغرب خلال جولاته لأوروبا عام 1862م لا تختلف كثيرًا عما يذكره بوتين في خطاباته حول المعركة بين روسيا والغرب.

ورغم ذلك فإن ريتشارد عاد وأكَّد صعوبة تقديم إجابة قاطعة، فروسيا القائمة اليوم ليست روسيا التي كان يعيش فيها دوستويفسكي، بل ربما رآها نفسها هي الغرب المُلحد الكافر الذي كان يحتقره، فيدعو لإزالتها من الوجود وإعادة الروس لأصولهم القديمة.