في عام 1986 توصل عالم النفس الشهير،جيمس بيكر، إلى علاج نفسي جديد مبتكر وملهم، بعد أن طلب من مجموعة من الطلاب الكتابة لمدة 15 دقيقة يومياً عن أكبر صدمة أو أصعب وقت مر عليهم، ليكتشف بعد 6 أشهر من الملاحظة أنهم تمتعوا بصحة أفضل، ليبدأ علم النفس في دراسة العلاقة بين ما يعرف بـ«الكتابة التعبيرية أو العلاجية» وعمل الجهاز المناعي، لكشف تأثيرها على حالات صحية بدنية عديدة مثل انقطاع النفس أثناء النوم، والربو، والصداع النصفي، والتهاب المفاصل الروماتويدي، وفيروس نقص المناعة البشرية، والسرطان.

وبما أننا جميعاً نمر بأوقات عصيبة جراء المسئولية والالتزامات والضغوط التي تحيطنا من كل جانب، ناهيك عن التجارب السيئة والحوادث المريرة، وفي سعينا للعودة للتوازن، يبذل كل منا مسلكه من تغيير المكان والسفر، إلى اللجوء للأشخاص المقربين، بالإضافة لطلب المساعدة الطبية والعلاج النفسي على اختلاف أساليبه.

ومع ارتفاع تكلفة جلسات العلاج النفسي، وطول المدة التي يستغرقها، يبرز العلاج بالكتابة كأحد أقل العلاجات السلوكية تكلفة وأسهلها تطبيقاً -بجانب العلاج بالموسيقى- وإن بقيت محدودة الاستخدام أو ربما الأقل شهرةً رغم تعدد ميزاتها.


ماذا تحتاج لتبدأ؟

يُقصد بالعلاج بالكتابة، المعروفة عالمياً بـWriting Therapy أو Journal Therapy، استخدام فعل الكتابة لتفريغ الذهن والتخلص من الشحنات السلبية والتعبير عما يضيق به الصدر، بغرض التحسن، ولا يحتاج المرء أن يكون كاتباً جيداً أو كاتباً بالأساس ليعتمد هذه الطريقة العلاجية، كل ما تحتاجه ورقة وقلماً ودافعاً للكتابة، وهو إحدى تقنيات العلاج السلوكي التي تعتمد على فلسفة التعرض.

تُجسد الكتابة العلاجية هذه العلاقة المميزة والمتمازجة بين العقل والجسد والروح، فاليد تمسك القلم أو أداة الكتابة، ليبدأ العقل في إنزال الوحي والإلهام، بما يعبر عن ألم الروح وشجونها.

وتمتاز هذه الطريقة العلاجية لأنها تناسب جميع المراحل العمرية بدءاً من الأطفال – حال تعلمهم الكتابة- وحتى كبار السن، كما أنها يسهل تطبيقها دون الحاجة لتوجيه من طبيب أو معالج، مع كونها غير مكلفة بالمرة، فهي لا تتطلب سوى ورقة وقلم ومكان مناسب، كما لم تكشف أي دراسة عن حدوث آثار جانبية أو أضرار محتملة لهذه الطريقة العلاجية مما يعني أنها آمنة نسبياً، كما لا تتطلب وصفة طبية قبل البدء بها، فضلاً عن أنه يمكن ممارستها في أي وقت وزمان شرط مناسبتهما للشخص.

يمكنك كتابة أي شيء تريد دون سابق ترتيب، أو وضع اعتبار للأسلوب أو دقة المفردات أو تصحيح لغوي، فأنت حر تماماً من أي ضغوط بل يمكنك أيضاً حرق أو مسح ما كتبت فور الانتهاء من كتابته، أو الاحتفاظ به لنفسك وإعادة قراءته وقتما تشاء، كما يمكنك مشاركة ما كتبت مع الأشخاص ذوي الثقة لديك أو إخفاؤه عن الجميع، وكل هذه الميزات تمنح الشخص قدراً من الطمأنينة يساعده على التحسن دون شك.


المُعالِج الأمين

في بداية الثلاثينيات، عانت «بولتون» الكثير من التجارب المؤلمة، والكتابة وحدها هي من أنقذت سلامتها العقلية، حيث تقول:

كنت أشعر بحزن مستمر لا أدري سببه، واقترح زوجي أن أكتب سيرتي الذاتيةـ ربما وضعت يدي على ما يؤلمني، فعلت ذلك وكنت أتخيل أنني سأكتب قصة جميلة، لكن النتيجة كانت سرد فوضوي، لكنه أقرب ما يكون لما أعيشه، وبالوقت أعدت المحاولة لكن في صورة نظم شعري وكان رائعاً.

وتوضح بولتون السبب وراء عدم ذهابها إلى معالج نفسي بأنها وجدت الورقة والقلم أكثر ثقة من أي شخص. «فما أن تبوح بأمر لأي طبيب حتى لا يمكن التراجع عنه أبداً، لكن الورقة تبقى تحت تصرفك يمكنك تمزيقها أو إعادة قراءتها في أي وقت».

المدهش أن بولتون الآن زميل أبحاث في العلوم الإنسانية الطبية بجامعة شيفيلد، وتخصصت في العلاج عبر الكتابة في الأمور المتعلقة بمشكلات العمل والعلاقات الاجتماعية، وتوضح أن بعض المرضى يعترفون لها بأنهم لم يكونوا ليبوحوا بكثير من الأمور إلا بعد التجرؤ على كتابتها أولاً.

أما «كاثلين آدمز»، مؤسس مركز العلاج الطبيعي في كولورادو، فتحدد وصفاً رائعاً لهذا النمط العلاجي في كتابها Journal to the Self أو «الكتابة للنفس»، فتقول: «لأكثر من 30 عاماً احتفظت بهذا المعالج، استدعيته في الثالثة صباحاً في يوم زفافي، في عيد الميلاد البارد عندما قضيته بمفردي، على شاطئ بورا بورا، وفي غرفة استقبال طبيب الأسنان، أقول له كل ما أريد في أي مكان ووقت».

وتتابع:

يستمع المعالج الخاص بي بصمت إلى ظلمتي الأكثر شراً، خيالي الأكثر غرابة، أعز أحلامي، وأستطيع أن أصرخ، أو أتذمر، أو أغضب، أو أثور، أو أهذي، أو أحتفل، أتصرف على راحتي أكون مضحكة، أو شنيعة، أو اتهامية، أو ساخرة، أو عاجزة، أو رائعة، أو عاطفية، أو عميقة، أو ملهمة، أو عاقلة، أو مبتذلة، في كل الحالات يقبلني هذا المعالج الخاص بي دون تعليق أو حكم أو انتقاد.

في الوقت نفسه تعترف الروائية «جيل داوسون» الفائزة بجائزتي Whitbread and Orange prize-shortlisted بأن الكتابات الذاتية التي بدأتها منذ أن كانت في التاسعة من العمر، لم تساعدها على التعافي نفسياً من أزماتها فقط بل جعلتها أفضل كـ«كاتبة احترافية».

وتعترف أن الأمر تطلب منها الكثير من التعديل عما كتبته في الصغر قبل قرارها بنشره، إلا أنها بقيت ممتنة للكتابة التي وضعتها على الطريق، وجعلتها تتفهم حقيقة ما تريد أن تصبح، مهما استغرق ذلك من وقت.

والجدير بالذكر أن تفسير تأثير الكتابة التعبيرية على الصحة غير مفهوم حتى الآن، وهو غالباً أمر معقد، لكن البعض يفترض أن التنفيس أو الإفصاح عما يؤلمنا –وهو المتبع عادةً في العلاج النفسي- أساسه البوح وبالتالي فعندما نكتب عما يجول بصدرنا نحصل على نفس النتيجة الصحية، في المقابل يرى علماء آخرون أن الكتابة تسهل المعالجة المعرفية للذكريات المؤلمة، بمعنى تمثيلها بشكل أكثر تكاملاً أمام المريض فيتعامل معها بشكل أفضل، والتفسير الثالث، أن السرد المنتظم يساعد الفرد على رؤية الجوانب الإيجابية أو المعنى في تجاربهم المؤلمة والصادمة.

لكن بشكل عام تتمثل الفوائد العامة للكتابة العلاجية المنتظمة في التذكير بالأحداث المهمة، وإيجاد المعنى والعبرة في تجاربه، ومشاهدة الأحداث من منظور جديد، ورؤية الجوانب المنيرة في المآسي والأحداث الصعبة، وهي تسمح للمريض برؤية أفكاره ومخاوفه، خاصة أولئك الذين يعانون من صعوبة التعبير عن ذواتهم والسيطرة على مصائرهم.

كما تُستخدم الكتابة في علاج العديد من الأمراض العقلية والاضطرابات النفسية ومن أبرزها؛ إجهاد ما بعد الصدمة، القلق، الاكتئاب، اضطراب الوسواس القهري، مشاعر الحزن والخسارة، الأزمات النفسية المرتبطة بالأمراض المزمنة، إدمان المخدرات، اضطرابات الأكل، الأزمات الناتجة عن مشكلات العلاقات الشخصية، المشكلات المتعلقة بمهارات الاتصال، تدني احترام الذات.

وقد أثبتت هذه الطريقة نجاحاً في علاج قدامى المحاربين في فيتنام والسجناء المصابين بأمراض نفسية، الذين تحسنت حالتهم العقلية والنفسية بعد أن طُلب منهم كتابة رسائل للأشخاص الذين قتلوهم، وضحايا الاعتداءات الجنسية على التعافي من الصدمة الشخصية، بجانب قدرتها على تخفيف حدة أعراض بعض الأمراض مثل الربو والتهاب المفاصل الروماتويدي.

وساعدت العاطلين عن العمل في تكساس على العثور على وظائف، وكذلك الطلاب الأمريكيين على التأقلم مع أحداث 11 سبتمبر.

كما كشفت إحدى الدراسات عن أن الأفراد الذين عانوا من صدمات ومآسٍ واعتمدوا على الكتابة عن معاناتهم لمدة 15 دقيقة لمدة 4 أيام على التوالي تحسنت صحتهم خلال 4 أشهر فقط، كما أظهرت نتائج دراسة أخرى -أجريت على أكثر من 100 شخص من مرضى الربو والتهاب المفاصل الروماتويدي- تحسن صحتهم عقب كتابتهم عن أكثر الأحداث إرهاقاً لهم في الحياة.

فيما أكدت دراسة حديثة أن الكتابة التعبيرية لها قدرة على تحسين أداء الجهاز المناعي مع اشتراط استمرار فعل الكتابة لاستمرار الاستفادة من مزاياها الصحية، وحتى تقوية المناعة بالنسبة لمرضى فيروس نقص المناعة أو الإيدز.


خمس خطوات للعلاج

يوجد ثلاثة أنماط من الكتابة العلاجية: أولها، كتابة الأحداث اليومية في دفتر، وهي عادةً ما تركز على ما يُفكر به الشخص وتتابع الأحداث والتعامل معها. ثانياً، الكتابة الحرة في مفكرة ويقصد بها تسجيل كل ما يلمع بالرأس وغالباً ما تحتاج لتدريب على يد أخصائي معالج، وتتضمن إسقاطات عما يحيطه من أحداث وأشخاص. ثالثاً، كتابة السيرة الذاتية أو نظم أبيات شعرية تعبر عما يعاني من أحداث مؤلمة.

ويُجمع المعالجون النفسيون على أن البدء في الكتابة غالباً لا يكون سهلاً، بل تحتاج البداية الكثير من التحفيز وبذل الجهد، لكن ما أن بدأ الشخص بالكتابة فالبقية أسهل كثيراً، لذا وضع بعضهم أدلة إرشادية لبدء كتابة علاجية مثمرة وناجعة، للتخلص من الأزمات والضغوط النفسية ومن بينها:

  • الاستعداد للكتابة:

ويتمثل في تحديد طريقة ووسيلة الكتابة سواء في دفتر أو عبر مدونة إلكترونية، تحديد توقيت ومدة معينة للكتابة يومياً، تحديد أنسب مكان للكتابة في المنزل أو على البحر أو غيره، بشرط ألا يكون هناك ما يقطع إلهام الشخص الذي يكتب أو يعطل تسلسل كلماته حين يبدأ، وأخيراً تحديد سبب اتخاذ القرار بالكتابة، وربما يكون هذا هو حافز الكتابة كل يوم.

  • الالتزام بخطوات الكتابة الخمس:

أولها، الإجابة عن سؤال «ماذا ستكتب؟» من خلال وضع عنوان له ليصبح مفهوماً وذا معنى. بعدها يستعرض الشخص ما سيكتبه في ذهنه أولاً من خلال غمض العينين وأخذ نفس عميق والتركيز في الأمر. بعد التحقق من الأفكار والمشاعر لا يعد أمام الشخص سوى البدء في الكتابة والسرد. يتم تحديد الزمن الكافي لكتابة الأفكار من 5 إلى 25 دقيقة دون توقف، مع ضرورة الانتباه لميزة «الخروج الذكي» أي متى يتوقف الفرد عن الكتابة، لمراجعة ما كتب قبل العودة لإضافة ما قد يكون نسيه.

  • تجنب فوضى الكتابة أو الكتابة غير المفهومة:

يمكن اختيار البدء بكتابة خطاب للنفس أو رسالة لأشخاص بعينهم أو طرح أسئلة والإجابة عنها مثل «أشياء أكره فعلها» أو «أشخاص أحب رفقتهم ولماذا»… وهكذا.

وبشكل عام، فإن حجر الزاوية في هذا النمط العلاجي لا يكمن في قوة الورقة والقلم أو أدوات الكتابة أياً كانت، بل في ذهن المريض أو الشخص الذي يكتب، وقدرته على سرد وتفريغ سبب معاناته، ليكتشف طرق التعامل الأمثل معها، إلا أنه في جميع الأحوال يبقى هذا العلاج «الآمن» أكثر مناسبةً لمجتمعاتنا العربية التي تنظر للمرض النفسي على أنه سبة.