ياربي سيدي خلصني من ها العماء
في الأرض تايه شاقي العمل
في اليد فاسي اقطع حجر
كالمنفي نخدم وسط الفحم
في بلاد الكفرة أضداد ديني
يا ربي سيدي قلل منهم نفر
من أغاني الجنود المغاربة المسلمين في الحرب

لم يحظ سكان المستعمرات بتقدير كبير على أدوارهم التي قدموها في الحرب العالمية الأولى سوى لبضع سنين في أعقاب الحرب، وما إن ظهرت الآلة السينمائية الضخمة التي حملت على عاتقها تقديم سرديات الحرب العالمية الأولى التي سترسخ في الذهن كصورة سينمائية للحرب، بالتوازي مع حركات التحرر من الاستعمار في كل أنحاء العالم، تراجعت مكانة هؤلاء الرجال في السردية السينمائية إلى الهامش، بل إلى قاع الذاكرة والنسيان.

لم تكن تلك الحرب حرب الرجل الأبيض فقط، ولم يكن رجال المستعمرات من كمبوديا إلى المغرب يعملون فقط في الصفوف الخلفية للجيوش، بل حمل هؤلاء الرجال السلاح، وحاربوا على جبهات عدة، حتى قال عنهم ألبير سارو وزير المستعمرات الفرنسية: «إن مساهمة المستعمرات أكبر بكثير مما يمكن للمرء أن يأمله، وهكذا فإن هذه المستعمرات، التي اعتبرت-بلا مبالاة- ترفًا شاقًا لكن ضروري للهيبة الدولية للأمة العظيمة، أظهرت في شكل لافت أنها تستطيع، في الأوقات الخطيرة، تقديم مساندة فعالة للدفاع عن فرنسا».

ونحن نخصُّ بحديثنا من ملايين السكان الأصليين للمستعمرات الذين حاربوا في الحرب العالمية الأولى، الجنود المسلمين نظرًا لخصوصية تجربتهم في تلك الحرب، ونضيق مجال الحديث أكثر إلى المسلمين على الجبهة الفرنسية والجبهة الألمانية، حيث إن علاقة المسلمين والعرب ببريطانيا المتمثلة في الثورة العربية الكبرى في تلك الحرب قد أخذت من الحديث الكثير.

وكانت أهمية الإسلام في تلك الحرب، تنبع من كون سكان المستعمرات المسلمين لم يكونوا فقط يحاربون من أجل باريس، بل كانوا يحاربون الخلافة التي شكلت رمزًا روحيًا هامًا للمسلمين عبر تاريخهم، وهو ما يعطي لتجربة الإسلام في الحرب العالمية الأولى خصوصية.

«الحاج غليوم» قيصر ألمانيا

بعد أن أطلقت الرصاصة الأولى إلى صدر فرانز فرديناند أرشيدوق النمسا، خشيت دول الوفاق (بريطانيا، فرنسا) أن تستغل تركيا نفوذها الروحي على سكان المستعمرات من المسلمين للوقوف إلى جانبها بعد دخولها الحرب إلى جانب ألمانيا.

للعلاقة الألمانية العثمانية أبعاد تاريخية، حيث إن ألمانيا عقب وحدتها الأولى 1871م أخذت في التودد إلى السلطان العثماني، وكان القيصر غليوم الثاني رجلاً مرموقًا في عموم أرجاء الخلافة العثمانية، منذ أن زار عاصمة الخلافة سنة 1898م، وأعقبها بزيارات لبيروت ودمشق حيث وقف على قبر صلاح الدين الأيوبي مهديًا له قنديلاً أثريًا، ومعلنًا في خطابه أنه صديق لثلاثمائة مليون مسلم يبجلون الخليفة العثماني.

القيصر فيلهم (غليوم في المصادر العربية) في القدس ضمن زيارته للدولة العثمانية عام 1917م
القيصر فيلهم (غليوم في المصادر العربية) في القدس ضمن زيارته للدولة العثمانية عام 1917م

وقد اخترقت ألمانيا الخلافة العثمانية اقتصاديًا بحيازتها العديد من الامتيازات أهمها سكة الحديد الرابطة بين الآستانة وبغداد، واخترقتها عسكريًا أيضًا ودينيًا، فغير إعلان غليوم أنه صديق للمسلمين وحاميهم، لقب نفسه بـ«الحاج غليوم» وانتشر ذلك بين المسلمين كطرفةٍ صدقها البعض معتقدًا أنه اعتنق الإسلام فعلاً.

لقد قدرت ألمانيا الدولة العثمانية حق قدرها، حين علمت أهميتها في إطار سياسة المجال الحيوي لدولتها الوليدة، فلتلك الدولة أهمية اقتصادية وعسكرية ومركز ديني ثقيل يمكن توظيفه والاستفادة منه عند الحاجة.

كانت ألمانيا تهدف من إدخال العثمانيين إلى جانبها في الحرب أن تفتح عدة جبهات على الحلفاء تجبرهم على تشتيت جهودهم العسكرية، وتحرّض على الثورة ضدهم في مناطق نفوذهم من الهند إلى شمال إفريقيا وإيرلندا وجبال القوقاز، ونفذ الخليفة العثماني دوره في تلك الثورة حينما أعلن فتوى يستنفر فيها المسلمين في كل مكان للجهاد ضد أعداء الإسلام المستعمرين.

وعلى الجبهة الفرنسية في المستعمرات الإسلامية، آمنت فرنسا أنه رغم ما أصاب الخلافة العثمانية من وهن وضعف، إلا أن المسلمين السنة في كل مكان في أنحاء العالم كانوا يشعرون بالولاء لرجل أوروبا العثماني المريض، وهو ما كان يشكل أزمةً كان على فرنسا، التي أقرت بفصل الدولة عن الدين منذ سنة 1905م، حلها.

لم يمنع ذلك النهج العلماني الفرنسي من اتباع سياسةٍ دينيةٍ تجاه مستعمراتها، حيث عملت على توظيف رموز الدين من علماء ومشائخ وطرق صوفية في خدمة المصالح الاستعمارية، وتجلت تلك السياسة بِاندلاع الحرب العالمية الأولى وطيلة الفترة التي استغرقتها.

وقد كان لتلك السياسة دوافعها تمثلت في أن المسلمين بأعدادهم الكبيرة بإمكانهم تحديد نتيجة الحرب بالنسبة إلى الجيش الذي سيدينون له بالولاء في تلك الظروف الحرجة، لذا أصبح المسلمون في تلك الحرب نقطة مفصلية، وأخذ كل طرف من طرفي الصراع في محاباة المسلمين وترويج صور دعائية بالغت في إظهار العطف على المسلمين، وإظهار انتهاكات العدو في حق المسلمين، ولننطل في توضيح ذلك من الجبهة الألمانية.

الأسرى الثوار

ظهرت في برلين عام 1915م مؤسسة عُرِفت باسم «وكالة أخبار الشرق» أشرفت على الدعاية الألمانية الشرقية الإسلامية، بإشراف عددٍ من المستشرقين وعلماء الإسلاميات الألمان، واضطلعت تلك المنظمة بالأساس على نشر الدعاية وتثوير الرعايا المسلمين في دول الحلفاء، والنقطة الثانية والأهم هي غسل أدمغة الأسرى المسلمين (عرب المشرق والمغرب والهنود) الذين كانوا يحاربون في جيش دول الوفاق (بريطانيا وفرنسا) ووقعوا في أسر القوات الألمانية وسجنوا في معتقلاتها، وقد كانوا حوالي خمسة آلاف أسير.

ولضمان فاعلية تأثير تلك الدعاية في بلاد المسلمين، خاصة في معسكرات الاعتقال تلك، سعى الألمان لمحاباة القادة السياسيين والفكريين الإسلاميين الذين اعتقدوا أن ألمانيا تتبنى سياسة ودودة للمسلمين من أمثال الأمير شكيب أرسلان والشيخ عبد العزيز جاويش والزعيم محمد فريد.

جلبت ألمانيا إلى برلين علماء مسلمين حيث يوجد حشود من الأسرى المسلمين، وذلك من أجل إلقاء محاضرات وخطب تحث أولئك الأسرى على القتال إلى جانب ألمانيا وتركيا، وإقناعهم بمشروعية تلك الحرب إلى جانب ألمانيا للحفاظ على الخلافة قائمة.

وبطلب من القيصر غليوم الثاني أرسلت حكومة تركيا إلى ألمانيا الأمير علي باشا ابن الأمير عبد القادر الجزائري، لمكانة أبيه الخاصة كمجاهد ضد الاحتلال الفرنسي، لقد جاء خصيصًا لإقناع الأسرى المغاربة بالتحول إلى القتال في صفوف الألمان.

لوحة زيتية للأمير عبدالقادر الجزائري
لوحة زيتية للأمير عبدالقادر الجزائري

قامت السلطة الألمانية على بعد ثلاثين كلم من العاصمة برلين ببناء مسجد «محتشد الهلال» من أجل أن يؤدي الأسرى المسلمون شعائر دينهم في نفس الظروف التي يؤدونها فيها في بلدانهم، وكان المسجد يقع بالأساس داخل معسكر، وأقامت الحكومة الألمانية داخله حمامات عربية على النمط الشرقي، ومقاهي عربية، وأماكن للوضوء، وكان الغرض الأساسي من هذا المعسكر هو جمع الأسرى المسلمين في مكان واحد، حيث كانوا قد تفرقوا في أنحاء ألمانيا كغيرهم من الأسرى الإنكليز والفرنسيين والروس.

دُشِّن المسجد ليلة دخول رمضان من العام 1915م بحضور سفير تركيا في برلين، والشيخ محمد الخضر حسين أحد العلماء التونسيين الذين أخذوا العالمية في الجامع الأزهر، ولذلك كان من المبجلين في تونس، وقد آثر الانضمام إلى المعسكر العثماني الألماني، حاضرًا في تلك المناسبة وألقى كلمة الافتتاح قائلاً:

«رغم أن هذا المبنى لا يحتل إلا مساحة محدودة من التراب الألماني، فإن له في قلوبنا ضعف مساحته. وفي الوقت الذي يتذكر فيه إخواننا الجزائريون أن فرنسا حولت جامع صالح باي بقسنطينة والجامع الكبير بعنابة إلى ثكنة عسكرية، سيدركون الفرق بين من يبني فوق أرضه مسجدًا جميلاً كهذا، وبين حكومة لا هم لها إلا القضاء على الإسلام»

كانت الأهداف الألمانية من تلك المعاملة المميزة للأسرى المسلمين هي تأهيلهم من أجل إرسالهم إلى بلدانهم لإشعال الثورات فيها ضد سلطات دول الوفاق المستعمرة.

ومن أجل ذلك أنشأت ألمانيا جريدة «الجهاد» في مارس 1915م والتي اختصت بالأسرى وحدهم، وصدرت بلغات شرقية عدة أبرزها اللغة العربية، ونشرت الجريدة من أجل أن تخدم المسلمين الذين قاتلوا مع أعدائهم «جبرًا» ضد محبيهم الألمان، كما زعمت الجريدة في مقالها الافتتاحي.

جريدة «الجهاد» الألمانية
جريدة «الجهاد» الألمانية

وفتحت المجلة صفحاتها للأسرى لكي يكتبوا فيها ما حدث لهم مع أعدائهم وما أصابهم من مصائب نزلت بهم وأبعدتهم عن بلادهم وأولادهم، وأوضحت لأولئك الأسرى في ختام المقال ما يتوجب عليهم فعله صراحة عند عودتهم إلى بلادهم، ألا وهو إعلان الثورة، كما جاء في تلك الكلمات: «إننا نعلم أنكم تلعنون أعداءكم وإصلاح شؤونكم وأموركم لا يكون بالقول فقط، إنما بالعمل، وإذا رجعتم إلى أوطانكم فإنكم ستجدون الوقت المناسب لذلك، وسيرافقكم صوت الحق إلى أوطانكم العزيزة..».

صدر لتلك الجريدة 83 عددًا حتى أكتوبر 1918م، وانقطعت من بعدها نهائيًا، أما أثرها لم يكن كبيرًا، فمعظم هؤلاء الأسرى كانوا أميّين، ومن كان يقرأ منهم لم يكن يفهم تلك الفصحى الرصينة التي تُنشر بها المقالات، وهذا ما انتقده الزعيم محمد فريد حين زار معسكر الأسرى، قائلاً إنه كان من الأولى لو قُدمت لهؤلاء الأسرى محاضرات شفوية ولو مرة في الأسبوع، بواسطة خطباء من بني جنسهم، وكان هذا يحدث بالفعل، ولكن ليس بشكلٍ أسبوعي.

ولم تقف فرنسا ساكنة أمام تلك الدعايا الألمانية، وإنما بذلت مساعي حثيثة أيضًا لاجتذابهم المسلمين إلى صفِّها.

مسلمو الجيش الفرنسي العلماني

في بداية الحرب، حين تيقنت فرنسا من التحالف التركي الألماني الداعي إلى الثورة السابق ذكرها، سعوا إلى التقرب من العرب لقتال الترك والألمان، فحاولوا الحيلولة دون انتشار نداء السلطان العثماني الداعي للحرب المقدسة خاصةً في تونس، ودعّموا ثورة الشريف الحسين العربية، والتي من شأنها تحويل المركزية الدينية من خلافة إستانبول إلى مكة، ومن الترك إلى العرب.

فرقة من سلاح الفرسان العربي في الجيش الفرنسي
فرقة من سلاح الفرسان العربي في الجيش الفرنسي

شارك في الجيش الفرنسي نحو 300 ألف جندي ومتطوع من المغرب العربي، وناهز عدد القتلى والمفقودين نحو 68 ألفًا، وكانت تلك خسارة جسيمة إذا قورنت بعدد باقي الضحايا من باقي المستعمرات، حيث إن الأفارقة السود لم يفقدوا إلا 25 ألفًا، ولم يفقد جنود الهند الصينية سوى 1600 مجند، وانقسم هؤلاء الجنود إلى ثلاثة أنواع:

  • المجندون المدعوون: حيث لكل قطر نظام التجنيد الخاص به، وفي تونس مثلاً كان هناك نظام القرعة الذي يشمل الذكور المسلمين البالغين ويلزمهم قضاء ثلاثة أعوام في سلك الجندية، أما في الجزائر فكل من تجاوز 18 عامًا يجند عسكريًا بالإجبار لمدة ثلاثة أعوام، وسبعة على ذمة الاحتياط.
  • الجنود المتطوعون: وهم الذين تطوعوا لقاء مقابل مالي وكان أغلبيتهم من الأرياف والمناطق الفقيرة، الذين عاشوا أزمات افتكاك الأراضي لفائدة المستوطنين الأوروبيين.
  • الجنود العمال: وهم الذين انتدبوا للأعمال الفلاحية والأشغال المدنية لسد الفراغ الذي خلفه استدعاء الجنود الفرنسيين إلى الحرب، وكانت تلك الفئة تستقطب من هم على عتبة الكهولة فوق 35 عامًا، وكانوا دومًا عرضة للعمل المضني والممارسات العنصرية.

وعملت السلطات الاستعمارية على مواجهة تركيا وألمانيا بسلاح الدين ذاته، فبادرت إلى توظيف محلي للدين ورموزه، فالتجأت لمشائخ الطرق الصوفية وعلماء المؤسسات الدينية الرسمية خاصةً في تونس ليعلنوا مناهضتهم لدخول تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا، وتأكيد ولائهم الدائم للحامية الفرنسية، وتم إجبار حاكم تونس الباي محمد الناصر على نفس الموقف.

وبينما كانت ألمانيا وتركيا تروجان أن فرنسا تنتهك الإسلام والمسلمين، كانت فرنسا تروج أنها تلتزم تجاه المجندين من المسلمين بسياسة دينية تقوم على احترام شعائر دينهم من أجل أن تكتسب ثقتهم وولاءهم، ليتفانوا في الدفاع عنها والموت من أجلها.

أول مسجد في باريس

وكانت للسياسة الدينية الفرنسية على الجبهة لجنودها المسلمين عدة محاور، فقد أمرت باستجلاب سبعة أئمة للصلاة يوفدون للحكومة العسكرية بباريس ويوزعون على المعسكرات والفيالق التي يوجد فيها المسلمون بكثرة من أجل الحرص على إقامة الصلاة بشكل دائم.

وعملت فرنسا على إرسال عدول-وهو مصطلح إسلامي عن الشهود الذين ترضى شهادتهم- إلى الجبهة، فقد كان الجنود قلقين على عائلاتهم وأقاربهم الذين خلفوهم وراءهم، خاصة أن هناك العديد من الأعمال التي لا يمكن مباشرتها -قضائيًا- إلا بحضور الجندي، أو بشهادة عدلية فيها تفويض من جانبه، كشهادة التوكيل أو الطلاق والعديد من الشهادات التي يقع تحريرها لدى المحاكم الشرعية، وحرصًا منها على تبسيط تلك الإجراءات وتسهيلها عملت حكومة فرنسا على إيفاد عدلين إلى الجبهة لتسهيل إبرام العقود التي قد يحتاجها الجنود.

قامت فرنسا على غرار ألمانيا ببناء جامع ضخم في باريس، اتخذ شكله النهائي في مسجد باريس الكبير القائم حتى اليوم، وكانت تلك الفكرة تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر إلا أنها قوبلت بالرفض، وحينما اشتدت الحاجة للرد على الدعاية الألمانية، سمحت الحكومة الفرنسية ببنائه لحماية خمسة عشر مليون مسلم في الشمال الإفريقي من الوقوع تحت تأثير الجامعة الإسلامية الألمانية، والإبقاء على ولائهم لفرنسا، وقد فاخرت فرنسا بذلك الإنجاز الذي افتتح عام 1915م أمام سكان مستعمراتها، فقد طبعت خمسين ألف صورة تذكارية وزُعت على الجنود ليرسلوها إلى أهاليهم، تحوي صور الجامع وكتابات بالعربية.

مسجد باريس الكبير
مسجد باريس الكبير

وقد قامت السلطات الفرنسية بوضع آلات سينمائية في مستشفيات المسلمين من أجل تصويرهم وإرسال تلك الأشرطة التي تصور حياتهم اليومية إلى عائلاتهم في بلدانهم الأصلية ليعلموا بمدى العناية التي يحاط بها أبناؤهم.

سنت الحكومة الفرنسية أيضًا مبادئ وقوانين تنظم تغذية المسلمين، سواء عمالاً أو جنودًا، فقد سنت قانونًا يعاقب صاحب العمل الفرنسي المستأجر للعمال المسلمين، يسحبهم منه ويمنعه من الحصول على آخرين في حال قدم لهم أي نوع من أنواع المشروبات الكحولية، كما أمرت بحجر لحم الخنازير في المتاجر التي تقع في مناطق المسلمين، وحظر القمار.

وبالنسبة للجنود في الجيش فقد حظر عليهم لحم الخنزير، وأصدرت لهم روزنامة خاصة للاحتفال بالمناسبات الدينية وما يناسبها من أغذية معينة وفقًا لثقافتهم ويقدم الكسكس والشواء في عيد الأضحى، والطبخ يتم باستعمال الزبدة بدلاً من شحم الخنزير، ويوم الجمعة يقدم فونوغراف يحتوي على أغانٍ عربية جميلة، وتقدم آلات موسيقية عربية كالربابة.

الموت على الجبهة في رمضان

إذا ذُكر الإسلام، ذُكر شهر رمضان، ولأهمية تلك الفريضة عند المسلمين اعتبرت السلطات الفرنسية أن المسلمين وإن كان بعضهم قد يشرب الخمر، فإن أغلبهم بلا شك يصوم رمضان، لذلك قامت الحكومة الفرنسية بإجراءات تخص شهر رمضان، حيث اضطلعت برؤية الهلال بما تتوافق مع الرؤية في تونس، حتى يتوافق صيام المجندين مع أهاليهم، وقد منحت الجنود حرية الاختيار في الصوم فمن أراد الصوم فلا يتعرض للمنع، بل يتم مساعدته على ذلك، وقامت السلطات بتسجيل الجنود الذين قرروا الصوم وحدهم في دفتر حتى يتمايزوا عن أولئك الفاطرين، ويحدد لهم أدوار كجنود أو عمال لا تخل بصيامهم.

جنود مغاربة في الجيش الفرنسي
جنود مغاربة في الجيش الفرنسي

ونظمت لهم جدولاً خاصًا للأكل في رمضان، فقهوة الصباح تؤجل للغروب، ويؤكل الطعام بعد القهوة بنصف الساعة، وكفلت لهم الحرية في إحياء ليالي رمضان الخاصة كنصف رمضان وليلة القدر وعيد الفطر، وحُسنت وجباتهم خصوصًا في تلك المناسبات الدينية، وأوكلت الأعمال إلى الصائمين ليلاً بدلاً من النهار، وإذا تعذر ذلك فيجب أن يبدأ العمل باكرًا وينتهي عند منتصف النهار براحة طويلة، وأولئك الذين استصعبوا صيام الشهر، عملت الحكومة الفرنسية على استصدار فتوى من الشيخ أحمد بيرم شيخ الإسلام الحنفي في تونس تجيز إفطارهم.

واحتفالاً بعيد الفطر، وفرت السلطات الفرنسية «النفة» وهو من أنواع المخدرات، والسجائر والكسكس والتمر إلى كل الجرحى والجنود، وجاء في جريدة أخبار الحرب وصف لتلك الطقوس من عيد عام 1915م: «كان الضباط المترجمون المشتغلون بالعساكر الإسلامية قد هيؤوا أطعمة فاخرة على يد طباخين عرب، فيها الكسكس والضأن المشوي على الطريقة الإسلامية، وكان المدعوون في فرح فائض وانبساط كبير، يشربون القهوة العربية والشاي المنعنع، ويسمعون الموسيقى العربية، وبعد الأكل لعبوا ألعابًا مختلفة، ورقصوا وأنشدوا..».

ما سبق ذكره كان بلا شك تضخيمًا ودعاية روجتها فرنسا ردًا على الدعاية الألمانية المماثلة، فقد عانى الكثير من المسلمين كجنود أو عمال في ظروف إقامتهم معاملة سيئة، فقد كانوا لا يتمكنون من تغيير ملابسهم الداخلية، كما أنه ليست لهم أزواج من الأقمصة والجوارب، بالإضافة إلى رداءة ظروف السكن، فالعساكر منهم يقيمون داخل الكنائس على فرش من قش، وليس لهم سوى غطاء من الصوف، والمعاطف المعطاة لهم لا تغطي إلا الجزء الأعلى من الجسم.

وعندما تندلع الحرب كانوا يقاتلون ضد الخنادق الألمانية بالحراب، وفي مناطق مكشوفة مما جعل وحدة منهم تباد بنسبة 85%، فقد كانوا يوضعون في الصفوف الأمامية والفرق الهجومية، ويلقى بهم في المعارك كساتر بشري يحمي أبدان الجنود الفرنسيين، ومات الآلاف منهم سواء في الحروب، أو المرض بسبب ظروف الإقامة غير الآدمية.

حارب المسلمون في الخنادق، ورسائلهم تشهد على تلك المأساة التي عاشوها، فأحدهم في رسالة إلى أبيه يقول:

«الخندق ضيق، فعندما نريد الاستلقاء على بطوننا نصبح مثل الأرانب وسط جحورنا، أو مثل القطط النائمة والمحاطة بالموت.. إن الباي -لقب حاكم تونس- باعنا وأمضى على ذلك لكي يرسلنا مثل القطيع.. إن جثثنا تبقى ملقاة على الأرض لتكون طعامًا للجرذان..»

ويؤكد تلك الحالة جملة في خطاب أرسله جندي جزائري إلى أخيه، أورده المؤرخ تايلور ستوفال في كتاب حروب الإمبراطوريات فحواه: «أخذني الكفار بالقوة، وأنا أعمل كالمحكوم بالأشغال الشاقة».

وعملت فرنسا إلى أن تغسل ذلك العار بأن تطبق مراسم الدفن الإسلامية للجنود المسلمين الذين يسقطون، حيث أثارت إشاعة أنهم يدفنون كالجنود الفرنسيين الاستياء في بلاد الإسلام، وهذا الأمر قد استغلته ألمانيا بدورها في منشورات وزعتها على المسلمين.

وهو ما جعل فرنسا ترسل مزيدًا من الأئمة المسلمين إلى الجبهة من أجل تشييع الجنازات، وقد حظرت حظرًا تامًا وضع الجنود المسلمين في تابوت مسيحي، والمراسم المصاحبة للنعش لا يقوم بها إلا مسلم بترديد بعض الأدعية وأداء صلاة الجنازة، وفي حال تعذر وجود مسلم للقيام بذلك، فيتم الاكتفاء بالتشريفات العسكرية فقط، والقبر يحفر بالطريقة التي يكفل بها للجسد أن يكون داخله مستندًا على جنبه الأيمن، وأمرت السلطات العسكرية أن يحمل شاهد القبر علامتين من الحجر أو الخشب، توضع واحدة في مستوى رأس الميت وتحمل كتابة اسمه بالعربية، والأخرى الصماء توضع في مستوى قدميه.

الرصاص مع فرنسا والقلب مع الحاج غليوم

عاش أولئك الجنود الاغتراب الروحي في بلاد ومناخ غير معروفين، وعاشوا حالة من اضطراب الهوية بين الولاء للخلافة التي يحاربونها، وبين الواجب والشرف العسكري.

وكما سبقت الإشارة، اكتسب غليوم ود ملايين المسلمين، وكان الجنود المغاربة على الجبهات يسمونه «الحاج قيوم» أو «الحاج منصور» أو «الحاج قدور» وشاعت قصيدة تغنى بها الشارع الجزائري تقول:

«يا حي يا قيوم، الله ينصر الحاج غليوم
نتوسل لك بالخواص، الله ايذل اجيوش لافرانص
يا جبار يا عزيز، إخلي الملك من جنس الإنجليز»

وكان الجنود المسلمون في جبهات فرنسا يتغنون باسم القيصر الألماني، وينشدون الأغاني، ولكن الأمر كان متعلقًا بغريزة الحياة والنجاة من القصف والنيران، وقد تضاربت التقارير في الجيش الفرنسي الواردة عن أخبار الجنود المسلمين، فمنها ما أشاد ببسالة الجنود المغاربة في سبيل فرنسا ودفاعهم عن الحق والحرية، ومنهم من يشدد على عاطفة جياشة يكنونها لألمانيا، بلغت درجاتها القصوى عند تهليل الجنود العرب والمسلمين بحياة ألمانيا وقيصرها حتى وهم في لحظات الاحتضار موتًا بالرصاص الألماني ذاته.

والمفارقة التاريخية الواضحة هنا، أن الجنود المغاربة لم يكونوا في وضعية نفسية مريحة، ويخوضون حربًا ليست حربهم، وكانت رصاصتهم من أجل فرنسا، وأمنياتهم مع ألمانيا وتركيا، وهي نفس الحالة التي عاشها الجنود العرب في جبهات المشرق، معكوسة، حيث كان اللبنانيون والشاميون المجندون إجباريًا في صفوف الجيش العثماني، يتعاطفون مع فرنسا وإنكلترا اللتين وعدتهما بالاستقلال، ودعمتا الثورة العربية الكبرى.

جنود مسلمون في الجيش البريطاني يقومون بالصلاة
جنود مسلمون في الجيش البريطاني يقومون بالصلاة

مصير العائدين

في شتاء 1917م، بدأت ألمانيا تحضر إرسال الأسرى المعدين للثورة، إضافة إلى مجموعة أخرى أعُدت في تركيا، إلى شمال إفريقيا لتفجير ثورة هناك تحقق الوعد الذي قطعه الألمان والأتراك لمناضلي الشمال بتمكينهم من إنشاء جمهورية أفريقيا الشمالية، بقيادة الزعيم التونسي علي باش حانبة.

ونسق الزعيم التونسي مع قادة من الداخل كعبد العزيز الثعالبي الذي أسس جمعية سرية فدائية من أجل إحداث حركة تحريرية في إفريقيا الشمالية، وامتدت فروعها في الجزائر وليبيا وتونس والمغرب الأقصى، وكانت تأمل في نجاح حملة جمال باشا القائد العثماني على مصر، والتي استهدفت احتلال قناة السويس كخطوة أولى لحصار البريطانيين في مصر وإجلائهم، ولكن فشل حملة جمال باشا على مصر، ووفاة علي باش حانبة الزعيم التونسي المناهض للحماية الفرنسية على تونس، والمتعاون مع الألمان في أكتوبر 1918م، أدت إلى إجهاض تلك الثورة، ليطرح السؤال نفسه حول مصير الأسرى المسلمين في معسكر الألمان.

حاولت الباحثة الألمانية لاريسا أشميد في كتاب مئة عام على الحرب العالمية الأولى، والتي تقوم بتحضير دكتوراه حول موضوع الأسرى، أن تجيب عن أسئلة مصائر الأسرى، فالموضوع بصفة عامة يلفه الغموض حتى الآن، ولكن أغلب الظن أن بعضهم عاد إلى فرنسا، والبعض الآخر بقي في ألمانيا، أما المسجد الإسلامي في برلين فقد هُدِم في العام 1921م.

أما الباحث التونسي عبد الواحد المكني فيرى في نفس الكتاب، أن تجربة المسلمين في جيوش فرنسا لم تكن سلبية بحتة، فمشاركة الجنود العرب في الحرب خاصةً على الجبهات الأوروبية أكسبت هؤلاء الجنود صدمة ثقافية أشعلت فيهم الرغبة لتجاوز كل ما هو قديم، وانفتحت الأرياف بواسطة الجنود العائدين، وساهم ذلك في إيجاد رأي عام متعلق بالشأنين السياسي والوطني، ويؤكد ذلك المثال الذي تضربه لنا شخصية الزعيم التحرري الجزائري مصالي الحاج الذي أسس حزب نجم شمال إفريقيا ووضع حجر الأساس للثورة الجزائرية، فقد كان أحد جنود فرنسا في الحرب العالمية الأولى.

المراجع
  1. مئة عام على الحرب العالمية الأولى، مقاربات عربية، المجلد الثاني، مجتمعات البلدان العربية، الأحول والتحولات: مجموعة مؤلفين، المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية
  2. حروب الإمبراطوريات 1911-1923: روبرتغيرورث
  3. الثورة العربية الكبرى، تاريخ مفصل جامع للقضية العربية: أمين سعيد