وراء أيقنة الزعيم ياسر عرفات كرمز تاريخي للقضية الفلسطينية شعبياً ورسمياً، قصة طويلة ممتدة من الصراع على حق التحدث بلسان الشعب الفلسطيني، شهدت تحالفات هنا، وانقسامات هناك، ولم يكن لهذا الصراع فاعل محرك على مدار التاريخ بقدر ما حركته التنافسية التي امتدت من الكاريزماتية والسمات الشخصية إلى النهج السياسي والأيديولوجي بين ياسر عرفات «الختيار» و«حكيم الثورة» جورج حبش.

إن تلك العلاقة يلخصها عرفان نظام الدين في كتابه «ذكريات وأسرار أربعين عاماً في الإعلام والسياسة» برواية موقف طريف: «كلما تذكرت الرئيس الشهيد ياسر عرفات تذكرت معه مقولة الدكتور جورج حبش زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1983م عندما توجه إلى عرفات قائلاً بعد انتقاده بحدة في كثير من الأمور: «يا أبو عمار.. ويلي منك وويلي عليك».

لخص جورج حبش مسيرة عرفات الرمادية التي جمعت في كل حركاته وتصرفاته وممارساته وأسلوبه بين السلبية والإيجابية، بين الإنجازات الكبرى والانتكاسات الخطيرة، ورغم كل ذلك بقي رمزاً خالداً للثورة الفلسطينية، كنقيضه جورج حبش.

على خط بيروت القاهرة

في أواخر الأربعينيات، امتد النضال الفلسطيني على خط بيروت القاهرة بين الشابين آنذاك، جورج حبش طالب الطب في الجامعة الأمريكية ببيروت، وياسر عرفات طالب الهندسة بجامعة فؤاد (القاهرة حالياً).

كان التباين الأيديولوجي واضحاً أيضاً من البداية، نشأ حبش في لبنان تحت حظوة الأستاذ قسطنتين زريق أحد أهم منظري القومية العربية في سورية الكبرى، فتبلور وعي حبش السياسي يسارياً قومياً عروبياً، أما عرفات في القاهرة فكان عليه أن يختار بين فاعلين أساسيين في الساحة المصرية آنذاك، الشيوعيين أو الإخوان، ويثار الجدل حول انتماء عرفات السياسي، إلا أنه على أغلب الظن قد اختار صف الإخوان، وهذا ما تؤكده واقعة اعتقاله على هامش كونه إخوانياً، عقب أحداث المنشية 1954م التي تعرض فيها الرئيس عبد الناصر لمحاولة اغتيال.

سيطر حبش وحركته القومية العربية على مجلس الطلبة في الجامعة الأمريكية ببيروت، في نفس الوقت الذي سيطر فيه عرفات على اتحاد الطلبة الفلسطينيين في القاهرة الذي شغل موقعه كرئيس له حتى تخرجه سنة 1956م.

كان عرفات أسبق في حمل السلاح من حبش، فقد كان عرفات من الفدائيين في منطقة قناة السويس الذي يقومون بأعمال ضد البريطانيين، وقد استمر نشيطاً في ذلك المجال حتى سنة 1954م حتى أصدر عبد الناصر أوامره بوقف هذه العمليات مؤقتاً، واشترك أيضاً عرفات في حرب 1956م كجندي في الجيش المصري، في الوقت الذي كان فيه حبش يُنشئ تنظيم حركة القوميين العرب متخفياً بين لبنان وسوريا والأردن.

ولكن في أعقاب النصر السياسي لمصر في حرب 1956م الذي جعل من عبد الناصر زعيماً لكل العرب، وبسبب توافق الخط السياسي بين حركة «القوميين العرب» التي يتزعمها حبش مع خط الرئيس عبد الناصر الذي كان يضيق على الإخوان والشيوعيين، كان حبش بالنسبة لعبد الناصر رجلاً يحب العمل معه، أكثر من عرفات، الذي نأى بنفسه بعيداً عن مدار الأحداث بعد تخرجه حين سافر إلى الكويت ليبدأ قصة جديدة في إنشاء حركة فتح.

كانت حركة القوميين العرب حركة منسجمة تماماً مع التيار الناصري في ذروته خصوصاً فترة الوحدة المصرية السورية 1958م-1961م حتى أن بعض أعضائها اشتركوا في الحكومة، كما أولى حبش اهتماماً خاصاً بأوضاع اليمن الجنوبي وثورته ودعم الكفاح المسلح ضد الوجود البريطاني العسكري في عدن، ولكن بعد الانقلاب البعثي على الوحدة، لاقى حبش أهوال السجن في سوريا وتعرض هو وحركته للمطاردة ومحاولات الاغتيال، حتى أنه قد صدر بحقه حكم الإعدام في سنة 1963م واتهامه بالانقلاب على النظام الحاكم في سوريا.

حين تأسست منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1962م تراجعت مكانة حبش قليلاً، لحساب المحامي ورئيس المنظمة الذي اختاره عبد الناصر ورؤساء العرب «أحمد الشقيري»، وبعد ثلاث سنوات وفي الأول من يناير 1965م تأسست حركة فتح، والتي نظر إليها النظام المصري بعين الشكوك، حيث إن الحركة كانت ذات توجه إقليمي فلسطيني مخالفاً للتوجه القومي العروبي الذي كانت تتبناه حركة القوميين العرب وبالتبعية منظمة التحرير التي كانت تحت رعاية عبد الناصر، وكان عبد الناصر يرى في فتح أنها تسعى إلى توريط العرب في معركة غير محسوبة قبل أن يكونوا مستعدين بشكل كامل.

هكذا كانت الأوراق، وكان الصراع ناعماً بين الرجلين، من خلال جماعتهما، حتى جاءت الطامة الكبرى في صباح الخامس من يونيو 1967م.

ستة أيام تعُرج المسار التاريخي

بعد الهزيمة في نكسة 1967م التقى الرجلان في دمشق للمرة الأولى في حياتهما، وكان حبش قد تحطم بسبب احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة في حرب الأيام الستة، بكى حبش قائلاً: «لقد ضاع كل شيء!» لكن عرفات، زجره قائلاً: «جورج أنت مخطئ، تلك ليست إلا بداية».

كان النضال الفلسطيني بعد النكسة في حاجة لشخص مثل عرفات، الذي قام بما يشبه التأميم لعملية النضال الفلسطيني، مع بعض الدبلوماسية الحاذقة التي جعلته يحافظ على الدعم من القادة العرب بينما يطور في الوقت نفسه منظمة التحرير كهيئة مستقلة. كانت الثورة الفلسطينية أكبر بكثير من مجرد لعبة اعتاد أن يلعبها ملوك العرب في الخليج، والقادة القوميون في المشرق والمغرب العربي الذين كسرتهم الهزيمة.

كان تحدياً بارزاً وهو الذي وقف في وجه حركة القوميين العرب، ومثّل ذلك التحدي تجربة حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» والتي استحوذت على منظمة التحرير الفلسطينية فيما بعد، كان هناك خط واضح يفصل المدرستين اللتين انتمى إليهما كلٌّ من ياسر عرفات وجورج حبش، مدرسة الطهارة السياسية والراديكالية الثورية التي انتمى إليها جورج حبش، في وجه مدرسة براغماتية سياسية مثلتها شخصية ياسر عرفات وقراراته، وربما هو ما جعل لياسر عرفات في النهاية الوجه الأبرز للقضية الفلسطينية بكل تناقضاتها، فقد كان الرجل دائماً ما يغوص في قلب الحركة السياسية العربية ومستنقعها السياسي ولا يستنكف أن يتلوث به ويلوثه، وكان في كل مرة قادراً على الانبعاث من جديد كلما تعرض إلى حصار مميت.

كانت حرب 1967م فاصلة في مسار القضية الفلسطينية، وربما وضعت حبش وعرفات على خط الالتقاء الأول بينهما، حين أعلن حبش خروجه عن الكنف الناصري المتمثل في حركة القوميين العرب ليعلن تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والتزمت الجبهة نهجاً ماركسياً لينينياً واضحاً وخطًّا إقليميًّا فلسطينيًّا يهتم بتحرير فلسطين أولاً وفوق كل شيء، ولكن ظلت علاقة حبش بعبد الناصر جيدة رغم ذلك، وأعلن عبد الناصر من جهته أنه سيستمر في دعم الجبهة بالمال والسلاح.

وبعد معركة الكرامة 1968م، التي كتبت اسم ياسر عرفات وحركته فتح بالذهب وسهلت له الاستحواذ على رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية، توحدت الأهداف مع جورج حبش، وأعيد النظر في «الميثاق القومي الفلسطيني» ليصبح «الميثاق الوطني الفلسطيني» لنلحظ أن التوجه نحو الإقليمية بديلاً عن القومية العربية أصبحت هي النهج الذي وحّد قيادة المنظمة في ائتلاف من مختلف الفصائل الفلسطينية تقوده حركة فتح.

وكانت الجبهة الشعبية بقيادة حبش هي الفصيل الثاني في الحركة الوطنية الفلسطينية، ولكن الخلافات الفكرية والسياسية بين عرفات وحبش فرضت نفسها على الأحداث لتصبح الجبهة الشعبية هي العمود الفقري للمعارضة الفلسطينية.

كانت مهارة عرفات تشكل المقوم الرئيسي لكيان منظمة التحرير التي بقيت شرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني مهددة على الصعيد الدولي حيث أنكر عليها العدو الإسرائيلي وجودها من جهة أولى، وكان يهددها دائماً خطر تفجر الانشقاقات بين الأشقاء العرب، ولكن مهارة عرفات الدبلوماسية الرمادية تلك، كان يقابلها طهارة ثورية كما يصفها المؤرخ اللبناني جورج قرم في شخصية جورج حبش، وذلك التناقض هو الذي سيضرب الشقاق في منتصف السبعينيات، حين يتكون خط الرفض الذي يرفض أية تسوية مع العدو الصهيوني بقيادة جورج حبش وبدعم الأنظمة السورية والليبية، وما سيقوم به من تنفيذ عمليات خطف الطائرات والتي كانت فتح بقيادة عرفات تشجبها علناً.

كراهية السادات كوسيلة للوحدة

تسببت مواقف الجبهة الشعبية وسياستها في اختطاف الطائرات للتعريف بعدالة القضية الفلسطينية للصحافيين والإعلام الغربي، بأزمة لدولة الأردن التي كانت تستضيف قواعد المقاومة على أراضيها في ذلك الوقت، ما أفضى في النهاية إلى حدوث الصدام المحتوم بين المقاومة الفلسطينية بفصائلها المختلفة والجيش الأردني، وخروج المقاومة من الأردن، فيما عرف بأيلول الأسود 1970م.

وبعد الخروج من الأردن إلى لبنان أصبح موقف المقاومة في موقع هش وزاد هشاشة بعد التفاعلات التي جرت في المنطقة بعد حرب 1973م، وجرى التباحث في مشروع تسوية سياسية أطلق عليها «مشروع جنيف» وقد اعتبرت الجبهة الشعبية بقيادة حبش إقرار منظمة التحرير في 1974م المشروع كنوع من أنواع التساوق مع مشاريع التسوية الاستسلامية المطروحة على المنطقة العربية، فوقع الشقاق وانفصلت الجبهة بشكل تام عن منظمة التحرير وشكلت جبهة فرعية أخرى هي «جبهة القوى الرافضة للحلول الاستسلامية» مع بعض الفصائل الأخرى التي أخذت موقفاً في وجه مشروع التسوية.

وبعدما زار السادات إسرائيل في 1977م، أعيد توزيع الأوراق من جديد في الساحة السياسية العربية والفلسطينية بشكل أخص، وكان أبرز انعكاسات خطوة السادات تلك هي أن الجبهة الشعبية عادت من جديد إلى منظمة التحرير لتشكل جبهة صمود وتصدٍ على المستوى العربي لمواجهة خطوة السادات الخطيرة على مستقبل القضية الفلسطينية.

شكل خروج مصر بثقلها السياسي والعسكري بتسوية منفردة مع إسرائيل، ضربة قوية للمقاومة الفلسطينية، وقد سهلت معاهدة كامب ديفيد وشروطها على مصر، غزو إسرائيل للبنان عام 1982م، ذلك الغزو الذي ضرب بنية منظمة التحرير التحتية في لبنان وخروجها إلى شتات آخر.

أثّرت الضربة الإسرائيلية للبنان على الحركة الفلسطينية الوطنية بمختلف فصائلها، وأدت إلى إضعافها بشكل حاسم، وقد تمخّض عن ذلك خلافات انقسامية على الذات مرة أخرى بين الفصائل الفلسطينية.

في منفاه، اتخذ عرفات قراراً بالتقارب مرة أخرى مع النظام المصري، وهو ما رآه حبش والجبهة الشعبية تفريطاً في الحقوق الوطنية لفلسطين، ولكن في نفس الوقت كانت قد جرت عملية انشقاق وتمرد داخل حركة فتح بدعم من النظام السوري قاده نائب قائد قوات العاصفة أبو صالح عام 1983م وصل إلى حد الصدام المسلح بين أبناء حركة فتح أنفسهم.

في تلك الأجواء المشتعلة كان على حبش أن يحدد موقفاً واضحاً؛ فعارَض الانقسام الفلسطيني ودعا إلى تشكيل قيادة سياسية وعسكرية مشتركة تهدف لحماية وحدة منظمة التحرير وصيانة خطها الوطني، إلا أن تلك الدعوة سرعان ما ذهبت سدى بعد أن وُقع اتفاق عمان 1985م بين ياسر عرفات والملك الحسين ملك الأردن، فأعلنت الجبهة الشعبية مقاطعتها لمنظمة التحرير من جديد، لتشكل «جبهة الإنقاذ الوطني الفلسطيني» برعاية النظام السوري.

تلك الأجواء الخصامية الحادة، الأشبه بالخصام العائلي، لم ينقذها من التفتت سوى مصاب كبير يصيبها، وهو ما حدث في الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987م، والتي أعادت الاعتبار للعمل في قيادة سياسية موحدة.

لماذا انتصر عرفات؟

تراجع دور الجبهة الشعبية كالعمود الفقري للمعارضة لتحل محله الحركة الإسلامية الفلسطينية المتمثلة في حماس، خصوصاً بعد نجاحات الحركات السياسية الإسلامية في أكثر من مكان بدءًا من إيران وصولاً إلى حزب الله في لبنان، وقيادة حركة حماس الانتفاضة بنجاح في قطاع غزة.

كانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أهم ثاني منظمة فلسطينية بعد فتح، واحتفظت بتلك المكانة حتى صعدت حماس وأسلَمتْ السياسة الفلسطينية والعربية في الثمانينيات، وعلى عكس فتح، شددت الجبهة الشعبية على التلقين السياسي والمجندين الذين تم فرزهم بعناية، فكانت بتلك الحركة، حركة ساسة، لا حركة مقاتلين ولاؤهم فقط لزعيم الحركة، وسرعان ما عانت الجبهة الشعبية من الانقسامات والانشقاقات، كان أولها من مجند المخابرات السورية الزعيم أحمد جبريل عندما كان حبش مسجوناً في سوريا عام 1968م، وفي العالم التالي انقسم نايف حواتمة هو الآخر وشكل الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وتبع ذلك انشقاقات أخرى أصغر.

وكان لعرفات دور في تشجيع الانقسامات داخل الجبهة، فلم يكن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين أن تستمر طويلاً لولا الدعم والتمويل من عرفات الذي كان يشجع ويموّل سلاح العديد من المنشقين في المنظمات الفلسطينية ليحافظ على سيطرته.

كانت أزمة منظمة حبش أيضاً، أنها ضمت العديد من الأذرع الموالية للحكومات العربية، وذلك ما أعطى للأنظمة العراقية والسورية والليبية بالذات نفوذاً هائلاً على التنظيمات التابعة للجبهة الشعبية، ففي مواجهة حركة فتح وزعيمها عرفات الذي انتعش بالتمويل السعودي والخليجي، كان من الصعب للغاية مقاومة الدعم المالي السخي، وهو ما أثر على المنظمتين بإضعاف استقلالهما السياسي.

وبالإضافة إلى كل ما سبق، كان الظرف التاريخي الصعب هو الذي عجل بسقوط الجبهة إلى الهاوية، فقد جاءت حرب الخليج 1990م وضربة عاصفة الصحراء القاسية التي وجهت إلى العراق، لتكون كارثة على الحركة الفلسطينية من جديد، وبالتوازي، كان المعسكر الاشتراكي قد انهار بالكامل، وهو ما شكل كارثةً كاملة على اليسار الفلسطيني الذي يمثله جورج حبش وجبهته الشعبية.

لعرفات الصورة، ولحبش الكلمة

إن كان لعرفات الصورة الكبرى في النهاية للنضال السياسي الفعال، فلحبش كانت الكلمة والوثيقة التاريخية حين تراجع دوره كفاعل أكثر منه مراقباً للأحداث وناقداً لها، والتي عرفتنا عن كثب كيف نظر الرجلان إلى بعضهما.

في كتابه «أزمة الثورة الفلسطينية: جذور وحلول» والذي نشره عام 1983م يشرح حبش أنه أدرك ومجموعته مبكراً انحراف ياسر عرفات وأن الثورة في تلك الفترة وقفت للتعاطي مع الحلول الأمريكية وهي مرحلة نوعية ابتدأت بعد الخروج من بيروت، ويعترف حبش في هذا الكتاب أنه رغم قوته كالرجل الثاني لوجه النضال الفلسطيني، إلا أنه فشل في الوقوف في وجه منظومة عرفات «الفاسدة» التي استمرت في قيادة مصير الشعب الفلسطيني.

يرى حبش أن عرفات هو «سادات فلسطين» فديمقراطيته تقوم على «قولوا ما تريدون، وأنا أفعل ما أريد» فكان أبو عمار دائماً يجد طريقة لاكتساب الأصوات في اتخاذ القرارات من خلال احتكاره موارد المنظمة وتشجيع الخلافات والانشقاقات متبعاً سياسة فرق تسد، ورغم أن حبش كان يرى كل تلك الأمور في عرفات ومنظمته إلا أن ذلك لم يمنعه من الوقوف إلى جانب عرفات في الجزائر عام 1987م، وهو الحدث الذي شوّه راديكالية مسار حبش الثوري، حين اجتمعت الفصائل الفلسطينية لتضح حداً للخلافات الفلسطينية، ولتكسب عرفات شرعية التحدث باسمها، فرغم كل ما أخذه جورج حبش على عرفات فإنه وضع ثمرة نضال الجبهة الشعبية في يد عرفات ومنظمة التحرير التي ارتمت في أحضان الخيار الأمريكي.

لقد كان الصحافي الفرنسي جورج مالبرينو محقاً حين أخبر حبش أن عرفات هو أخوه-اللدود، ومهما بلغت حدة الفتنة بين الرجلين، فلا ننسى أن العلاقة بينهما لم تكن عدائية إلى هذا الحد الذي ترسمه خصومتهما السياسية والأيديولوجية، وهنا نستعين بكلمات حبش في مذكراته، لأنه قدر له أن يعيش أطول من عرفات قليلاً، وليتحدث عنه في غيابه وبعد أن انتهى دورهما في الحياة السياسية، يبوح حبش لمالبرينو:

أياً كان ما نقوله حول خطه السياسي، فإن إقامة دولة فلسطينية ظلت هدفه الدائم، كان أبو عمار يعمل كثيراً وينام قليلاً، ومظهره الخارجي يدل على أنه لا يعيش حياة مرفهة، مع أن أموال الثورة كانت كلها بين يديه يتصرف فيها كما يشاء، كان يحرص دائماً أن يغدق بالمال على من حوله يضمن ولاءهم. لم يكن أبو عمار خائناً للقضية بالطبع، لكن الأمر السيئ في شخصيته هو إغراؤه لمن يعملون معه بالمال..كان أبو عمار يتحرق لإقامة دولة فلسطينية إلى درجة أنه أحرق المراحل وهو يُفرط في تقديم التنازلات، كان يريد نتيجة فورية، وذلك ما أدى إلى إخفاق نهجه السياسي، كان أبو عمار متمسكاً بقراره الشخصي، كان فردياً.

الجبل الذي تمخض فولد فأراً، كانت هي اتفاقية أوسلو في نظر حبش، والتي عارضتها الجبهة الشعبية بقيادته بطبيعة الحال، إلا أن المعارضة لم تكن لتؤثر في المسار بشيء، فقد كان حبش يعلم فعلاً أن زمن اليسار قد ولى مع انهيار الكتلة الشيوعية السوفييتية، وقد حاول بالفعل التقاعد أكثر من مرة إلا أن زملاءه في الجبهة استبقوه وأصروا عليه أن يبقى ولو واجهة كاريزمية للحركة.

حاول حبش محاولة يائسة لصنع جبهة رفض جديدة لعرفات وإسرائيل إلا أن الجبهة الشعبية الديمقراطية قد خذلته بتأييدها عملية السلام مع إسرائيل، في الوقت الذي كان عرفات يضاعف جهوده لاجتذاب فصائل المعارضة إلى صف أوسلو، بدعوة الجبهة الشعبية والديمقراطية والحركتين الإسلاميتيين الجهاد وحماس إلى المشاركة في حكومته، إلا أن تلك الفصائل قد رفضت التقارب مع عرفات، وفي نفس الوقت فشلت في أن تتوحد لمواجهة عرفات، انتهت مسيرة حبش النضالية عام 2000 حين قدم استقالته من الجبهة بشكل رسمي، وكانت لحبش وجهة نظر في أسلمة المعارضة الفلسطينية وآمن بإعطائها فرصة.

لم يبقَ من حبش في وجه ياسر عرفات، إلا موقفاً واحداً ظل حتى مماته، وممات عرفات، حين آثر أن يظل خارج الوطن، وألا يعود لمناطق السلطة الفلسطينية أو الداخل المحتل، إلا بعد عودة خمسة مليون لاجئ فلسطيني إلى أراضيهم.

قبل أن يموت حبش، شهد بعينيه فتنة ثانية تستشري في مسيرة النضال الفلسطيني، تلك الحرب الباردة بين السلطة وحركة حماس الإسلامية، وتلك قصة أخرى.

المراجع
  1. انفجار المشرق العربي: جورج قرم
  2. الفلسطينيون في العالم العربي: لوري براند
  3. الثوريون لا يموتون أبداً: جورج حبش
  4. أزمة الثورة الفلسطينية: جورج حبش
  5. ذكريات وأسرار أربعين عاماً في الإعلام والسياسة: عرفان نظام الدين
  6. الكفاح المسلح والبحث عن الدولة: يزيد يوسف صايغ
  7. جمال عبد الناصر وعصره: مجموعة باحثين