«إن القواعد التي تحكم صناعة الملابس، يجب ألا تطبق على نشر الكتب…» هكذا يشير الفيلسوف الفرنسي الموسوعي دنيس ديدرو قبل قرنين إلى الطبيعة الخاصة لصناعة النشر. وهو ما يدفعنا إلى رصد اتجاهات النشر في العالم العربي قبل معرض القاهرة الدولي للكتاب، بما يفيد زائر المعرض، وبما يعكس لنا حال الثقافة العربية.


النشر الحكومي

نجحت بعض المؤسسات الحكومية التي تعتني بنشر الكتب في كسب ثقة وإعجاب كثير من القرّاء، بما تقدمه من أعمال قيّمة بأسعار معقولة. وإن كان بعضها قد أثار من الجدل بقدر ما حقق من النجاح حيث يتعرض القائمين على بعضها في مصر لاتهامات بالفساد المالي وكذلك تكافؤ الفرص بين الكتاب للنشر من خلالها.

إذا كنت من زوار معرض الكتاب القادم فمن المفيد أن تبدأ بالتوجه إلى المركز القومي للترجمة في صالة 4 والذي يقدم ترجمات لأهم الأعمال في الفلسفة والعلوم الإنسانية والطبيعية والسياسة والتاريخ والأدب بأسعار معقولة، وبتخفيضات كبيرة تصل إلى 50 % للطلاب و30 % للباحثين. وربما تمر على الهيئة العامة لقصور الثقافة و المجلس الأعلى للشئون الإسلامية التي غالبا ما تجاور المركز. وبإمكانك أن تنتقل سريعا إلى خيمة الهيئة المصرية العامة للكتاب وكذلك معرض مكتبة الأسرة.

نجحت بعض المؤسسات الحكومية التي تعتني بنشر الكتب في كسب ثقة وإعجاب كثير من القرّاء، بما تقدمه من أعمال قيّمة بأسعار معقولة

لا يقتصر هذا النشاط على مؤسسات الدولة المصرية،فالمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت يقدم إصدارات هامة بأسعار زهيدة، ويكفي أن نشير إلى سلسلته “عالم المعرفة” التي لا زالت تجتذب القراء والمثقفين في كل أنحاء العالم العربي. ويحضر المجلس الوطني غالبا في صالة الناشرين العرب بالمعرض.

دخلت دولة الإمارات العربية في الفترة الأخيرة على الخط بقوة، حيث حرصت على تدعيم حضورها السياسي القوي بالنشاط الثقافي خاصة فيما يتعلق بمواجهة بعض الأفكار الإسلامية التي تراها خطرة والتي ترى ضرورة مواجهتها بأفكار أكثر اعتدالا. من بين المشاريع البارزة مبادرة كلمة للترجمة عن هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة التي ستظهر في معرض القاهرة بعض إصداراتها الجديدة لهذا العام، ومن بينها كتاب الفيلسوف الألماني هيجل “جدلية التنوير والدين” ترجمة أبو يعرب المرزوقي.


النشر في مصر

«القاهرة تكتب، وبيروت تنشر، وبغداد تقرأ» هكذا عبر المثقف المصري لويس عوض عن واقع الثقافة العربية في ستينيات القرن الماضي، الذي شهد تحولا جذريا بعد صدمة يونيو 1967. هل لا زالت مصر حقا هي من يكتب والعرب يقرأون؟

شهد واقع الثقافة العربية في ستينيات القرن الماضي تحولا جذريا بعد صدمة يونيو 1967

يمكن أن نجيب على ذلك السؤال من خلال تتبع مسار دار الشروق الناشر المصري الأبرز. فقد أسسها محمد المعلم عام 1966، ليتابع عمله الذي بدأه في الأربعينات بكتاب للدكتور على مصطفى مشرفة قبل أن يعاني من التأميم. وقد برزت الدار كناشر لأعمال المفكر الإسلامي البارز سيد قطب، الذي طارت أعماله في الآفاق حاملة شعار الدار إبان السبعينات ومعها أعمال أخيه محمد قطب. وقد استمر هذا الحضور القوي للدار في الثمانينات والتسعينات من خلال نشر أعمال كتاب مصريين في مختلف المجالات. محمد حسنين هيكل وفهمي هويدي ومنير شفيق (الفلسطيني) في السياسة، والغزالي والقرضاوي وعمارة في الفكر الإسلامي، وزكي نجيب محمود وعبد الوهاب المسيري في الفكر والفلسفة، ومحفوظ وإدريس والحكيم في الأدب. ولكن مع انتصاف العقد الأول من الألفية الثالثة وقبيل الربيع العربي، صارت الروايات والأعمال الشبابية هي الغالب على إصدارات الدار بما يناسب السوق المصري والثقافة المصرية كذلك. وربما يكون هذا ما دفع أ. عادل المعلم إلى تأسيس مكتبة الشروق الدولية التي اهتمت بنشر الأعمال الفكرية الإسلامية للتيار الذي عرف بتيار الإسلام الحضاري، لاختلافه مع المسار الذي اختاره أخوه أ. إبراهيم المعلم.

تراجع كذلك حضور الناشرين المصريين كمكتبة مدبولي و دار نهضة مصر ومكتبة مصر (السحار) على الرغم من جودة ما يقدمونه من أعمال بأسعار معقولة.

وقد برز في مصر جيل جديد من الناشرين كدار ميريت و دار ليلى أخذ اتجاه الشروق في نشر الروايات والأعمال الأدبية والشبابية لروائيين مصريين مشاهير كأحمد خالد توفيق ونبيل فاروق ومحمد المنسي قنديل، وكتاب شباب كمحمد فتحي.

بقي إلى جوار ذلك ناشرون اهتموا بالتراث والكتب الدينية كمكتبة وهبة التي بدأت بنشر أعمال بارزة في تاريخ الكتابات الدينية المعاصرة كفقه السنة لسيد سابق وماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي. إضافة إلى ناشري درب الأتراك بالأزهر كالمكتبة التوفيقية و دار العقيدة الذين يمكن أن تجدهم في معرض الكتاب وتحصل منهم على كتب تراثية ودينية بأسعار زهيدة.


التنوير يولد من بيروت

ربما لم تعد مصر هي من يصدر الكتابة إلى العرب لكن بقيت بيروت مطبعة العرب تحتوي كثيرا من مشاريع النشر الكبرى على الرغم مما طالها من اعتداءات العدو الصهيوني. فبعد سنوات من سكرة الهزيمة، حاول عدد من المثقفين العرب إعادة النظر في المشروع الثقافي العربي، فتأسس مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عام 1975، حيث تجد أعمال المفكر العربي الأبرز محمد عابد الجابري وغيره من المفكرين العرب الكبار. وينشر المركز إصدارات المنظمة العربية للترجمة التي أثرت المكتبة العربية بترجمات دقيقة لأهم الأعمال العالمية في مختلف المجالات. كذلك برزت دار التنوير التي تميزت بحضورها في بلدان مختلفة هي بيروت ومصر وتونس، ونشرت ترجمات د. عبد الفتاح إمام للفيلسوف الألماني هيجل، كما نشرت كثيرا من الأعمال الهامة للمفكرين العرب خاصة المصريين منهم كنصر حامد أبو زيد وعبد الجواد ياسين.

لم تعد مصر هي من يصدر الكتابة إلى العرب لكن بقيت بيروت مطبعة العرب تحتوي كثيرا من مشاريع النشر الكبرى على الرغم مما طالها من اعتداءات العدو الصهيوني

من أبرز الناشرين القدامى الذين واصلوا عطاءهم دار الطليعة التي امتازت باتجاهها اليساري والقومي، وقدمت أعمالا هامة لأدباء ومفكرين كبار كغادة السمان (وهي زوجة الراحل د. بشير الداعوق مؤسس الدار) وغسان كنفاني ومحمد أركون.

دخلت على الخط منذ 2010،دار جداول في بيروت، التي بدأت إصداراتها بكتاب “الدين والهوية” للفيلسوف الموريتاني سيد ولد أباه، وقدمت ترجمات هامة قام بها الفيلسوف التونسي أبو يعرب المرزوقي الذي حصل على جائزة الشيخ زايد 2012 عن ترجمته لكتاب للفيلسوف الألماني هوسرل صدر عن جداول، وكذلك ترجمات الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني ونشرت كذلك عددا من أعماله. كما تنشر الدار بعض الأعمال في الفكر الديني بالتعاون مع مؤسسة مؤمنون بلا حدود.


التنوير المغربي

لفت الفكر المغربي النظر بشدة مع إعادة النظر في الثقافة العربية في السبعينات، وقدم مفكرين وباحثين من العيار الثقيل

لفت الفكر المغربي النظر بشدة مع إعادة النظر في الثقافة العربية في السبعينات، وقدم مفكرين وباحثين من العيار الثقيل، نجحوا في تصدر المشهد الثقافي العربي من أبرزهم: محمد عابد الجابري، طه عبد الرحمن، عبد الله العروي. وقد صاحب هذا الازدهار الثقافي بالطبع ازدهارا كبيرا في عالم النشر. فظهر المركز الثقافي العربي الذي تأسس كمكتبة في الدار البيضاء وتحول إلى ناشر في بيروت عام 1978، ونجح في تقديم أعمال عدد من أهم المفكرين العرب، كبرهان غليون وطه عبد الرحمن والعروي. ويعتبر المركز الثقافي العربي اليوم من أهم الناشرين العرب بما يقدمه من أعمال فكرية وأدبية تلاقي نجاحا كبيرا كرواية دروز بلجراد لربيع جابر التي نشرها المركز بالتعاون مع دار الآداب.


التنوير يهب من أوروبا

تأسست دار الساقي كمكتبة في لندن عام 1979، ولم تبدأ في النشر إلا عام 1990 حيث أسست لاحقا فرعا لها في بيروت سنة 1993. وقد نجحت دار الساقي في أن تحقق حضورا قويا حيث اهتمت بنشر الأعمال الفكرية التجديدية الجريئة والجادة لمفكرين وأدباء كبار كجورج طرابيشي وعادل ضاهر ، ومن جديدها في المعرض: تنظيم الدولة الإسلامية للكاتب البارز عبد الباري عطوان.

كما برزت دار الجمل التي تأسست في ألمانيا ثم أسست فرعها في بيروت، وقدمت العديد من الترجمات الجيدة عن الألمانية حيث تجد أعمال الفيلسوف الألماني نيتشه والأديب الإنجليزي صامويل بيكيت، وأعمالا أدبية وفكرية هامة لعبده الخال وعبد الله القصيمي ومحمد أسد (ليبولد فايس).


ظاهرة التجديد الإسلامي

من الظواهر البارزة في عالم النشر بعد الربيع العربي، ظهور عدد من الناشرين والمراكز التي اهتمت بتجديد الدراسات الإسلامية اعتمادا على أدوات العلوم الإنسانية المتطورة. ربما ظهرت إرهاصات هذا الاتجاه مع الشبكة العربية للأبحاث والنشر و دار المدار الإسلامي.

فالأولى قد نجحت في لفت الأنظار بشدة منذ 2007 بما تقدمه من أعمال هامة في مجال الدراسات الإسلامية والدينية وغيرها من المجالات الفكرية، خاصة ترجمة الكتب التي تقرب العلوم الإنسانية والمعارف الغربية، ومن هنا فإن المهتمين بتلك المجالات والمبتدئين فيها سيجدون بغيتهم فيها. كما لعبت الشبكة دورا كبيرا في توفير إصدارات مختلف الناشرين لدى فروعها، مما يعني أن بإمكانك الحصول على إصدارات الناشرين العرب حتى بعد انتهاء معرض الكتاب.

أما الثانية (المدار الإسلامي) فقد أخذت على عاتقها منذ أن ظهرت في مطلع الألفية تقديم دراسات علمية في التراث والفكر الإسلامي، فترجمت أعمال وائل الحلاق أستاذ الأديان البارز في الولايات المتحدة عن الفقه الإسلامي كما نشرت أعمال المفكر التونسي عبد المجيد الشرفي.

بعد الربيع العربي تأسس مركز نماء التابع لمؤسسة “الإسلام اليوم” الذي يديره الباحث السعودي البارز ياسر المطرفي، والذي قدم أعمال جيل جديد من الباحثين السلفيين البارزين. وقد سبق ذلك تأسيس مركز التأصيل الذي أصدر العديد من الأعمال الجادة في الفكر الإسلامي. وعلى خطى التأصيل ونماء ظهرت مراكز تكوين و تفكر. وربما يلعب الخلاف الفكري دورا في تعدد تلك المراكز، حيث تنتمي بعض تلك المراكز إلى تيارات ذات ميول سياسية يرفضها بعض الباحثين، كما أنها تتفاوت في مدى اقترابها من الخط السلفي التقليدي.

وفي مصر برزت دور شبابية تعمل في اتجاه قريب من هذا، أبرزها:مدارات، وتنوير. والتي جذبت إصداراتها المؤلفة أو المترجمة نظر قطاع كبير من القراء والمثقفين والشباب، واستطاعت أن تحصد إعجابا وتقديرا واسعا في وقت قصير، إضافة إلى دار القمري والتي أخذت اتجاها إسلاميا راديكاليا يهتم بإثراء الوعي السياسي للحركة الإسلامي

ينضم هؤلاء إلى ناشري الكتب الإسلامية الكبار كدار السلام و مؤسسة الرسالة و دار النفائس و دار ابن حزم.

فإذا كنت من الباحثين عن الأعمال الجادة في مجالي الدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية فأنت على موعد مع كل هؤلاء الناشرين في معرض القاهرة.


مراكز الأبحاث

من الظواهر البارزة في عالم النشر بعد الربيع العربي، ظهور الناشرين والمراكز التي اهتمت بتجديد الدراسات الإسلامية اعتمادا على أدوات العلوم الإنسانية المتطورة

إضافة إلى مراكز الأبحاث التي سبقت الإشارة إليها ضمن محاولات تجديد الدراسات الإسلامية، برزت مراكز أخرى في مجال السياسة على غرار مراكز الأبحاث التي تساعد صناع القرار في الولايات المتحدة ككارنيجي وراند. حققت قطر حضورا متميزا في هذا الشأن، حيث لفت المركز العربي للأبحاث بالدوحة الذي يديره المفكر البارز عزمي بشارة الانتباه بما ينشره من أعمال هامة كان آخرها ترجمة كتاب وائل حلاق “الدولة المستحيلة” فضلا عن أعمال بشارة نفسه وعلى رأسها كتابه الأخير متعدد الأجزاء “الدين والعلمانية”؛ بجانب مركز الجزيرة للدراسات.