ثم ما يُشبه الإجماع بين المسلمين على أن الأمة تواجِهُ اليوم صعوباتٍ جسيمة. كذا من المفهوم على نطاقٍ واسعٍ أن جذور هذه الصعوبات يُمكِنُ العثور عليها في تاريخنا، وتحديدًا في تاريخنا المبكِّر. إلا أنه ثم اتفاقٌ محدودٌ على الإجراءات التقويمية. إذ يعتَقِدُ بعض المسلمين أن الأحزاب السياسية الإسلامية، والتي تُشارِكُ في الانتخابات، التي تُنظِّمُها الأنظمة العلمانية المهيمنة على البُلدان المسلمة حاليًا؛ يُمكن أن تُثمِرُ نظامًا اجتماعيًا-سياسيًا إسلاميًا. ويحتج آخرون لصالح التغيير الثوري، لكن كيفية تحقيق ذلك تظل غير واضحةٍ في تصوّراتهم. إن فهمًا أفضل للماضي، وللأخطاء التي ساهمت في تشكيل حاضرنا؛ لهي مُتطلَّبٌ أساسي يسبِقُ الفعل التقويمي للمستقبل.

إن هؤلاء الذين قَبِلوا قيمًا من خارج دائرة الإسلام لا يُتوقَّعُ منهم أن يكونوا قادرين على قيادة الأمة للخروج من مُستنقَع مشكلاتها السياسية والاجتماعية

وفي الورقة التي عنوانها: «تقويم الفكر السياسي الإسلامي»،[1] والتي نُشِرَت للمرة الأولى في 1989م؛ يلجأ الدكتور صديقي لمُقاربةٍ تاريخيةٍ لفهم الإشكالية الفكرية الأساسية التي تواجهُ المسلمين. إذ كان رحمه الله من بين القلائل من الدارسين المسلمين للحقبة الحديثة، الذين كانوا قادرين على الرؤية خلال ضباب التشوّش، وطرح رؤى تُعيننا على فهم ماضينا وتقترح طُرقًا للسير قُدمًا. وهو يبدأ مُقرًا أن الانحراف داخل الإسلام هو خطأ تراكم عبر فترة زمنية طويلة،[2] وأدى لنتائج غير مرغوب فيها. وبما أن الإسلام هو الحق الكامل الذي لا يأتيه الباطل، فهو من ثم عفيٌّ بما يكفي ليُنتج أجوبته الخاصة للأمراض التي تنخرُ المجتمع. وقد اضطلع بهذه الوظيفة، في الماضي؛ سلسالٌ من الأنبياء أرسلهم المولى سُبحانه وتعالى إلى شعوبٍ شتى على الأرض. ومع ختم الرسالة النبوية بخاتم رُسل الله؛ وقعت هذه المهمة على عاتق الأفراد والحركات يحدوهم الإسلام. إن «فعل» تأسيس الدولة الإسلامية هو نهاية عملية طويلة من التصحيح بين هؤلاء «الضالين» من ذراري المسلمين. وهذه نقطة حاسمة لفهم مسارات الخطأ والانحراف والتقويم في صفوف المسلمين. إن هؤلاء الذين قَبِلوا قيمًا من خارج دائرة الإسلام لا يُتوقَّعُ منهم أن يكونوا قادرين على قيادة الأمة للخروج من مُستنقَع مشكلاتها السياسية والاجتماعية، التي تسبَّب بها الانحراف عن الإسلام؛ وهُم بالتالي، ومن منظور الدكتور صديقي؛ غير مؤهلين ليطرحوا أية حلولٍ أو ليحكموا عالم المسلمين.

وبعد إيجازه للإطار النظري، يمضي رحمه الله في تفحُّص الخبرات التاريخية شديدة التنوع للتقليدين الكلاميين والفكريين الرئيسيين في الإسلام منذ تاريخه المبكِّر: السُنة والشيعة. ففي حين ظلَّ السُنة جامدون عقليًا بسبب فشلهم في مُباشرة عملية تقويم لأخطائهم التاريخية، وهو ما يمكن شهود نتائجه في أكثر البُلدان المسلمة؛ فقد نجح شيعة إيران في إشعال ثورةٍ إسلامية يقودها العلماء، وتهدِفُ لإعادة تأسيس نظامٍ اجتماعيٍ-سياسيٍ إسلاميٍ في البلاد. ويُمحِّص الدكتور صديقي تجربة الثورة الإسلامية ليس من خلال منظور الطائفية الضيق، بل يُعيدُ النظر فيها على رُقعة التاريخ الأرحب. فهو من بين الدارسين القلائل الذين تجاوزوا الحواجز المذهبية، بعدم الاعتماد على مصادر جانب واحد فحسب؛ ومن ثم فهو يتعامَل مع الأدبيات الشيعية والسُنية بتحرُّرٍ مُتساوٍ، مُعتبرًا إياها صالحة ومُعينة بذات الدرجة. وهذا تحوّلٌ تجديديٌ عن أطروحة كثير من الباحثين، الذين درجوا على خلاف ذلك؛ فصاروا غير قادرين على تجاوز المنظور المتعيّن والضيق لمذهبهم الإسلامي. إن الخطأ الذي يقع فيه أكثر المسلمين -من كل المذاهب- هو افتراضُهم أن فهمهم الخاص للإسلام يُجسِّدُ حقيقة دين الله بجُملته. وهذا النهج الضيق الأفق هو أعظم أسباب الشقاق والصراع داخل الأمة.

ويُلمِحُ الدكتور صديقي إلى حتمية البحث عن جذور الثورة الإسلامية ليس في إيران المعاصرة، بل في الرفض الشيعي المبدئي لشرعية بني أمية السياسية؛ إذ حالوا الخلافة الراشِدة إلى مُلكٍ عضوض. أما السُنة، فبدلًا من أن يعتبروا ذلك إهدارًا للشرعية؛ فقد اعتبروه محض تدهورٍ في جودة خصائص القيادة، وأنه سيتم تدارُكه وعلاجه بمرور الوقت. وقد كان هذا ضلالًا بينًا كرره السُنة وراكموه مُتراكبًا عبر التاريخ الإسلامي، ليؤدي للضعف المُهلِك للأنظمة السياسية الإسلامية، وهو ما آل لاحقًا للانحطاط السياسي للأمة. ويُمكن تتبُّع نتائج ذلك في الاضمحلال الأخلاقي والسياسي في المجتمعات المسلمة، ناهيك عن ظهور القوى الكولونيالية لتُهيمن على دار الإسلام. وهكذا يصير ظهور الدول القومية المسلمة ما بعد الكولونيالية محض وسيلة هيمنة جديدة في صورةٍ مُختلفةٍ.

وقد ابتلع الشيعة قفرٌ سياسي، بُعيد رفضهم للمُلك العضوض؛ حتى انتصار تيار العلماء الأصوليين على خصومهم الإخباريين منتصف القرن الثامن عشر الميلادي. وقد كان مناط خلاف التيارين تفصيلٌ تقني، إن جاز الوصف؛ إلا أن أثره كان عميقًا على الفكر السياسي الشيعي. إذ اعتصم الإخباريون بـ«عدم جواز استخدام علماء الدين للاجتهاد بالرأي لبلوغ حُكمٍ شرعيٍ مُعيَّن» في ظل غيبة الإمام الثاني عشر، ومن ثم كان أقصى ما يُمكنهم عمله هو اللجوء للمدوَّنة الحديثية، ليستقوا منها الإجابات. أما الأصوليون فقد احتجوا لصالح الاجتهاد المستقِل، مؤكدين على أن هذه الوظيفة يُمكن لعلماء الدين المؤهلين (مراجع التقليد) الاضطلاع بها. وقد تبلور تقليد المرجعية وفُتحت أبواب الاجتهاد بعد انتصار الأصوليين. ويَعتبِرُ الدكتور صديقي أن هذه كانت أول خطوة تصحيحية في الفكر السياسي عند الشيعة.

يحتج الدكتور صديقي بأن فعل تأسيس الدولة الإسلامية يبدو ضروريًا للانتقال الناجع إلى دور «أداة التصحيح المركزية»، تمهيدًا للقضاء على الضلال والانحراف.

وما دامت المرجعية لم تُجرِّب ممارسة السلطة السياسية المباشرة، فلم يكن ثم حاجة لظهور مرجعٍ وحيدٍ في منصب القيادة. وفي حين تمتَّع المراجع بتأثيرٍ هائلٍ على الجماهير، فقد اعتبروا أن وظيفتهم هي مُجرَّد الحد من عدم مشروعية الحكام في ظل غيبة الإمام الثاني عشر. إلا أن هذا قد أدى ثانيةً لتراكُم نتائج غير مقبولة، واضطرهم إلى مسارٍ تصحيحي ثان: تأسيس الدولة الإسلامية برغم غيبة الإمام الثاني عشر. وقد كان النهج الذي تأسست من خلاله الدولة هو: الثورة الإسلامية.

ويحتج الدكتور صديقي بأن فعل تأسيس الدولة الإسلامية يبدو ضروريًا للانتقال الناجع إلى دور «أداة التصحيح المركزية»، تمهيدًا للقضاء على الضلال والانحراف. وهو يستَدِلُّ على ذلك من السيرة النبوية نفسها، على صاحبها أفضل السلام. فخلال حياته صلى الله عليه وسلم في مكة؛ أسلم على يديه عدد محدود نسبيًا، أما بعد تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة؛ فقد انتشر الإسلام بسُرعةٍ في شبه الجزيرة العربية. ليُشدِّد الدكتور صديقي على أن «الإسلام مَنقوصٌ بغير الدولة الإسلامية»، وأن الإسلام ليس محض «رسالة» بل هو كذلك «منهجٌ»؛ الأمر الذي غاب للأسف عن أكثر الأحزاب السياسية الإسلامية.

عودةً إلى فرضيته الرئيسة، أن حتى الخطأ البسيط سيقود إلى نتائج غير مقبولة؛ يدرُس الدكتور صديقي بعدها آثار فتوى آية الله الخميني الصادرة في يناير/كانون الثاني 1988م، والتي تنُصُّ على أن سُلطة الدولة الإسلامية تسبِقُ في الأولوية المبادئ الفرعية للإسلام. هذه الفتوى أملتها القيود المفروضة على سُلطات الدولة الإسلامية في ظل غياب صلة مفاهيمية مُباشِرة مع دولة الرسول في المدينة. وما لم تكن الدولة الإسلامية في إيران استمرارًا لتلك الدولة الإسلامية الأصلية في المدينة؛ فلن يعود بمقدورها ممارسة سُلطتها في عدد من الأمور الحيوية. وبهذه الفتوى، دفع الخميني بالفكر السياسي الشيعي إلى مسافة لا تبعُدُ سوى عقود معدودة عن دولة الرسول في المدينة؛ مُحررًا المسلمين من عبء الأخطاء المتراكمة لتاريخهم. كذلك اقتربت الفتوى كثيرًا بإدراك آية الله الخميني للدولة الإسلامية -بناءً على التجربة التاريخية الشيعية- من الفهم السُني الكلاسيكي للخلافة. وللأسف، فأكثر العلماء السُنة قد فشلوا في إدراك هذه المسألة، إذ غاب عنهم ذلك الفهم خلال قرونٍ من شرودهم في القفر نتيجة انحرافهم عن حقيقته. إن الدولة الإسلامية لا تكون سُنية أو شيعية، طبقًا لرؤية الدكتور صديقي؛ فهي إما دولة إسلامية أو غير إسلامية. وهذا هو الدرس الهام الذي نٌفيدُه من فتوى الخميني في عام 1988م، بحسب الدكتور صديقي.

وفي حين ينعي غياب هذا الإدراك بين علماء السُنة، وقبولهم الجاهز لرعاية حُكَّام مشكوك في أهليتهم؛ فإن الدكتور صديقي يُحذِّرنا من أية فرقةٍ تقع فريسة للادعاء الساذج بحيازتها لحقيقة الإسلام كاملةً، فضلًا عن دعوته كلًا من علماء الشيعة والسُنة لاهتبال الفُرصة التي تُتيحها الثورة الإسلامية ليُسهموا في إحداث تغييراتٍ مُماثِلةٍ في بقاعٍ أخرى من العالم. وهو يُحذِّرُ من أنه إذا لم تقع ثورة أخرى في موضعٍ آخر خلال الخمسين أو المئة عامٍ القادمة؛ فسيتعيَّن كذلك اعتبار الثورة الإسلامية هي الأخرى مُجرَّد نجاحٍ جُزئي، ومن ثم يصير الواجِب تصحيح الأخطاء التي انطوَت عليها لتكرار إنجازها في مكان آخر. إذ التاريخ هو الاختبار الحقيقي لأية فرضية، كما يرى صديقي؛ فهو لا يُحابي أحدًا. إن خطأً صغيرًا قد يؤدي، على مدى زمنيٍ مُمتد؛ إلى انحرافٍ كبيرٍ يُثمر نتائج غير مقبولة. وبتنازُلهم للمُلك الجبري؛ سمح السُنة لهذا الخطأ بأن يحدوهم إلى انحرافاتٍ عظيمة في الفكر السياسي الإسلامي. ويُمكن تتبُّع آثاره المدمِّرة في الدول القومية ما بعد المسلمة، المُبعثرة على وجه ديار الإسلام.

هذه الأفكار ما زالت اليوم بنفس جدَّتها التي كانت عليها إبان الإفصاح عنها للمرة الأولى في 1989م. إن الفهم الواضح للواقع ضروري لتدشين عملٍ تصحيحي. ويتعيَّن أن يتجذَّر إدراكنا للعالم في المعرفة الإلهية، والتي تُجسِّدُها السنة والسيرة النبويتان على صاحبهما أفضل الصلوات. إن نهجه صلى الله عليه وسلم هو النهج الوحيد لتحقُّق رسالته. والدكتور صديقي يدعونا لتقييم أفعالنا في ضوء سيرة النبي.[3] وسيعتمد نجاحنا على مدى قُربنا من سيرة الرسول، وهؤلاء الذين ينحرفون عنها إنما يدعون إلى الهلاك. وباستثناء الدولة الإسلامية في إيران؛ تبدو الأمة المسلمة مُثقلةً بإثم إهمال واجباتها الإسلامية والتاريخية. لكن حتى الثورة الإسلامية نفسها ستظل نجاحًا جُزئيًا فحسب، ما لم تتكرَّر مسارات التصحيح والتلاقي في أجزاءٍ أخرى من الأمة.

إن هذه الورقة توجِزُ الخطوط العريضة لفهم الدكتور صديقي للتاريخ الإسلامي، والذي تطوَّر عبر عدَّة عقود ليُمثِّل جوهر أفكاره السياسية. وبالنسبة للمسلمين الذين يُجاهدون في كل مكانٍ للتغلُّب على الإشكاليات السياسية والاجتماعية التي تواجهنا؛ فإن هذه الورقة تعرِضُ رؤى وأفكارًا مُحفِّزةً، ومُقترحات للصياغة المفاهيمية لهذه الإشكاليات. إنها مفيدة بالذات لهؤلاء المنتمين إلى القسم «السُني» من الأمة، بما أنها تضع الثورة الإسلامية في إيران في السياق الأرحب للتاريخ الإسلامي، وتمنحهم الفرصة لاستيعاب جوهر الخبرة خارج السياق الشيعي للتجربة الإيراني المُتعيِّنة. وبهذه الوسيلة فحسب سيتمكَّن السُنة من تنفيذ عملياتٍ تصحيحية مماثلة على فهمهم التاريخي والسياسي. إنما مثل فكر الدكتور صديقي -كما توجِزُهُ هذه الورقة وكما يتبدَّى في بقية كتاباته- كمثل خارطة طريقٍ تحدونا للخروج من هذا الدرب المسدود الذي يُجسِّدُ أزمتنا التاريخية المعاصرة.

بوسعنا استخدام هذه الورقة لتغيير مُستقبلنا، أو تجاهُلها لنُبقي على وضعنا الحالي؛ نُسامُ الذُل والخزي في مُستقبلٍ منظور.


[1] تُنشَر ترجمتنا للورقة هذا الشتاء (2016-2017م) إن شاء الله في سلسلة مراصد، والتي تُصدرها وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندرية. وهي تتوفَّر للقراءة والتحميل على موقع المكتبة الإلكتروني. (المعرِّب)[2] المقصود بطبيعة الحال هو انحراف فهم المسلمين، بتطاول الأمد؛ وليس انحراف تعاليم الإسلام نفسها. وإنما يُعبِّر المؤلف أحيانًا عن الفكر الإسلامي بـ«الإسلام»، وهو ما لا نوافِقهُ عليه وإن كنا لا نرى غضاضة في نقله كما هو. (المعرِّب)[3] يتجلى فهم الدكتور صديقي للسيرة النبوية في الورقة التي عنونها: – Political Dimensions of the Seerah, London, The Institute of Contemporary Islamic Thought, 1998. وهي قيد النشر حاليًا لنفس المُترجم.