لم تكن تعلم بريطانيا أنها تدق طبول ثورة كبرى عندما اعتقلت سعد زغلول ورفاقه 8 مارس 1919، ونفتهم إلى جزيرة سيشل، فبسرعة هائلة توسعت الاحتجاجات الشعبية في القاهرة والأقاليم، ورجّت الهتافات أرجاء مصر: يحيا سعد، يحيا الاستقلال.

شاركت كل فئات المجتمع في هذا الحدث الضخم، فتظاهر طلبة الجامعة، المحامون، وأضرب الطلبة في المدارس، وسائقو الترام والأتوبيس والتاكسي، وخرجت سيدات مصر لابسات «اليشمك والحبرة» يهتفن لمصر، وسقط العديد من الشهداء، وأقام الاحتلال محاكمات فورية قضت بالسجن والجلد على المتظاهرين دون جدوى.

وسرعان ما اندلعت الثورة في الأقاليم بشكل لم يكن يتوقعه ولا يحلم به أحد، فخرج الفلاحون من الحقول واقتلعوا خطوط السكك الحديدية في طنطا وغيرها، وأصبح السفر متعذرًا إلا بالمراكب في النيل والتُرع، وفي الفيوم هجم الأهالي على مراكز البوليس ودارت معارك عنيفة خلفت ما يزيد عن 400 قتيل وجريح، وفي الصعيد حاصر الأهالي الإنجليز في المدارس وفي أقسام البوليس، لدرجة أن طائرات الإنجليز قصفت أسيوط بالقنابل فلم يتراجع الناس.

وفي «زفتى» كانت قصة نضال أخرى، وثقها أحمد بهاء الدين في كتابه «أيام لها تاريخ»، فيحكي أنه عندما اندلعت الثورة في القاهرة لم يكن في قلب زفتى إنجليز ليقاتلهم الفلاحون، كما أن الأهالي في القرى المجاورة كانوا قد قطعوا خطوط السكك الحديدية، فتعذر السفر للقاهرة للمشاركة في النضال ضد الاحتلال.

ولكن زفتى كانت تنتظر حدثًا أكبر، حيث أعلن بطلها الثائر يوسف الجندي في 23 مارس 1919 استقلالها ورفض الخضوع لأي سلطة أخرى، وليأتِ الإنجليز إلى المدينة الثائرة بدلًا من أن يذهبوا إليهم.


يوسف الجندي.. بطل قصة الاستقلال

ليست المرة الأولى التي يعلن فيها الثائر يوسف الجندي تمرده على الاحتلال البريطاني، ففي 1914 فُصل من كلية الحقوق بعد تحريضه الطلبة على الإضراب احتجاجًا على إعلان الحماية البريطانية على مصر عقب اندلاع الحرب العالمية الأولى.

ولمع اسمه مع بداية حركة الوفد في جلسات «جروبي» الثائرة ولقاءات حديقة بيت الأمة وخُطبه العنيفة على منبر الأزهر، فعرفه سعد زغلول ورفاقه ثائرًا.

أعلن «الجندي» تشكيل لجنة للثورة من بعض الأعيان والأفندية والمتعلمين والتجار الصغار، أمثال: عوض الكفراوي، الشيخ مصطفى عمايم، إبرهيم خضر الدين، إدمون بردا، محمد السيد، محمود حسن. واتخذت لجنة الثورة مقرًا لها في قاعة واسعة بالدور الثاني من مقهى يملكه يوناني عجوز اسمه «مستوكلي».


كيف سيطرت السلطة الجديدة على زفتى؟

قررت لجنة الثورة إخضاع مركز السلطة الفعلية لها بالاستيلاء على مركز البوليس، وزحف الجندي على رأس مظاهرة ضخمة من الرجال والصبية، ومنهم من كان يحمل بنادق قديمة فيما تسلح آخرون بالعصى وفروع الأشجار والفئوس، التي لم يكن لها جدوى في واقع الأمر بعد أن رّحب مأمور المركز إسماعيل حمد، ومعاون البوليس أحمد جمعة، بالمظاهرة، وسلمّا المتظاهرين المركز والسلاح وقيادة الجنود والخفراء.

ثم عرض المأمور خدماته على يوسف الجندي كمستشار للدولة الوليدة بحكم خبرته الإدارية والأمنية، وبالفعل وافق الجندي، وأنزلت اللجنة العلم الذي كان يُرفع على المركز، ورفعت بدله علمًا آخر وطنيًا، إيذانًا بإعلان الاستقلال.

بعد ذلك اتجهت المظاهرة إلى محطة السكة الحديدية واستولت على العربات التي كانت واقفة مشحونة بالقمح تنتظر إرسالها إلى الإنجليز، كما استولت على التلغراف.

وبات على الدولة الجديدة أن تواجه مشاكلها الداخلية، فجمع الجندي الأعيان ودعاهم إلى التبرع ليصبح لزفتى خزائن تستوعب كثيرا من العمال الذين تعطلت حياتهم لظروف الثورة، فلا يتجهون للسرقة والنهب، واستخدم هذه الأموال فعلًا ليوجههم بها إلى بعض الأعمال المفيدة.

وردم الأهالي البرك والمستنقعات التي تحيط بالقرية، بعد أن يئسوا من مطالبة الحكومة بردمها سنين طويلة، كما ردموا الشوارع التي كانت تنشع بمياه الفيضان، وأصلحوا الجسور القريبة، ومن الطريف أن الدولة الوليدة أقامت كشكًا خشبيًا على ضفة النيل لتعزف فيه الموسيقى، برغم هذه الأجواء الثورية.

وجنّدت لجنة الثورة كل التلاميذ والمتعلمين بالقرية وقسمتهم لفرق، فرقة تقوم بدوريات مستمرة لحفظ الأمن، وفرقة تراقب الحدود لتمنع تسريب مواد التموين أو دخول الجواسيس، وفرقة تشرف على عمليات الري وتزويد الأرض بالماء، واستخدمت اللجنة مطبعة كان يملكها محمد أفندي عجينة في التواصل مع الجمهور، فأخذت تطبع قرارات وأخبار اللجنة وتوزعها على الناس.

في ذلك التوقيت كان الإنجليز أذعنوا بالفعل للثورة، وأعلنوا إطلاق سراح سعد زغلول ورفاقه، وسمحوا لهم بالسفر لأوروبا والمطالبة بالاستقلال، ولكن ظلت زفتى ثائرة.


بريطانيا تواجه زفتى

طارت أنباء الدولة الجديدة إلى القاهرة، وعبرت البحار إلى لندن، وكتبت «التايمز» البريطانية عن قرية زفتى التي أعلنت استقلالها، ورفعت على مبنى المركز علمًا جديدًا.

وفي كتابه «ثورة 1919.. تاريخ مصر القومي من 1914 إلى 1921»، يقول عبدالرحمن الرافعي: «لما ترامى نبأ هذه القرية بعد إعلانها الاستقلال، أنفذت السلطات الإنجليزية إليها قوة من الأستراليين لقمع الثورة، وحين اقتربت القوة من القرية أخذ الأهالي يحفرون الخنادق العميقة في الطرق الزراعية الموصلة إليها وخلعوا قضبان السكك الحديدية، فاستعدت القوة لمهاجمة القرية وصوبت إليها المدافع بعد احتلالها محلج «رينهارت» ومدرسة «كشك» على أطرافها».

وكانت لجنة الثورة قد أعدت منشورات باللغة الإنجليزية لمخاطبة الأستراليين، جاء فيها: «إنكم مثلنا، ونحن نثور على الإنجليز لا عليكم، والإنجليز الذين يستخدمونكم في استعبادنا يجب أن يكونوا خصومكم أيضًا»، وخرج المأمور إسماعيل حمد إليهم، وقال لهم: «الثورة في مصر كلها تهدأ، ومظاهرات الابتهاج حلت في القاهرة محل إطلاق النار، وأي طلقة ستحدث اشتباكًا، فإذا ظل الجنود معسكرين خارج زفتى، فلن يقع شيء من الناس»، فقررت الفرقة ألا تدخل القرية واكتفت بأن تبقى معسكرة على أطرافها.


وجلد الإنجليز عملاءهم!

استغل الخونة الوضع الجديد ومحاصرة الفرقة الأسترالية للقرية، فأرسلوا خطابات للسلطة في مصر، يبلغون فيها عن زعماء التمرد بزفتى، لكن المأمور إسماعيل حمد كان يدرك ألاعيبهم، فانفرد بهذه الخطابات في مقر التلغراف ليلًا وتخلص من كل رسائل الوشاية.

وأرسلت إنجلترا تعليمات جديدة للفرقة الأسترالية بمقتضاها تُسلم لجنة الثورة 20 رجلًا من أهالي زفتى لجلدهم عقابًا على العصيان، وانعقدت اللجنة لمناقشة هذا المأزق: هل تسلم عشرين رجلًا من أبنائها أم ترفض فتُهلك القرية تحت مدافع الإنجليز؟!

وبعد بحث طويل أخذت اللجنة باقتراح إسماعيل حمد، وسلمت 20 رجلًا بالفعل، ولكن من هؤلاء الخونة الذين كانوا يرسلون خطابات الوشاية إلى القاهرة، وجلدت الفرقة عملاء إنجلترا بدلًا من المتمردين.


زفتى تنتصر

تلقت الفرقة أوامر أخرى بتسليم يوسف الجندي، فطلب أعضاء اللجنة منه الهروب إلى مكان لا يخبر به أحدا، وبالفعل تسلل الجندي إلى قرية «دماص» المجاورة لزفتى، وقبض الجنود على بعض أعضاء اللجنة واحتجزوا شقيقه عوض.

لكنهم أطلقوا سراحه سريعًا عندما تأكدوا أنه لا يعرف مكانه فعلًا، وانسحبت الفرقة الأسترالية من زفتى، وظهر يوسف الجندي بعد ذلك بـ 15 يومًا يخطب في «جروبي» بالقاهرة، ويحرض على استمرا النضال.

وإلى اليوم لا يزال كشك الموسيقى الذي أنشأته «دولة زفتى» في مكانه القديم شاهدًا على تمرد القرية الثائرة، وقد حدث مرة أن فكرت إحدى الحكومات في هدمه، فاحتج أهالي زفتى بشدة، طالبين الاحتفاظ بأثر من آثار ثورتهم، أما قهوة «مستوكلي» – مقر انعقاد لجنة الثورة – فقد اندثرت مع الزمن، وقامت مكانها بعض المحلات التجارية.