«نعيمة» ماتت!

بعد مرافقته لها لأكثر من 30 عامًا رحلت نعيمة، فقال عنها عم محمد: «كنت أرى سعادتها في حركاتها، لقد حزنت وتألمت لفقدانها، وكان لدي أمل بأنها ستتعافى، لكنها ماتت وتركت في قلبي ألمًا… كنت أقضي بجوارها أكثر مما جلست مع عائلتي». لم تكن نعيمة زوجته أو حبيبته، بل كانت أنثى فيل أفريقي رافقها عم محمد في حديقة الحيوان بالجيزة.

هذه حكاية من ملايين الحكايات في جراب حكاوي حديقة الحيوانات الذي لا يزال مليئًا بالحكايات التي توضح ارتباط الحديقة بعدة أمور بعيدة عن الحياة البرية التي تميز طبيعة الحديقة التراثية، وهو ما يجعل الحديقة أيقونة أكثر تميزًا وثراءً للحكي والبحث. لذا فإننا سنأخذك في رحلة متنوعة مع حكايات من تراث الحديقة الذي لا يرتبط بالحيوانات بقدر ارتباطه بنا وبأمور أخرى.

أصدقاؤنا المستأنسون

ارقص لي يا فيل يا أبو زلومة وأديلك قرش… وأديلك قرش.
رجليك من تقلك مظلومة يا تخين يا أبو كرش… يا تخين يا أبو كرش.

لم يكن أحد يتهمنا بالتنمر على الفيل ونحن نغني هذه الأغنية؛ إذ كنا ننشدها بحب وفرح لصديق من أصدقاء طفولتنا الذي كنا نتسابق «علشان نأكّله في زلومته».

ربما تدفعك هذه الأغنية إلى استرجاع شعور طفولي حين تسمعها وأنت تتصفح ألبوم ذكرياتك، والصور التذكارية التي التُقطت لك بفيلم «كوداك» أو «فوجي» في عصور ما قبل الديجيتال والأندرويد، رافقتنا فيها حيوانات الحديقة، وكانت جزءًا من طفولتنا وذكرياتنا، قد تذكر الدببة هاني وعنتر ونيفين وسماح وعبلة، والشمبانزي لوزة ويويو وإنجي والبرنس وكوكو ومشمش ودودو، وذكر الزراف ياسو وأُنثاه سونسون.

قد ترتبط معهم بذكريات وقد لا ترتبط، قد لا تعرف أسماءهم، لكنهم تاريخ وأصدقاء طفولة لملايين المصريين، وبعض هذه الحيوانات قد رافقك أو رافق أولادك حين اصطحبتهم إلى الحديقة، بعضهم يزين ألبوم صورك الذي تخرجه على فترات لتتذكر طفولتك الجميلة وأنت «بتأكّل النعامة، أو الزرافة بتاكل من فوق راسك»، صورك في جزيرة الشاي وعند الجبلاية وداخل بيت الزواحف، كلها مجموعة من الذكريات التي لا تثير الحنين والنوستالجيا بقدر ما تشعرنا بأن طفولتنا كانت مميزة بلقاءات مباشرة مع الحيوانات.

في طفولتنا ربما لم يكن لدينا أماكن للتنزّه أشهر من الملاهي وجنينة الحيوانات، كانت زيارات عائلية سعيدة ومرحة ارتبطنا فيها بالحديقة وحيواناتها وتراثها، وخلقت بداخلنا ذكريات حية، وأسئلة فلسفية، وربما وجودية، من عينة: «مين بيتفرج على مين؟ إحنا اللي بنتفرج على الحيوانات ولا الحيوانات هي اللي بتتفرج علينا؟»، ربما ذلك لأن زيارتنا للحديقة لم تكن تتوقف على مجرد لقاء بيننا وبين الحيوانات، بل كان نوعًا من أنواع التفاعل مع «ناشيونال جيوجرافيك بتاعتنا».

«تعالوا نلعب حيوانات»

ربما تبالغ في مشاعرك وتساؤلاتك، ولا يتوقف الأمر عند مجرد اجترار الذكريات، لا بأس، سنبقى معك و«هيا بنا نأڤور»… هل قد يصل خيالك ومبالغتك إلى حد أن تتخيل نفسك مكان الحيوانات في القفص لتختبر شعورها؟ هل قد تصل إلى تلك المبالغة؟

كنت أود أن أخبرك أنك بالغت في تصورك، لكن هناك من سبقك وبالغ ونفّذ مبالغته، نعم… دخل القفص.

ففي عام 2015، خاض حازم حيدر وسماح حمدي تجربة غريبة، بتنفيذ معايشة لعدة ساعات داخل أحد أقفاص الحيوانات؛ بهدف توصيل رسالة مهمة إلى العالم، برفض العنف والحرب والإبادة، حيث تعاونا في عمل عرض بطريقة الفن المعاصر، وقدما تصورًا تخيليًا عن أن الحروب نجحت بالفعل في إنهاء السلالة البشرية إلا هما، فتم وضعهما في محمية طبيعة لحمايتهما من الانقراض.

سمحت إدارة الحديقة لهما بتقديم هذا العرض في بيت الكلاب مستخدمين دماً ولحماً كأشلاء لبقايا البشر، وعلّقا لافتة مماثلة للافتات الحديقة التي يُكتب عليها تسمية الحيوان وجنسه ونوعه، وفي خانة أسباب الانقراض كُتب: «لعدم التكيف مع المجتمع»، فكانت من أجرأ التجارب التي تقام داخل حديقة الحيوان.

الحديقة أرشيف استعماري؟

زارت فنانة أيرلندية حديقة الحيوان عدة مرات؛ لتجهيز معرضها الفني، الذي يشمل صورًا التقطتها لأقفاص الحديقة، والكهوف، لتظهر الحديقة في صورها بشكل يتماشى مع اهتمامها بتراث الاستعمار، اعتمادًا على التراث التاريخي لحديقة الحيوان الذي استحوذ على اهتمام الفنانة؛ فقد بُنيت في نهاية القرن التاسع عشر خلال فترة الاحتلال البريطاني، لذا فهي مليئة ببصمات مكانية تُعبِّر عن الاستعمار.

وفي زياراتها المتكررة إلى حديقة الحيوان جمعت الفنانة العديد من البذور المتساقطة، وبتتبعها لم تجد أيًا منها مصري الموطن، بل أتى معظمها إلى مصر عبر قناة السويس، من الهند والبرازيل ومدغشقر وشبه جزيرة الملايو وغيرها، وكجزء من عملها الفني والبحثي جمعت هذه البذور لعرضها في معرضها إلى جوار صور وفيديوهات للحديقة تجسد العلاقة بين حيوانات الحديقة وحارسها، ليقدم معرضها لفتة إبداعية تدعو إلى التفكير في تاريخ الحيوانات والنباتات بالحديقة، وكذا تاريخ الحديقة التي تعد معرضًا للثروة الاستعمارية، وأرشيفًا استعماريًا حيًا، ودليلًا على الهيمنة التي تم ترسيخها في المجالات السياسية والقانونية والاقتصادية والثقافية في العالم الطبيعي، وذلك بحسب رؤية الفنانة.

تراث أكاديمي ثري

كان ثراء الحديقة التراثي والهندسي محورًا للعديد من الدراسات الأكاديمية التي تناولت عدة جوانب للحديقة؛ لتؤكد أنها ليست مجرد إطار للحياة البرية، إنما تزخر جوانبها بقضايا ولمحات اجتماعية وبنائية وطبيعية متميزة، بصفتها إحدى أهم الحدائق والمتنزهات التراثية العالمية التي تتميز بطابع مصري.

أكدت ورقة بحثية بكلية الهندسة جامعة القاهرة أن المحافظة على التراث الثقافي في دول العالم الثالث الغنية تاريخيًا قضية معقدة، في ظل ما تواجهه الحدائق الحضرية التاريخية من تحديات مختلفة متعلقة بالإدارة والتقييم، بالرغم من كونها إحدى أهم الطرق المرنة للحفاظ على الذاكرة الجماعية، من خلال الطبيعة التاريخية المميزة لها.

وتحمل البلدان ذات الأهمية التاريخية -مثل مصر- سجلات لا حصر لها داخل حدائقها التراثية، لكنها مهددة من قبل عوامل الزمن، واحتياجات السكان، والنمو الحضاري، وقلة الوعي المجتمعي والرسمي، لذا تتم التضحية بالحدائق لتوفير الطلبات المعاصرة، في حين أنه يجب الحفاظ عليها كقيمة تاريخية وطبيعية، ليست كمبانٍ فقط، بل ككيان كامل.

وتناولت الورقة الحدائق كمُنتَج في المدن المصرية، يمكن تحليل وضعه ليصور تمثيلًا للسياق المحيطي، في ظل ما تعانيه الحدائق الحضرية في القاهرة من الافتقار إلى التخطيط والتصميم والإدارة المناسبة، والتقليل من أهميتها في جهود التمويل والصيانة، وعدم وجود نظام إدارة واضح ودقيق، وعدم توفر دراية للحفاظ على الحدائق وإدارتها، والجودة الرديئة المرتبطة بشكل مباشر بمسألة قلة الخبرة، وبالتالي فإن النتيجة تدهور ملحوظ. ولخّصت الدراسة المشاكل الرئيسية التي تواجه الحدائق الحضرية في القاهرة في ثلاث مشكلات أساسية: النقص في الكمية، وسوء التوزيع، وضعف الجودة.

وأشارت الورقة إلى أن حديقة حيوان الجيزة يعود تاريخ تأسيسها إلى عصر أسرة محمد علي، والذي يعد أبرز العصور المصرية فيما يتعلق بتصميم المناظر الطبيعية والتنمية الحضرية، وصُممت من قبل اثنين من مصممي المناظر الطبيعية الأكثر شهرة في القرن التاسع عشر، واحتوى تصميمها على عدة عناصر تؤكد القيم التاريخية والثقافية التي تتجلى في هذا العصر، بحيث لم تحتوِ حدائق الحيوان الأخرى على مثل هذا الثراء في التصميم والثقافة والتاريخ، لذا فإن تصميم الحديقة يمثل أهمية ثقافية وتاريخية كمتنزه وموقع تراثي يعد جزءًا من هوية مصر وثقافتها الاجتماعية والمحلية، وهو ما يدعو إلى دراسة ارتباط الحديقة بالمجتمع والتراث المصري، بالنظر إلى أن معظم المتنزهات في مصر يتم تجاهلها من الناحية العملية للمجتمع.

ورقة بحثية أخرى بعنوان «المتنزهات التاريخية المصرية»، أكدت أن البيئة المبنية في مصر كانت دائمًا محور البحوث الحضرية الوفيرة، ومع ذلك، فقد تم تقويض العنصر الطبيعي في النسيج الحضري للمدن المصرية، وفي مدينة تاريخية مثل القاهرة يتم توضيح طبقات التاريخ في حدائقها التي أُهملت وخضعت لتغييرات سلبية تحت ضغط مطالب استخدام الأراضي، إلى جانب العديد من التحديات الأخرى، التي جاءت على حساب الحدائق، بالرغم مما تحتويه من إيماءات ورموز نادرة من الجوهر الثقافي للعصر الزمني الذي صُممت فيه.

وأكدت الورقة أن الحدائق العامة والتاريخية تستحق الحفاظ عليها؛ إذ يمكن لهذه المساحات أن تغير القاهرة بشكل كبير، من كونها نسيجًا حضريًا كثيفًا خانقًا إلى تجربة حضرية جاذبة لمجتمعها.

وفي دراسة عن المتنزهات وحدائق الحيوان وأثرها على المجتمع المصري، تمت الإشارة إلى أن حدائق الحيوان تعد واحدة من المؤسسات الاجتماعية الأكثر شعبية، حيث تستضيف ملايين الزوار سنويًا، وهو ما يجعلها -في الوقت نفسه- أحد أهم مصادر الدخل، ولأن غالبية الزائرين من أبناء الطبقات المتوسطة والفقيرة، لذا فهي تعد ملتقى اجتماعيًا ثريًا للدراسات البحثية، والتجارب المختلفة، في ظل أنها توفر منفذًا لاختلاط الناس بالحياة البرية التي انعزلوا عنها بفعل نمو المدن والمجتمعات الحضرية.

وتوصلت نتائج الدراسة إلى أن أبرز مشكلات الحديقة تتمثل في عدم وعي الزائرين إلى حد كبير بدور حدائق الحيوان في الحفاظ على التنوع البيولوجي؛ لأن أسباب زياراتهم للحديقة تتعلق بالتسلية والترفيه بمشاهدة الحيوانات أو العمل في الحديقة وبيع المنتجات بها وممارسة أنشطة أخرى، وهو ما نتج عنه تلوث المياه وأقفاص الحيوانات، وإهمال الحياة النباتية، فضلًا عن ضعف خبرة الحراس والعمال والإداريين غير المتخصصين، وهو ما تسبّب في أن تكون مشكلات رعاية الحيوانات إحدى أكبر المشكلات التي تواجه الحديقة.

بالطبع لا يزال جراب الحكاوي مليئًا، ولا تزال جوانب الحديقة الأثرية مليئة بالقصص التي ستُروى يومًا ما؛ لتثبت أن الحديقة ليست مجرد طبيعة برية، إنما هي كائن حي عابر للأزمنة، لا يتأثر بالزمن بقدر ما يؤثر فيه، ويحافظ على وجوده وكيانه، كونه رمزًا اجتماعيًا وتراثيًا وأكاديميًا لم يكشف لنا كل أسراره.