تعد النرويج ضمن أعلى الدول في معدلات الانتحار وفقًا لأرقام منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية عام 2014. في نفس الوقت، فإنّ النرويجيين ضمن الشعوب الأكثر سعادة في العالم. على نقيض ذلك، نسبة الانتحار في الكويت كانت لا تتعدى 3%، وفي إيران كانت النسبة 5.3 من بين كل 100.000 شخص، بحسب بعض الدراسات.

كما نرى، هذا شيء عجيب. فعندما يكون المرء سعيدًا، فهو نظريًا لا يجب أن يفكر في الانتحار، لكن الأغرب أن ينتحر بالفعل. لماذا هذه المفارقة؟ ولماذا تنتحر الشعوب السعيدة؟

هناك عدة تفسيرات يمكنها أن تعطي لنا بعض الأدلة.

قلة الضوء

بحسب مقال نشرته BBC عام 2019، انخفض معدل الانتحار في فنلندا إلى النصف مقارنة بالتسعينيات. ومع ذلك، فإنه لا يزال أعلى من المتوسط ​​الأوروبي. فمثلًا، ثلث الوفيات بين من هم في سن 15-24 عامًا سببها الانتحار. وبحسب الباحثين إيفيند إيكبرج وإيرلند هيم، في مقالهما «لماذا لا ينخفض معدل الانتحار في النرويج؟»، لم ينخفض ​​معدل الانتحار في النرويج بين عامي 1995 و2015، على الرغم من أنّ هذه الدولة هي واحدة من أسعد دول العالم وتتمتّع بوضع اقتصادي أفضل حتى من الدول الإسكندنافية الأخرى.

إذًا، هو أمر واقع أن هناك نسبة انتحار عالية في الدول الإسكندنافية، أو على الأقل عال بالنسبة لبلاد تعتبر من أنجح وأسعد بلاد في العالم.

من ضمن الأسباب المقترحة لهذه النسبة العالية، هناك فكرة قلة الضوء. فجميع البلاد الإسكندنافية لديها من القواسم المشتركة شتاء حاد طويل، وخصوصًا غياب ضوء الشمس تمامًا أحيانًا في الشتاء. فمثلًا حسب موقع أتلانتيكو الفرنسي، قلة الشمس في البلدان التي يحل فيها الليل في الساعة 3 مساءً هو عامل كبير في زيادة حالات الاكتئاب وزيادة معدلات الانتحار.

هذا النقص في الضوء بسبب شتاء طويل يمنع ظهور الشمس تمامًا أحيانًا يمكنه أن يعزز مثلًا الاضطراب العاطفي الفصلي (SAD-Seasonal affective disorder)، وهو نوع من الاكتئاب تم وصفه في عام 1984 من قبل نورمان روزنتال وزملائه، يلي تتابع الفصول الأربعة، ومن أكثر أنواعه شيوعاً «كآبة الشتاء»، وتبدأ عادة في أواخر الخريف، وأوائل الشتاء. هذا النوع من الاكتئاب يصيب في السويد مثلا ما يقدر بنحو 8% من السكان، ويقال إن 11% آخرين يعانون من «كآبة الشتاء».

أيضًا، توصلت دراسة فنلاندية إلى أنّ قلة أشعة الشمس بين شهري نوفمبر/تشرين الثاني ومارس/آذار يؤدي إلى المزيد من حالات الانتحار ويؤثر على الرجال أكثر من النساء. فعلى حسب صاحبة الدراسة الباحثة ريا ريوهيلا: «كلما قل الضوء، زاد عدد حالات الانتحار».

إذًا، من الواضح أنّ قلة الضوء في تلك البلاد تؤثر بالسلب على الصحّة النفسية للسكان. ولكن الإنسان ليس كائنًا بيولوجيًا بحتًا، فهناك أيضًا – وخصوصًا – عوامل اجتماعية ونفسية واقتصادية تؤثر على نسبة الانتحار العالية في أسعد بلاد العالم.

معضلة المقارنة

من ملامح مجتمعاتنا، خصوصًا منذ صعود النمط الاستهلاكي داخل النظام الرأسمالي خصوصًا في المجتمعات الغربية، تقديس المقارنة مع الآخر، سواء كان ذلك على مستوى العمل أو المال أو العلاقات؛ الأمر الذي يؤدي إلى قياس سعادة الذات بالنسبة لسعادة الآخر.

فكما يقول ستيفن وو من كلية هاميلتون، نحن نحكم على سعادتنا من خلال سعادة الأشخاص حولنا. فإذا كانت السعادة لها طعم مرير في المجتمعات الطبقية البائسة، خصوصًا في مجتمعات العالم الثالث (كما يقول السياسي اليساري الفرنسي جان لوك ميلانشون: «كيف يمكنني أن أكون سعيدًا في محيط من البؤس؟»)، فبالعكس، أي فشل مادي أو فقر في بلد «سعيد» له طعم مرير أيضًا. فعلينا ألا ننسى أن البلاد الإسكندنافية «السعيدة» ترى نموذجها الاجتماعي يتآكل، خصوصًا منذ بداية هذا القرن في الدنمارك والسويد، مما ينتج فقرًا وبطالة خصوصًا لدى الشباب. صحيح أنه فقر وبؤس وبطالة أفضل إذا ما قورن بالجحيم الرأسمالي خارج الشمال الأوروبي، لكنه كافٍ لتحطيم الشخص وإشعاره بالفشل، بخاصة عندما يكون هذا الشخص محاطًا بأناس «أنجح» أو «أسعد» منه.

يتضح من خلال بحث تمّ على يد فريق من الباحثين الإنجليز والأمريكيين، أن هذه الظاهرة منتشرة أيضًا في بلاد أخرى من العالم الأول. يوضح هذا البحث مثلًا أن في الولايات المتحدة، في ولاية يوتا بالتحديد التي هي من الأوائل في استطلاعات الرأي عن الرضا عن الحياة، تحتل المرتبة التاسعة في معدل الانتحار بين الولايات. على العكس من ذلك، فإن ولاية نيويورك، التي تحتل المرتبة 45 من حيث الرفاهية لسكانها، لديها أيضًا أدنى معدل انتحار في البلاد.

وبعد بعض التعديلات الإحصائية تمت على يد الباحثين، لا تزال المفارقة قائمة. فمثلًا، تحتل هاواي المرتبة الثانية من حيث «الرضا عن الحياة»، ولكن معدل الانتحار فيها هو الخامس. أمّا نيوجيرسي، حيث لا تبدو الحياة جيدة، فهي على المرتبة 47 من حيث الرضا عن الحياة، تحتل أيضًا المرتبة 47 عندما يتعلق الأمر بمعدلات الانتحار.

إذًا، التعاسة الشخصية كما يقول أكثر بحث تم الاستشهاد به حول هذا الموضوع، في أسوأ حالاتها عندما تكون محاطًا بأولئك الذين هم نسبيًا راضون عن حياتهم. هذا ما يقترحه ستيفن وو، أحد المشاركين في البحث، وهو أن الأمر يتعلق بالمقارنة الاجتماعية، «فالأشخاص غير السعداء الذين يعيشون في جنة صغيرة يشعرون بتعاسة أكثر».

تفتيت المجتمعات

هناك ملاحظة حقيقية منتشرة منذ فترة في أوروبا، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهي أن الرأسمالية الغربية في وضعها الحالي لا تنتج إلا فراغًا حضاريًا قاتلا، وهذا في الغرب أجمعه.

فبالنسبة لمحللين سياسيين وأساتذة علم اجتماع كثيرين، الحضارة الرأسمالية – خصوصًا في مرحلتها الإستهلاكية – لا تنتج غير سوق ضخم وأفراد مفتتين لا يلعبون غير دور المستهلك لإعادة تدوير الآلة الرأسمالية ككل.

ولكن هناك أيضا مشكلة أخرى في المجتمعات الرأسمالية الاستهلاكية– خصوصًا الغربية – وهو أنّ النظام الرأسمالي الاستهلاكي «يطلب دائمًا من الفرد أن يكون سعيدًا»، على حسب الكاتبة أندريا داتري. فبالنسبة للكاتبة، تدهور جودة الحياة في البلاد الغربية الرأسمالية مع هيمنة «أيديولوجية السعادة الاستهلاكية» يجعل الوضع أسوأ.

فكما يقول الكاتب ميجال ترامبليه، مجتمع الاستهلاك يدفع أفراده إلى جمع أكبر قدر ممكن من الدخل، ولمعظم الناس سيحدث ذلك من خلال العمل المأجور. ثانيًا سيتم إنفاق هذا الدخل للشراء والاستهلاك. وهذا يشمل التسوق، أي تراكم المعرفة لمعرفة ما يجب استهلاكه. ثالثًا، سنوصل إلى مرحلة الاستفادة من البضائع التي تم الحصول عليها. ولكن، كما يلاحظ الكاتب، مفهوم المجتمع ككل، غائب من هذا التسلسل الاستهلاكي. ويؤكد الكاتب أن تلك الأنشطة ذات البعد المجتمعي، حتى إن كانت محل احتفاء في هذا نوع من المجتمع، تعتبر إضافية وليست ضرورية. ويستكمل ترامبليه: «وهكذا يرى أفراد هذا المجتمع أنفسهم محرومين من الشعور بالانتماء، مما يسمح لهم بتكريس أنفسهم في أول المطاف لاحتياجاتهم الخاصة».

وتؤكد الكاتبة:

امتلاك العقارات والاستراحة في فنادق فخمة في جزر ما والحصول على استهلاك غير محدود قريب جدًا من صورة السعادة التي تبنيها الرأسمالية، وهو أمر لا يمكن للغالبية العظمى الوصول إليه. ومع ذلك، فإن الشعور بالسعادة في الوقت الحاضر يرتبط أيضًا بتحقيق حالة نفسية عن قصد مرتبطة بالإنتاجية. كما لو كان الأمر متروكًا لنا لاختيار إذا كنا نعاني أو نكون بصحة جيدة.

وتستكمل الكاتبة: «تلك الوعود التي تمجد في السعادة تثبت في النهاية أنها بعيدة المنال تمامًا مما يؤدي إلى إستهلاك مخيف للأدوية النفسية». وبعيدًا عن استهلاك الأدوية النفسية في البلاد الغربية «الناجحة»، فنكتشف بفضل الكاتبة، أن بلدًا مثل اليابان قد أسست في فبراير/شباط الماضي وزارة للوحدة!

ونحن نتفق مع قول الباحثين إدجار كباناس وإيفا إلوز في كتابهما «السعادوقراطية: كيف تسيطر صناعة السعادة في حيواتنا» (Happycracy: How the Industry of Happiness Controls our Lives):

إن الاستعداد لعيش حياة سعيدة هو انعكاس للاستدعاء النيوليبرالي لعيش حياة يحكمها إرضاء الفرد لمصالحه الخاصة و إرضاء القدرة التنافسية.

فالسعي الدائم وراء سعادة مصنعة من قبل شركات التسويق لن تؤدي إلّا إلى تفتيت المجتمع إلى أفراد تعيسة لا تسعى إلّا إلى الاستهلاك ولا تلقي نظرة تعاطف أو تضامن واحدة لمن لا ينجح.

فكما قالت مارجرت تاتشر، وهي أول من بدأت بتطبيق المشروع النيوليبرالي على أرض الواقع: «لا يوجد شيء اسمه مجتمع». فتفتيت المجتمع إلى أفراد هو قلب المشروع النيوليبرالي.

إذًا، الصعود الشرس للنمط الاستهلاكي في الرأسماليات الأوروبية، مع تمجيد «أيديولوجية السعادة» كما تقول أندريا داتري، يضعف الرابط الإجتماعي ويساعد في أنواع معينة من الانتحار مثل «الانتحار الأناني» كما شخّصه مؤسس علم الاجتماع الحديث إميل دوركايم، حيث إنه كتب أن «الانتحار الأناني» يحدث عندما يكون هناك نقص في الاندماج الاجتماعي، ويكون المرء غير مرتبط بالآخرين بشكل كافٍ. هذا النوع من الانتحار موجود خصوصًا في المجتمعات الحديثة حيث إن الفرد له استقلالية قوية بالنسبة للمجتمع.

تعزيز وترسيخ النمط الاستهلاكي داخل المجتمعات الغربية يمكنه أن يؤدي أيضًا إلى ما يسميه دوركايم «الانتحار اللامعياري» (Suicide anomique). وهذا النوع من الانتحار يعكس الارتباك الأخلاقي للفرد وعدم وجود «بوصلة» اجتماعية، ويرتبط أيضًا باضطراب اجتماعي واقتصادي دراماتيكي. هذا النوع من الانتحار يحدث أيضًا عندما تكون هناك مستويات عالية من التوتر والإحباط. وما هو المجتمع الاستهلاكي إلا تعزيز الإحباط حتى تستمر دورة رأس المال. بالطبع توفيّ دوركايم قبل أن يرى النمط الاقتصادي لاقتصاديات القرن العشرين.

قلة الضوء، مشكلة المقارنة في عصر الرأسمالية والاستهلاك (خصوصًا في بلاد «سعيدة»)، تفتيت المجتمع بسبب نمط انتاج رأسمالي استهلاكي يشجع على الفردية والتفتت الاجتماعي، هذه بعض الأدلة التي يمكنها أن تشرح لنا لماذا تنتحر الشعوب الإسكندنافية السعيدة.

أيضًا، علينا أن نؤكد أنّ مشكلة الانتحار والاكتئاب والاغتراب هي مشاكل حقيقية في تلك البلاد، حيث إن فنلندا مثلا أسّست حملة منع الانتحار على الصعيد الوطني في التسعينيات لتقليل نسبة الانتحار الذي وصل لذروته في تلك الفترة.

ولا يمكننا القول إن الشعور بالاكتئاب والاغتراب هي ظاهرة قديمة في هذه البلاد، وأن الوضع قد انتهى الآن. ففي الفيلم الدنماركي الهولندي «جولة أخرى» (Another Round) – إنتاج 2020، يرصد الفيلم حالة الاغتراب والاكتئاب المعاشة في البلاد السعيدة حيث يروي قصة أربعة دنماركيين يهربون من إحساس الملل عن طريق استهلاكهم المفرط للكحول.

بالطبع ليس الكحول حلًا لأي شيء، لكن إذا كان الكحول منتشراً بهذه الطريقة، في بلاد الشمال السعيدة والجنوب التعيسة، فلا بد إعادة التفكير في فكرة السعادة نفسها، وفي نمط إنتاجنا وطبيعة علاقتنا الاجتماعية ونمط استهلاكنا. فكما يقول جي ديبور:

إلى جانب العمل، فإن الاستهلاك يجعل الرجال مغتربين أيضًا. فبدلاً من أن نعيش رغباتنا، نتبنى دون وعي تلك التي يفرضها علينا المجتمع الاستهلاكي، من خلال الإعلانات.