في واحد من أحلك أزمنة مدينة موسكو وروسيا بأسرها، وحيث عاش الرجل الذي يبدو أنه السبب الرئيسي في تعاسة حشود البروليتاريا، تدور الحكاية، إنها حكاية الكونت «أليكسندر إلييتش روستوف»، الذي يبدو أن حظ الأمة كله قد اجتمع له، فقد استطاع العيش كجنتلمان من العصر البائد في روسيا البلشفية المتقشفة الصارمة، حيث يمثل البقاء حيًا بحد ذاته نوعًا من الإنجاز!

هكذا يبدأ الحظ لعبته مع الكونت، مُنقذًا إياه من عدد لا بأس به من النهايات الميلودرامية المحتملة لحياته، كالإعدام رميًا بالرصاص أو النفي إلى الفراغ السيبيري أو الاختفاء، ببساطة، وكأنه لم يوجد يومًا على وجه الأرض. ويفتح له، في المقابل، بابًا جديدًا لحياة محدودة في جدران المتروبول وأبوابه، أفخم سجن فندقي في روسيا، حياة من الوحدة والملل ومخزون فائض من الكآبة… أو هكذا نظن.

كالطفل… محتفظًا ببشاشته

فجأة، يجد الرجل الأرستقراطي، صاحب الحسب والنسب نفسه في مواجهة نمط عيش جديد في غرفة واطئة السقف في علية الفندق بصحبة عدد بسيط من القطع المسموح له بالاحتفاظ بها من بقايا الإرث العائلي، محرومًا من فخامة الجناح السابق والممتلكات وترف الإطلالة.

في هكذا ظروف من افتقاد لكل أسباب العيش المريح، تظهر بواطن الإنسان، حين لا يكون الغنى بالمال أو الممتلكات وإنما بحقيقة النفس ومعدنها، حتى أن فكرة امتلاك خمسين عملة ذهبية مخبأة في أحد قوائم مكتب عتيق لن تشكل فارقًا يذكر! ربما كان الشيء الوحيد القادر فعلاً على إنقاذه هو النصيحة التي قدمها له والده في زمن غابر، حين تعلم منه مبدأين يبدو أن حياته الجديدة تشكّلت وفقًا لهما: «أن الإنسان إذا لم يقهر ظروفه فحتمًا ستقهره ظروفه، وأن أكبر دليل على الحكمة أن يحافظ المرء على بشاشته مهما حدث».

واستنادًا لهاتين الحكمتين، يمكن بقليل من الثقة وصف هذه الرواية بأنها حكاية رجل استطاع قهر ظروفه والاحتفاظ ببشاشته المعهودة، فحقق واحدًا من أكبر الإنجازات التي يمكن لإنسان أن يحققها في مثل تلك الظروف… أن يكون جنتلمان في موسكو، ليس بوسعه العيش فقط، وإنما الاستمتاع كرجل حكيم «يحتفل بما يستطيع»، أو كطفل من الأطفال الذين هم «بخلاف البالغين… لا يزالون يمتلكون القدرة على الاستمتاع بالحد الأقصى بأبسط الأشياء».

هدية الحظ

كان ألكسندر مؤمنًا بأن الحياة تضع الناس في منعطفات، حيث يتوجب تواجدهم فيها لهدف معين، وقد أمّنت الحياة على صحة اعتقاده هذا حين وضعت نينا في طريقه، والتي استطاعت بسنواتها السبع وكل ما فيها من البراءة وروح الطفولة أن تفتح له أبواب المتروبول السرية ومن خلفها الحياة، كاشفة له أن العالم لا يتوقف على ما نراه منه، وأن خلف الأجزاء المرئية دومًا ما يطالبنا باستكشافه، وأنه في الجانب الآخر من الأبواب الموصدة للواقع يمتد عالم لا نهائي من الخيال، مستعد دائمًا لاستقبال جموحنا وإرضاء رغباتنا الأكثر جرأة في المغامرة.

لكن، هل كانت نينا هي هدية الحظ للكونت، أم أنه هو من كان انعطافتها؟ تبدو معرفة ذلك على وجه التحديد شبه مستحيلة بالنظر للطريقة التي تقاطعت بها دروبهما وارتبطت بها مصائرهما، وربما ليس لهذه المعرفة أهمية من الأساس إن كان كل منهما قد استطاع بشكل عفوي ومُقدّر أن يمثل نقطة ارتباط الآخر بالحياة، والتي لولاها لم يكن ليجد سببًا للوجود من الأساس.

شخصية وردية!

ربما أصعب ما في الحكاية كان استيعاب شخصية الكونت، فالدرجة التي ظهر بها من السلاسة كانت في أفضل الأحوال مريبة، مرونته ولينه في مواجهة ظروف الحياة المتصاعبة كانت غريبة للدرجة التي تشكك في احتمالية تحققها، لدرجة أن صارت –بالنسبة لي- شخصية مرسومة بالكثير من الوردية.

كل ذلك تغير في اللحظة التي وقف فيها على حافة السطح، هناك حيث ظهر ألمه وسأمه وافتقاره للرغبة في مواصلة المحاولة؛ ظهر جانب النقص فيه، الجانب الأكثر تعبيرًا عن إنسانية الآدمي، وحتى الطريقة التي عاد بها عن الحافة وعدل عن قراره كانت في غاية اللطف والإنسانية.

لم يكن وقوفه ذلك سوى تعبير عن الحاجة الماسة لسبب أهداه الحظ إياه من جديد، وحين وجده لم يتردد لحظة في التمسك به. ربما الإنسان لا يطلب، ولا يحتاج من الأساس سوى اللطف، حتى أنه عند أبسط بادرة منه يكون مستعدًا لاستعادة الأمل في جدوى الحياة ومحاولة العيش فيها.

هكذا استعاد الكونت إيمانه بالحياة، بفنجان قهوة طازج وملعقة عسل تعبق برائحة ديار بعيدة. لم يكن الرجل طفلاً ولا مترددًا ولا انهزاميًا… كان ببساطة حالمًا، روحًا من زمن آخر لا تؤمن بمعجزات الحاضر ولا انتصاراته الكبرى ولا شعاراته الرنانة، وإنما باللطف المستتر في أدق التفاصيل وأصغرها… بالجمال في نقاء مكامنه وهدوئها… بجدوى أصغر الأفعال وأبسطها.

في ذلك المشهد تجلت لي شخصيته على حقيقتها، وأعتقد أنه حيث وقعت في حبه، فلسنا كل يوم نقابل رجلاً يجسد فكرتنا الخاصة عن الحياة وفلسفة عيشها.

والأجمل أن إيمانه ذاك كان أكثر رسوخًا من أن يتزعزع حتى أمام الاقتحام المفاجئ للحظ في حياته بصحبة طفلة لم تستطع –للمفاجأة- العبث بها، بقدر ما أضفت لها معنى، في رحلته لتعريفها بالحياة التي سبق أن عُرف بها يومًا، حيث اتسعت أمتار غرفته التسعة لتحوي الكثير من الحب والأصدقاء ولحظات السعادة والرضا والشقاوة بأكثر مما تضيق عنه مدن وعواصم بأكملها، كانت تلك الغرفة بالتحديد شاهدًا جليًا على عجز المستبد عن تقييد حرية إنسان، فما زالت روحه حرة وحالمة، سترتفع له الأسقف وتندفع الجدران مفسحة المجال للحياة.


إذن، هل كان روستوف ساحرًا؟

بالطبع لا. كان إنسانًا، لكنه بالتأكيد إنسان استثنائي، نجح فيما يفشل فيه ملايين البشر: محاولة أن يكون نفسه. هذه المحاولة التي سرد لنا الكاتب من خلالها حكاية بلد وأمة بأكملها قضت عقودًا واقفة في طوابير لا نهائية في انتظار أبدي لما لم تعرفه يومًا.