تثار الكثير من التساؤلات اليوم حول مستقبل الحدود القُطرية الحالية في منطقة الشرق الأوسط، وذلك بعد مرور حوالي المائة عام على ترسيمها. وتأتي هذه التساؤلات في ضوء الإنقسام الحاصل في العراق بين المناطق الخاضعة للحكومة المركزية في بغداد (ذات الأغلبية الشيعية)، والمناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد في الشمال، والمناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في الموصل وصلاح الدين والأنبار (وهي مناطق ذات أغلبية سنية). كما تأتي في ضوء التفتت الحاصل في سوريا، والحديث عن إمكانية قيام كيانات على أسس طائفية، كما في الحديث عن الدولة العلوية في الساحل، أو الحديث عن انفصال الدروز في الجنوب، أو على أسس عرقية، كما في حالة الأكراد في شمال شرق سوريا.

وقد جاء الحديث في الآونة الأخيرة عن إمكانية قيام مشروع توسعي للدولة الأردنية، بضمها للمناطق السنية من العراق، أو الدرزية من سوريا، ليلقي المزيد من الشكوك حول قدرة الحدود الحالية على الاستمرار والبقاء على ما هي عليه خلال السنوات و العقود القادمة.

حالة التشظي

إن أهم ما تثيره هذه الانقسامات الحاصلة وتكشف عنه هو المشكلات العرقية والطائفية التي تنطوي عليها وتتضمنها التقسيمات الحالية، حيث أن الأصل في التقسيم وخلق الكيانات الجديدة والغاية منه هو فض النزاعات، وضمان الاستقرار، ومنح الشعوب “حق تقرير المصير”، وإعطاؤها السبيل للاستقلال. وهو ما يبدو أنه لم توفره التقسيمات الحديثة في المنطقة لشعوبها، وهو ما تجلى في حالة التشظي العرقي، والديني، والقبلي، التي تعيشها المنطقة. حيث تشتمل اليوم على كل أشكال الانقسامات؛ فهناك الانقسام على أسس طائفية ودينية، كما في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وهناك الانقسام على أسس قبلية، كما في اليمن وليبيا. وهناك الانقسام على أسس عرقية، كما في “المسألة الكردية“.

هذه الحالة تدفع بنا الى اعادة التفكير بجدية في مدى فاعلية وجدوى الحدود المرسومة بموجب اتفاقيات ومعاهدات السلام في نهاية الحرب العالمية الأولى، لما تنطوي عليه من اختلالات ديموغرافية، هذا عدا عن الاختلالات الجغرافية، والتي لها انعكاسات اقتصادية، تتمثل في الخلل في توزيع الموارد والإمكانات[1].

مقارنة مع سياق آخر

لعل السبب الرئيس في مشكلة الدولة العربية المعاصرة يعود الى كونها قد جاءت مفصلّة، جاهزة، تم تقديمها وإنجازها من قبل المستعمِر، ولم تتشكل وفق صيرورات تاريخية، تتراكم فيها العوامل الإجتماعية والسياسية الاقتصادية المحلية والوطنية في بنائها وإنجازها. وهذا يحملنا للمقارنة مع نظيرتها في السياق الأوروبي؛ حيث جاءت الدولة هناك كتتويج وحل نهائي لسلسلة طويلة من الصراعات الأهلية والدولية، فجاءت كحل ووسيلة لإيقاف تلك الصراعات، وفي مقدمتها الصراعات الدينية، والتي استمرت من بداية القرن 15، وحتى منتصف القرن السابع عشر، حين تم توقيع معاهدة ويستفاليا عام 1648[2]، و التي تعتبر احدى أهم المراحل في بناء الدول القُطرية الحديثة في أوروبا؛ حيث استقل بموجبها عدد من الدول على أسس جديدة، فحلّت بموجبها الرابطة القومية محل الدينية.

وهكذا، فإن المبدأ الأساسي الذي قامت عليه الدولة الحديثة في أوروبا هو إرساء أسس المواطنة وحل مشاكل الصراع الديني[3]، وإن التاريخ الأوروبي هو تاريخ بناء الدولة. الدولة التي لم تكن وليدة لخطط ومشاريع تم إنزالها وفرضها من الخارج، بل نتاج لسلسلة طويلة من التحولات والتراكمات الداخلية.

الدولة القُطرية في السياق العربي

وعودةً إلى السياق العربي، وعلى خلاف نظيرتها الأوروبية، كانت الدولة العربية الحديثة كيانا وليدا للاستعمار، لم يتم بناؤه بشكل تدريجي، بل قُدمت كدول جاهزة، وهو ما جعلها محملة بالتناقضات الغير محلولة، حيث لم تكن المنطقة مهيأة بعد لاستقبال “الدولة الحديثة” المبنية على المواطنة والقائمة على المؤسسات، والمستوعبة للانقسامات الطائفية والعرقية.

وقد رافق تأسيس الدولة القطُرية في العالم العربي نهاية الخلافة، وهي صيغة الاجتماع السياسي التي عهدتها المنطقة لقرون، والتي ترك غيابها ارتدادات سياسية واجتماعية وفكرية كبرى. فكانت نهاية الخلافة الجامعة والعابرة للحدود، والانتقال إلى الدول القٌطرية المحدودة، الدافع الأساسي وراء صعود التيارات الساعية للعودة إلى حالة الوحدة. وقد جاءت هذه المشاريع في إطارين؛ الأول: ديني، يسعى لإعادة تأسيس الخلافة وفقا لاعتبارات إسلامية دينية، والثاني: علماني، يسعى لتوحيد الدول العربية وفقا لاعتبارات قومية.

الحل القومي

جاء صعود القومية العربية في إطار موجات التحرر من الاستعمار ومجابهة الإمبريالية. وقد بلغت ذروتها في المشروعين الناصري، والبعثي. وقد انتهت إلى التمكن من إحداث تغيير في الحدود القطرية، كما كان مع قيام الدولة العربية المتحدة عام 1958 بين سوريا ومصر. ولكن الأنظمة والمشاريع القومية العربية لم تتمكن من تطوير وتطبيق مفاهيم المجتمع والدولة الحديثة؛ بل إن قيم المجتمع “الإثني” (المقسم عرقيا) انعكست وسيطرت على السلطة بدل أن يكون العكس؛ وهو ما ظهر في اعتماد حكم البعث في سوريا على الأقليات، وفي العراق على طائفة السنة، و ذلك بدلا من إيجاد آليات لتداول السلطة وحل النزاعات عبر بُنى مؤسسية حديثة.

ولعله من قبيل المفارقة أن الدول العربية التي حكمتها الأنظمة القومية (وقد حكمت هذه الأنظمة أكبر الدول العربية، منذ 1952 في مصر الناصرية، وتلتها في العراق وسوريا واليمن والسودان والجزائر وليبيا)، أن هذه الدول هي تقريبا التي تشهد حالة التمزق الحالي.

الحل الإسلامي

وأما فيما يتعلق بالمشاريع الوحدوية الإسلامية، وإذا ما تجاوزنا المشاريع الشعاراتية التي رفعتها بعض الدول، و كان أهمها مشروع الملك فيصل في دعوته إلى “التضامن الإسلامي[4]، فإن الحامل الأساسي لها كان حركات الإسلام السياسي، وبالتحديد جماعة الإخوان المسلمين، والتي انتهجت لتحقيقها منهجاً إصلاحياً تربوياً وإعدادياً طويل المدى. وقد انتهت في كثير من الحالات إلى أن يتم احتواؤها من قبل السلطات الحاكمة في الدول (كما في الحالة الأردنية)، وفي أحيان أخرى إلى أن تتحول إلى جبهات للمعارضة (كما في الحالة المصرية)، كما وصلت في حالات أخرى في بعض البلدان إلى المشاركة في الحكم والسلطة (كما في: السودان، غزة، الجزائر، وبعد الربيع العربي في: مصر، والمغرب، وتونس)، ولكنها بقيت في جميع الحالات عاملة ضمن أطر وحدود الدولة الوطنية القُطرية، وإن كانت قد بقيت هناك أجنحة داخلية متمسكة بالعمل “الأممي” (وقد بلغ ذروته في التنظيم الدولي للإخوان المسلمين)، إلا أنه لم يتعد أشكالا مختلفة من التعاون والتنسيق التي لم تصل إلى درجة التجاوز للدولة القُطرية، بل بقي العمل السياسي الإسلامي دائماً منضويا ضمن أجهزة و مؤسسات الدولة القطرية.

وقد خرج من رحم الحركات الإسلامية الإصلاحية تيارات أكثر ردايكالية، انشقت عنها، عرفت بـ “الجهادية”، لم تعترف بالحدود، ولم تعترف بكل الدولة الحديثة، ولا بالعملية الديموقراطية، ولكنها بقيت مشاريع قصيرة النفس، أشبه بالفقاعات تظهر في أماكن وأزمان متباعدة، كما أنها كانت هشة أمنيا مخترقة بدرجة كبيرة، إلى الحد الذي بدت فيه أقرب إلى لعبة بأيدي أجهزة استخباراتية مختلفة. وربما يكون “تنظيم الدولة الإسلامية” هو ذروة ما وصلت إليه وأنجزته هذه الحركات، خاصة مع مشهد ازالة حدود “سايكس – بيكو”، بين سوريا والعراق، في صيف العام 2014.

ولكن، كما صنع القوميون، فإن التشرذم الذي سببته المشاريع الإسلامية المعاصرة لا يقل عن التشرذم الذي أفرزته الحركات القومية. وقد بقوا بعيدين عن المساهمة في بناء المجتمع الحديث المؤسس على قيم المواطنة، بل إن ما يجري من صراع بين حركاتهم أدهى وأمر، وبقسوة تفوق الصراع مع خصومهم.

ملامح مستقبلية

نعود إلى المسألة الأساسية وهي مدى إمكانية حدوث تغيير في الحدود السياسية الحالية. وبعد الإشارة إلى المشاكل الناجمة عن الحدود الحالية فإنه بالإمكان الميل نحو التوقع بحدوث تغيرات على الحدود الحالية، خاصة في ظل فشل الدول الحالية، وعدم قدرتها على تحقيق وتلبية المصالح العامة. وفي ظل استمرار الاضطرابات والصراعات، التي يبدو أنه لن ينهيها إلا إعادة ترسيم الحدود، بحيث يتم خلق كيانات سياسية جديدة وإجراء تغيير على كيانات أخرى[5].

و لكن الأرجح أن مثل هذه التغييرات لن تكون على المدى المنظور، بل ستأتي في إطار عملية بطيئة ومتدرجة. وأيا كانت التغيرات القادمة فهناك عدة ثوابت لا يمكن تجاهلها، وأهمها: انسحاب أمريكا كقوة امبريالية من المنطقة، ونهاية السياسة الخارجية التي سلكتها بإزائها، منذ تطبيقمبدأ أيزنهاور[6]. بالإضافة إلى التغيرات الطارئة في النظام الدولي وتحوله إلى حالة تعدد الأقطاب، وهذان العاملان قد يطيلا عهد “الفوضى” وعدم الحسم في المنطقة، حيث لا وجود لتوجه لتدخل خارجي حاسم، وهو ما يجد له صدى في أطروحات “الفوضى الخلاقة” و “الشرق الأوسط الجديد”، أما الثابت الثالث فهو وجود مشاريع إقليمية راسخة، يُستبعد أن تتعرض لأي زعزعة حقيقة، حتى على المدى البعيد، و بالأخص المشروعين الإيراني والتركي، واللذان يسيران بثبات نحو ترسيخ الدولة وتجاوز المشاكل العرقية[7].


[1] حيث تعطي التقسيمات الجغرافية الحالية ثروات كبيرة لشعوب بأعداد سكان قليلة، وتوفر ثروات محدودة لدول بعدد سكان أكبر.

[2] والتي أنهت حروب الثلاثين عاما في أوروبا، ونتج عنها استقلال عدد من الدول الأوروبية، كسويسرا وهولندا.

[3] حيث جاءت المواطنة كبديل عن الانتماءات الدينية (كاثوليك، بروتستانت،…).

[4] حيث انتهج الملك فيصل مبدأ التنسيق والتعاون بين الدول الإسلامية، والذي صاغه ضمن مفهوم “التضامن الإسلامي”، حين اقترحه مذهبا في السياسة الخارجية، لا مشروعا للوحدة السياسية؛ ليكون مقابلا للقومية العربية العلمانية التي دعا إليها جمال عبد الناصر. وقد بلغ هذا “التضامن” ذروته في منظمة التعاون الإسلامي (1969).

[5] وهو ما يصطلح عليه بـ “البلقنة“، وهو مبدأ التقسيم من أجل إيقاف النزاعات.

[6] وهو ما انعكس على سياسات الطاقة المتبعة مؤخراً في الولايات المتحدة، حيث الاتجاه نحو الإنتاج المحلي بدل من الإعتماد على المصادر الخارجية، ذات الكلفة الأمنية والعسكرية الباهظة.

[7] في إيران: كردية أو عربية أو آذرية، وفي تركيا: الكردية.