لطالما أثارت كوريا الشمالية الجدل حول علاقتها بالعالم الخارجي، وعزلتها الدولية وحالة الغموض التي تلفها في الأخبار العالمية. كانت كوريا الشمالية كذلك ثالث أضلاع محور الشر الذي ضم إيران والعراق. فهل تشهد هي الأخرى تقاربًا مع الغرب على خلفية إتفاق إيران الأخير؟

وقبل أن نسهب في الحديث؛ يمكنك قراءة المزيد عن السياسات الخارجية الأمريكية، وعلاقتها بدول شرق آسيا مثل اليابان من هنا:

من القنبلة الذرية إلى تويوتا: العلاقات الأمريكية اليابانية


شبه الجزيرة الكورية.. تاريخ مثير

كوريا,الشمالية,والجنوبية,صراع,طويل
خريطة توضيحية لموقع كلًا من الكوريتين (الجنوبية والشمالية).

الاحتلال:

تبدأ مسيرة العلاقات الأمريكية-الكورية باعتراف الولايات المتحدة بالسيطرة الكاملة لليابان على شبه الجزيرة الكورية بموجب الاتفاق الذي تم بين الجانبين الأمريكي والياباني “Taft-Kastro agreement” عام 1905، والذي بموجبه اعترفت اليابان بسيطرة أمريكا على الفلبين بعد الحرب الأمريكية الإسبانية عام 1898. وفي المقابل اعترفت أمريكا بسيطرة اليابان على كوريا. استمرت السيطرة اليابانية على شبه الجزيرة الكورية حتى لحظة التحرر بنهاية الحرب العالمية الثانية.

الانقسام:

الانقسام الكوري حدث مع بداية الحرب الباردة عام 1948 مخلفًا «كوريا الجنوبية – Republic of Korea» التي تحالفت مع الولايات المتحدة الأمريكية، و«كوريا الشمالية – Democratic Republic of Korea» التي تحالفت مع السوفييت.

اشتعل فتيل الحرب الكورية 1950-1953، والتي تعد نقطة فاصلة في رسم الخريطة السياسية في منطقة شرقي آسيا، بإعلان كوريا الشمالية غزو نظيرتها الجنوبية بمساعدة الاتحاد السوفييتي آنذاك. وكردة فعل، أقر مجلس الأمن طلبًا بإرسال قوات تابعة للأمم المتحدة لرد العدوان الكوري الشمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وقوات أُممية تضم بريطانيا وفرنسا، وكندا واستراليا، والفلبين ونيوزيلاندا، وتايلاند وكافة الدول الحلفاء لأمريكا في هذا الوقت.التساؤل الذى يبدو ملحّا، لماذا أذِن مجلس الأمن بمثل هذا القرار في وجود الاتحاد السوفييتي -الحليف التقليدي لكوريا الشمالية- كعضو دائم يمتلك حق الفيتو؟للإجابة على هذا التساؤل يمكننا أن نسترجع ما تناولناه عن سياسة الولايات المتحدة تجاه الغريم الصيني في هذا المقال:التنين الصيني والنسر الأمريكي… صراع النفوذ والقوة انفصلت تايوان عام 1949 -جمهورية الصين سابقا- عن جمهورية الصين الشعبية بعد سيطرة الشيوعيين عليها بمساعدة السوفييت. ولم يذهب مقعد الصين في مجلس الأمن للحكومة الشيوعية الجديدة، وهو ما أثار حفيظة السوفييت وامتنعوا عن حضور الجلسات للضغط في سبيل ذلك. تزامن هذا الانقطاع مع وقت تمرير القرار الذي نحن بصدده فلم يجد ممانعة تذكر.تدخلت القوات الصينية في الحرب حفاظا على أمنها القومي، وخشية أن تمتد الحرب إلى أراضيها بزعامة واشنطن، وخشية أن تعود كوريا موحدة فهي تعتمد بالأساس على كوريا كمنطقة عازلة وقائية بينها وبين المعسكر الغربي الرأسمالي. ثم تراجعت بعد حصولها على تطمينات بأن الهدف الوحيد من الحرب؛ هو رد العدوان الكوري الشمالي على كوريا الجنوبية وليس القضاء على أعداء الإمبراطورية الأمريكية ومخالفيها.


أزمة الانتشار النووي!

مع بداية التسعينات ظهرت أدلة على سعي كوريا الشمالية لامتلاك سلاحها النووي وإجراء تجارب صاروخية على أراضيها. هذا الخبر من شأنه بالطبع إحداث ضجة عالمية وفزع في المحيط الإقليمي والدولي. رحل الزعيم الأول لكوريا الشمالية «كيم إل سونج» عام 1994، وخلفه نجله «كيم يونج إل» الذي أبرم اتفاقًا مع الولايات المتحدة لمحاولة حل الأزمة النووية في أكتوبر من العام نفسه. كان هذا الاتفاق يقضي بتقديم المساعدات الاقتصادية، ورفع حظر التعاملات مع كوريا الشمالية.

وفي العام ذاته 1994 وحتى العام 1998، دخلت كوريا الشمالية مجاعة شديدة، نتيجة الفيضانات المستمرة والأمطار الغزيرة التي أتلفت المحاصيل الزراعية، ودمرت ما يقرب من المليون ونصف المليون طن من احتياطات الحبوب. عصفت المجاعة بالشعب الكوري، وراح ضحيتها ما يقارب 3 مليون فرد من أصل تعداد سكاني 22 مليون نسمة -أي ما يقارب 10% من سكانها-. إضافة لما خلفته المجاعة من أمراض نقص الغذاء والإعاقات الدائمة في الأطفال؛ الأمر الذي لم يلق تعاونًا دوليًا بالقدر الكافي، ما جرح مصداقية الاتفاق النووي المنعقد حديثا!

في الفترة بين عامي 2002-2003 انحلت عقدة الاتفاق النووي تمامًا، وصنفت إدارة الرئيس الأمريكي السابق «جورج بوش» كوريا الشمالية ضمن “محور الشر” الذي يضم دول: العراق، إيران، وكوريا الشمالية. كان ذلك بعد أحداث الـ11 من سبتمبر/ أيلول.وفي العام 2003 بدأت المحادثات السداسية: الصين، والولايات المتحدة، وروسيا، واليابان، وكوريا الشمالية، والجنوبية. وفي 2006 تم الإعلان عن أول اختبار نووي للسلاح الكوري الشمالي.العقوبات الإقتصادية بلغت ذروتها عام 2009، والمحادثات التي استمرت من عام 2006 لـعام 2011 باءت بالفشل بوفاة الزعيم الكوري «كيم يونج إل»، وخلفه حديث السن «كيم يونج أون» البالغ من العمر 28 عامًا عند وصوله الحكم. فعّل هذا الشاب التجارب النووية، وهدد في أبريل/ نيسان عام 2013 بأنه على شفير حرب نووية ضد كوريا الجنوبية!.كان «كيم يونج أون» يبحث عن مجد شخصي فور مجيئه للسلطة يسوق له بين قيادات الجيش الكوري الشمالي. ولذلك أخذت التهديدات على محمل الجد، وتوجه وزير الخارجية الأمريكي «جون كيري» فورًا إلى العاصمة الكورية الجنوبية «سول» ليؤكد أن أمريكا لا تتخلى عن حلفائها، وأنها لن تسمح بوجود كوريا شمالية نووية. الأمر الذي دفع الصين للتدخل للتهدئة، والضغط على كوريا الشمالية للعودة إلى طاولة المفاوضات مرة ثانية.

القادم بهذا الشأن مجهول. ربما اتفاق دولي على خلفية التوصلات الغربية الإيرانية الأخيرة. فرفقاء محور الشر ربما يلاقوا ذات المصير التفاوضي السلمي، وربما أيضًا حرب شاملة لحسم الوضع، وهو أمر مستبعد لأنه بالطبع لا يصب في مصلحة أي من الأطراف.

فكوريا الشمالية تمتلك ترسانة كبيرة من أسلحة الدمار الشامل البيولوجية والكيماوية والنووية، إلا أن اقتصادها منهك، وتعاني عزلة دولية كبيرة، ومعدات جيشها قديمة تعود للحقبة السوفييتية، وزعيمها الشاب لم يمسك بتلابيب السلطة كاملة، ونتائج حرب كهذه غير مضمونة على الإطلاق.

وربما تنتظر أمريكا انهيار كوريا الشمالية اقتصاديًا وذوبان شبه الجزيرة الكورية ثانية. والطرح الأجدر بالنقاش في الحالة الكورية الشمالية هو إمكانية تفاوض واشنطن وبيونغ يانغ.


هل تشهد السنوات القادمة تقاربا كوريا-كوريا؟

لا تتفاجأ إذا أخبرتك أن المنطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين؛ هي الأكثر عسكرة فى العالم. بها ما يقرب من 2 مليون جندي، وعشرات الآلاف من الدبابات والصواريخ والمدافع المكدسة على مسافة 75 ميلا على كلا الجانبين. ومع ذلك فما زال هناك احتمالاً قائمًا بإتمام مصالحة كورية كورية.

فالانقسامات الأيديولوجية في معظمها قابلة للنقاش مع أفول الشيوعية، وحاجة كوريا الشمالية الماسة إلى المساعدات الخارجية. لكن سلالة «كيم» الحاكمة في «بيونغ يانغ»، والتي تشكل طائفة قيادة عائلية، لديها مصلحة في تجنب المصالحة، بل إنها تتعمد أن تمارس سلوكًا استفزازيًا واضحًا. ما يعني على الأرجح ذوبان كوريا الشمالية في هذه الوحدة.

أما الصين -راعي كوريا الشمالية- فليس لديها اهتمام كبير بالمصالحة. فهي تتخذ من كوريا الشمالية حاجزًا جغرافيًا بينها وبين المعسكر الرأس مالي. بالتالي تستمر حالة الجمود ودورة الاستفزاز.

الدول التي فرقتها الحرب الباردة: ألمانيا والصين وفيتنام واليمن، سادها شعور شعبي بالوحدة الوطنية والثقافية مقابل الفرقة السياسية. وفي هذه الحالات ساد أحد الطرفين على الثاني نتيجة تفوق اقتصادي عسكري، وأُجبر الطرف الأضعف على الذوبان وقبول وحدة البلاد السياسية. الحالة الكورية كان متوقعا لها أن تمر بذات المرحلة. وكانت الحرب الكورية التي شنتها كوريا الشمالية على نظيرتها الجنوبية ربما ستذهب لهذه النتيجة لولا تدخل الدول الحلفاء بقرار من مجلس الأمن، إلا أن الوضع الراهن يعكس تفوقًا اقتصاديًا كبيرًا لكوريا الجنوبية -تحتل المرتبة الـ 13 بين أفضل الاقتصاديات في العالم- في مقابل تدهور الوضع الاقتصادي في كوريا الشمالية وعزلتها الدولية، ونفور أقرب الحلفاء عنها حتى صارت عبئًا سياسيًا عليهم بتصرفاتها غير العاقلة تجاه دول الجوار.لذلك تجد كوريا الشمالية نفسها مضطرة إلى الاستمرار في اصطناع الأزمات، التي يمكن من خلالها تبرير وجودها الذي يبدو تبريره من الصعوبة بمكان. وأنه يجب عليها إعادة اختراع نفسها أيديولوجيا الآن، خصوصًا أن الشيوعية عفا عليها الزمن. وهذا هو الهدف من وراء أحداث مثل؛ إغراق السفينة تشيونان، أو قصف يووينغ بيوينغ عام 2010. وهذا أيضًا وراء عدائها لنظام للولايات المتحدة كأيديولوجية. فبدون توتر مع جيرانها، لا يمكن أن تفسر كوريا الشمالية لشعبها لماذا هم هكذا أشد فقرا وأبأس حالًا من أبناء عمومتهم الجنوبيين. زوال كوريا الشمالية لا شك سيكون مرحبا به كما كان الحال بزوال ألمانيا الشرقية. لذلك اتخذت كوريا الجنوبية سياسات أكثر حكمة في محاولات دمج الجزيرة الكورية كدولة موحدة. كان هذا أواخر التسعينات وعُرف دوليًا باسم «ـسياسة الشمس المشرقة – sunshine policy».


سياسة الشمس المشرقة 1998 – 2008

بعد أحداث الـ11 من سبتمبر/ أيلول عام 2001، صنّفت إدارة الرئيس الأمريكي السابق «جورج بوش» كوريا الشمالية ضمن مايعرف بـ«محور الشر»

إدارتان متعاقبتان على حكم كوريا الجنوبية حاولتا تقريب المسافات بين الكوريتين، وتخفيف حدة التوتر بينهما فيما عُرف دوليا باسم «سياسة الشمس المشرقة – sunshine policy». على إثرها حاز الرئيس الكوري الجنوبي «كيم داي يونج» جائزة نوبل للسلام عام 2000 على جهوده المبذولة فى هذا الإطار.

في العام 2013 انتخبت «بارك غن هي» كأول امرأة لحكم كوريا الجنوبية. وصفتها الصحف المحلية فور وصولها السلطة بالمرأة الحديدية، إلا أن سياساتها الخارجية كانت على خلاف ذلك، وربما بدت حتى متناقضة فيما يخص القضايا الخارجية. وبذلت جهدًا كبيرًا لنزع فتيل الأزمة الكورية، وتحسين العلاقات. تلخصت سياستها الخارجية بين الذوبان والتوتر؛ وقد بدا ذلك في تقربها من الدول الكبرى، ورغبتها في حل الأزمة الكورية على عكس ما كان متوقعًا منها لاسيما وهي ابنة الرئيس الكوري الأسبق «بارك شونغ هي» المعروف بالحزم والصرامة.

حاولنا في سياق هذا التقرير الوقوف على أهم المحطات التي تربط الولايات المتحدة بأهم الدول الفاعلة في المنطقة الشرق آسيوية، وتدخلاتها السياسية والإقتصادية، في محاولة لجعل القارئ يستنبط أهم محددات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة بأسرها.