كان هذا الكتاب نتاج حوار على مائد عشاء مع تشارلز هيل. في هذا العشاء توصلنا إلى استنتاج أن الأزمة في مفهوم النظام العالمي هي المشكلة الأساسية لأيامنا
هنري كيسنجر

يناقش كتاب «النظام العالمي» لـ«هنري كيسنجر» ما يعرف الآن بالأسرة الدولية وتطورها، منذ بداية تشكل ملامحها الأولى في مقاطعة وستفاليا الألمانية عام 1648 إلى ملامحها الحالية التي تمثلها الأمم المتحدة.

ينطلق الكاتب مناقشًا التحديات التي واجهها هذا النظام في تأرجحه بين المشروعية؛ ويقصد بها جملة القواعد المقبولة عمومًا التي تحدد مدي الفعل المسموح به بين الوحدات السياسية القائمة، وبين توازن القوة الذي يفرض الانضباط حينما تنهار تلك القواعد.

بين هذين المحددين -القوة والمشروعية- يحلق الكاتب عبر التاريخ مناقشًا ملامح تشكل هذا النظام وخاصة منذ القرن السابع عشر وحتى الآن، محاولًا البحث عن كيفية لإذابة التجارب التاريخية، والقيم المتباينة في بوتقة نظام مشترك، يستبدل الصراع بالنظام العالمي.


أوروبا .. من النظام التعددي إلى توازن القوة

عبر ما يزيد عن ألف سنة، ظل نظام الحكم الأوروبي بتياره العام مستمدا من التوازن، وظلت الهوية مستمدة من مقاومة الحكم الكوني الشامل. فمع سقوط روما عام 476م تفككت تلك الإمبراطورية وبدأت عصور الظلام الأوروبية، تلك القرون التي خلقت في نفوس الأوروبيين حنينا إلى ماضٍ كوني مفقود.

يناقش كتاب النظام العالمي لكيسنجر ما يعرف بالأسرة الدولية وتطورها منذ بداية تشكلها في وستفاليا الألمانية 1648م إلى الان التي تمثلها الأمم المتحدة

الأمر الذي تحقق بعد ذلك بالفعل متمثلًا في مظهرين: وحدة سياسة قصيرة المدى على يد شارلمان عام 800م استمرت لأقل من قرن فيما عُرف بالإمبراطورية الرومانية المقدسة، والمظهر الثاني نمط الكنيسة الكونية التي تبناها خلفاء بطرس الرسول ممثلة في السلطة البابوية.

ومع انهيار الوحدة السياسية التي أسسها شارلمان والتي استمدت مشروعيتها من سلطة البابا، نشأت عشرات الوحدات السياسية المختلفة لكنها ظلت محافظة على المظهر الثاني فقد كانت تعلن جميعها ضعفها أمام المسيح.

لم تظهر مثل تلك الوحدة السياسية مرة أخرى في أوروبا إلا في فترة قصيرة (ما يقرب من 40 عام) في فترة حكم الأمير الهابسبورجي شارل (1500-1558م)، إلى أن حدثت ثلاثة تغيرات ثورية أنهت شكل الدولة القروسطي السياسي والديني.

كانت هذه التغيرات هي: الاكتشافات البحرية الطامعة في تحقيق التفوق الاستراتيجي، واختراع الطابعة التي وفرت إمكانية تقاسم المعرفة، وحركة الإصلاح الديني البروتستانتي. وكنتيجة تبدو مباشرة للعامل الأخير اندلعت سلسلة من الحروب اجتاحت أوروبا بين الممالك الكاثوليكية والبروتستنتية استمرت ثلاثين عاما، إلى أن تم عقد صلح وستفاليا بين الممالك الأوروبية المتناحرة.

كان جوهر ما تم التوصل إليه من اتفاقات في هذا الصلح ينبع من حقيقة أن الدولة كيان مجرد ودائم، موجود بحد ذاته، لا تتحدد شروطه بشخصية حاكمها، أو المصالح العائلية، أو مطالب الدين القومية، بل تتحدد بالمصلحة القومية؛ ومن هنا بدأت الدولة القومية في كونها الوحدة الأساسية في العلاقات الدولية.

مثلت هذه المعاهدة أساس المشروعية في نظم الحكم والتحالفات الأوروبية بعد ذلك، وقام بضمانها توازن القوة من خارج أوروبا متمثلًا في انجلترا ومن داخلها متمثلًا في فرنسا.

هذا التوازن الذي يمكن تحديه بطريقتين:

أولًا: حين يقوم بلد رئيسي بتضخيم قوته إلى حدود التهديد بفرض الهيمنة، كما فعل لويس الرابع عشر ونابليون بونابرت في محاولتهم للسيطرة على أوروبا، واللذان تعرضت لهما المنظومة الوستفالية بالإحباط والسحق، مفضلة أوروبا التعددية.

ثانيًا: عندما تحاول دول ثانوية الالتحاق بركب القوى الرئيسية فتدفع القوى الأخرى إلى إطلاق سلسلة من التعديلات التعويضية وصولًا إلى استحداث تعادل جديد أو اندلاع حريق عام، وهو ما فعله فريديرك الثاني ملك بروسيا ثم بسمارك الذي وحد الإمارات الألمانية مع بروسيا، ولم تستطع المنظومة الوستفالية سوى التكيف مع هذين التغييرين.

بعد الحرب العالمية الأولي لم تُعد الدول الأوروبية توزيع القوى بما يضمن الحفاظ علي مشروعية نظام صلح «فرساي»

في عام 1914 أدى تفاقم القوى في القارة الأوربية إلى اندلاع الحرب العظمى، والتي لم تنجح الدول الأوروبية بعد انتهائها من تنفيذ بنود الصلح وبالتالي لم تُعد توزيع القوى بما يضمن الحفاظ على مشروعية نظام صلح فرساي، مما أتاح للدول ذات الطموحات التوسعية مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا إضرام الحريق من جديد في القارة الأوروبية؛ الأمر الذي استلزم ضرورة صوغ النظام الأوربي من جديد.

بعد انتهاء الحرب وهزيمة ألمانيا العنيدة لم يكن تقسيمها بالأمر الجديد في التاريخ الأوروبي ، لكن ما كان جديدًا هو مبادرة ألمانيا الحديثة الناشئة الصريحة إلى طرح ذاتها جزءًا مكوِنًا من الغرب.

و في نوع من التباري في طبيعة النظام الدولي، فقد برز الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية كتحدٍ لأوروبا من الداخل، مما حدا بأوروبا إلى تسليم قيادتها للولايات المتحدة الأمريكية التي أسست حلف شمال الأطلسي الذي تولت فيه أمريكا إدارة السياسة الخارجية باتجاه احتواء الاتحاد السوفييتي عالميًا عن طريق قوة الولايات المتحدة النووية.

أدى سقوط الاتحاد السوفييتي متثملًا في انهيار جدار برلين إلى تحول في الطبيعة الجيوسياسية للنظام الأوروبي، إذ لم يعد هنالك أي تهديد عسكري لأوروبا من الداخل.

ورغبة في تدعيم عملية التوحيد الناشئة في ألمانيا، اضطر الاتحاد الأوروبي للمبادرة إلى استحداث عملة مشتركة في عام 2002، وهيكلية سياسية رسمية. في 2004، أعلنت أوروبا موحدة، كاملة، حرة، دائبة على تسوية خلافاتها عبر آليات سلمية.


الشرق الأوسط وانحطاط الدولة

الدولة كيان مجرد ودائم موجود بحد ذاته لا تتحدد شروطه بشخصية حاكمها أو المصالح العائلية أو مطالب الدين القومية بل تتحدد بالمصلحة القومية

«في زماننا هذا يبدو الشرق الأوسط محكوما بقدَر اختبار جميع تجاربه التاريخية على نحوٍ متزامن: تجارب الإمبراطورية، الجهاد (الحرب المقدسة)، الإدارة الأجنبية، الحرب الطائفية من الجميع ضد الجميع، قبل أن يتوصل (إذا كان سيفعل بالمطلق) إلى مفهوم ثابت للنظام العالمي. وإلى أن ينجز ذلك، يبقى الإقليم مشدودا بالتناوب نحو الالتحاق بركب الأسرة العالمية والكفاح ضدها».

انطلق الكاتب في عمق التاريخ منذ بداية بعثة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ، وتحدث عن هذه الانطلاقة السريعة واللافتة للنظر على مدى التاريخ بأكمله، مقوضا أركان الإمبراطوريتين العظميين في ذلك الوقت، الفارسية والبيزنطية، مفسرًا ذلك بالحماسة الدينية الشديدة التي دفعت العرب للجهاد المقدس.

وبالفرصة المواتية من ناحية أخرى حيث كانت تلك الإمبراطوريات في مرحلة ضعف وتآكل؛ فتقدم الإسلام في غضون قرن واحد عبر ثلاث قارات أقنع فيها المؤمنين بسماوية رسالته، ومدفوعًا من الإيمان بأن من شأن انتشاره أن يوحد البشر، مؤسسًا بذلك لنظام عالمي جديد.

من وجهة نظر الكاتب فقد قسم الإسلام العالم إلى منطقتين: دار الإسلام وهي المنطقة التي يخضع سكانها للحكم الإسلامي ككتلة سياسية واحدة تخضع لحكم الخليفة، الوريث الشرعي لسلطة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) الأرضية، والمنطقة الثانية هي دار الحرب، وهي تلك المناطق التي يسعى الإسلام لإذابتها في بوتقة نظامه العالمي وصولًا إلى تحقيق السلام الكوني الشامل. والوسيلة المعتمدة لتحقيق ذلك هو الجهاد، والذي هو فرض يلزم المؤمنين بتوسيع دائرة دينهم عبر الكفاح والنضال.

ثم انطلق الكاتب في الحديث عن بروز الخلاف السني الشيعي بعد وفاة النبي وعن استئثار السنة بالحكم مع أحقية علي (رضي الله عنه). ثم كانت نهاية هذا النظام الإسلامي الرسمية بسقوط الخلافة العثمانية عام 1924 على أيدي العسكريين العلمانيين في تركيا.

لم يعد طرح البديل الإسلامي للنظام العالمي الوستفالي مرة أخرى إلا في عام 1947 حين أقدم حسن البنا (رحمه الله) بتوجيه رسالة انتقاد للمؤسسات المصرية إلى الملك فاروق بعنوان «نحو النور» قدمت الرسالة بديلًا إسلاميًا من الدولة الوطنية العلمانية، حيث كان يقول بعبارات أخرى أن نظام وستفاليا فاقد لمشروعيته وسلطته، وأن الحل في إنشاء نظام عالمي على أساس الإسلام وبناء صرح النظام الاجتماعي الذي يأمر به القرآن.

يقول الكاتب أن البنا لم يُمنح الفرصة ليعبر عن مشروعه الثوري الهادف لتغيير العالم، إلا أن رسائله فسرت من الوجه الأصولي الأكثر تشددًا، والرافض للتعددية، على يد أستاذ الأيديولجيا في الإخوان المسلمين سيد قطب في كتابه معالم في الطريق والذي كان بمثابة بيان الحرب على النظام العالمي القائم، ونَصًا تأسيسيًا للحركة الإسلامية الحديثة.


انحطاط الدولة؟

مر الكاتب سريعًا على ثورات الربيع العربي والتي كانت تنتظر منها أمريكا أن تأتي بنظم ديمواقراطية تحافظ على النظام العالمي القائم، لكنه توصل إلى أن الثورات انقلبت إلى صراعات في كثير من تلك الدول وخاصة الصراع في سوريا والعراق والذي أصبح رمزًا لتوجه مشئوم جديد.

تحلل كيانات الدولة وتفككها إلى وحدات قبلية عشائرية، طائفية، مذهبية، بعضها عابرة للحدود الموجودة، في صراع عنيف بينها، أو متلاعَب بها من قبل زمر خارجية متنافسة؛ والنتيجة أن الدولة لا تصبح محكومة بكليتها، فيبدأ النظام الدولي أو الإقليمي نفسه بالتفكك، فتنشأ فضاءات خالية موحية باللاقانون تطغى على أجزاء من الخريطة، والآن أصبح هنالك جزء كبير من الشرق الأوسط بل والعالم بات على حافة الانزلاق إلى خارج النظام الدولي القائم على أساس كيانات الدول، بكل ما في تلك العبارة من معني.


إيران

«لعل إيران بين سائر دول الشرق الأوسط، هي المتوفرة على الخبرة الأكثر تماسكا على صعيد العظمة القومية-الوطنية، والتراث الاستراتيجي الأعرق والأوسع دهاء»

مع الثورة الإيرانية أمسكت الحركة الإسلامية التي تعتزم الإطاحة بنظام وستفاليا بزمام دولة حديثة، مؤكدةً في نفس الوقت حقوقها وامتيازاتها الوستفالية –لها مقعد في الأمم المتحدة، توجه تجارتها وتشغل جهازها الدبلوماسي- وهكذا وضعت إيران نفسها عند تقاطع نظامين عالميين ينكر وستفاليا ويطالب بامتيازاتها.

مؤخرًا أبدت أمريكا والديموقراطيات الغربية قدرًا من الانفتاح مع هذا الموقف في مقابل توجه جديد للملف النووي الإيراني بعد مفاوضات (5+1) في نوفمبر 2013، حيث ألزمت إيران بإيقاف عمليات التخصيب عند مستوى معين يتناسب مع برنامج نووي سلمي، في مقابل رفع بعض العقوبات الدولية التي فرضها عليها مجلس الأمن الدولي.

مثل هذه الخطوات تمهد لنوع من التغيير الجذري في علاقة الغرب بإيران، لاسيما إذا جاءت معطوفة على أن الطرفين سيعملان على لجم الموجتين المتطرفتين السنية والشيعية المهددتين للمنطقة.


خلاصة

قسم الإسلام العالم إلي منطقتين، دار الإسلام التي يخضع سكانها للحكم الإسلامي، ودار الحرب التي يسعى الإسلام لاستيعابها في نظامه

«تنعكس حيوية أي نظام دولي على التوازن الذي يحققه بين المشروعية والقوة والتركيز النسبي على كل منهما. أي من العنصرين لا يستهدف وقف التغيير؛ لعلهما مجتمعان يحاولان ضمان حصوله بوصفه موضوع تطور، لا صراع إرادات فج. إذا كان التوازن بين المشروعية والقوة مدارًا على نحو سليم، فإن التحركات ستكتسب قدرًا من العفوية.

استعراضات القوة ستكون هامشية ورمزية إلى حد كبير؛ لأن تموضع القوة سيكون مفهومًا. عمومًا فإن أي طرف لن يشعر بالحاجة إلى استنفار كل ما لديه من قوى احتياطية. أما حين يتم نسف التوازن فإن الضوابط تختفي، وتغدو الساحة مفتوحة أمام أكثر الادعاءات شططًا وأشد الأطراف الفاعلة عنادًا وحقدًا؛ ثم تحل الفوضى إلى أن يتم استحداث ترتيبات نظام جديد».