وبعد أقل من أسبوعين، رضخ الحزب الحاكم في البلاد إلى شروط الدول الدائنة بمزيد من التقشف من أجل الحصول على الجولة الثالثة من المساعدات، لتخلف الحكومة بذلك وعدها للشعب باتباع سياسة ” لا تقشف بعد اليوم”. فالآن أصبحت اليونان مُرغمة على خفض إجمالي الناتج الداخلي وزيادة البطالة، البالغة حالياً 25% من أجل تأمين التمويل لمدة ثلاث سنوات قادمة تحول دون خروج اليونان من اليورو أو إعلانها للإفلاس.

ماذا سيحدث في اليونان؟ من المُخطأ؟، هل تُعلن اليونان إفلاسها؟، لماذا لا تترك اليونان اليورو؟ ما هي تخوفات أوروبا من خروج اليونان؟؛ أصبحت كل تلك التساؤلات بمثابة الشغل الشاغل للمجتمع الدولي بكافة أطيافه، لكن الإجابة عليها لن تكن الإجابة النموذجية “كما يقول الكتاب”، فالمشكلة اليونانية لم تعد اقتصادية فحسب بل أصبح هناك تداخلات سياسية يمكنها أن تُعقد من الأمور في هذا الشأن.

كيف وصلت الأزمة اليونانية إلى عنق الزجاجة؟

لفهم ما يجري في اليونان، نحتاج أولاً أن نفهم كيف وصلت اليونان إلى تلك المنطقة داكنة السواد. فقد كان واحداً من متطلبات التقارب الاقتصادي ودخول اليونان لمنطقة اليورو ألا يتعدى العجز في الميزانية أكثر من 3٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وألا يتعدى الدين العام 60% من الناتج المحلي الإجمالي. وكان ذلك شرط مفروض على جميع البلدان، ولكنه لم يُتبع على مر السنين داخل كل دول منطقة اليورو، ولا حتى ألمانيا، أشد المنادين بالانضباط الصارم.

لكن اليونان منذ البداية أخفت وضعها المالي والاقتصادي عن قادة منطقة اليورو، وبعد الانضمام لليورو في 2002، جاءت حكومة الوسط برئاسة ” كونستانتينوس كارامانليس” إلى السلطة في مارس 2004 لتكتشف حقائق مروعة أهمها أن العجز في الميزانية ليس 1.5٪، كما ذكرت الحكومة السابقة حين انضمامها لليورو، ولكنه يبلغ 8.3%، أي أعلى خمس مرات ونصف مما كان يعتقد.

كونستانتينوس كارامانليس
كونستانتينوس كارامانليس

وهنا لم تعرف الحكومة ما الذي يجب أن تفعله مع هذه المعلومات الصادمة، ولكن مع اقتراب دورة الألعاب الأولمبية، قررت الحكومة الاستمرار في إخفاء المعلومات الصحيحة وذلك لعدم خلق نوع من الاضطراب للناس، داخل اليونان أو خارجها، وهنا بدلاً من الكشف عن حجم العجز والبدء في التعامل معها غطت الحكومة عنه.

وفي أواخر عام 2008، كانت اليونان في ورطة مالية خطيرة ولم يكن أحد يعتقد أن هذا سيحدث. وكانت الأسواق المالية والاتحاد الأوروبي غير مستعد تماماً لمواجهة تلك الورطة. فاليونان أضحت وقتها مدينة بمليارات اليوروهات للبنوك والمؤسسات المالية في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي. وإذا لم تتمكن تلك البنوك من الحصول على أموالهم، فإن بعضهم ستتعرض للإفلاس، مما أثار سلسلة من ردود الفعل التي من شأنها أن تتسبب في حدوث الأزمة المالية العالمية.

خلال فترة حكومة “كارامانليس”، والتي امتدت لخمس سنوات بين 2004 – 2009 ارتفع الدين العام 70 مليار يورو إضافية، كما ارتفعت نسبة العجز والإنفاق العام، لذلك قدمت تلك الحكومة استقالتها تحت الضغط الاقتصادي والاجتماعي، وجاءت بعدها حكومة “يورغوس باباندريو” الاشتراكية إلى السلطة ووجدت أنها غير قادرة على معرفة الحجم الحقيقي للدين العام. لذلك بادرت الحكومة إلى تشكيل لجنة مستقلة للتحقق من حجم الدين، بالرغم من أن حجم هذا الدين الذي أعلن عنه آنذاك هو 300 مليار يورو.

وبدأت الأزمة تتفاقم مع اعتراف اليونان في أكتوبر لعام 2009 بأن الحكومة السابقة قد زيفت الحسابات القومية. وأن الحكومة الحالية تعاني من عجز في الميزانية بنسبة 13.6%، وديون تبلغ 115% من الناتج المحلي الإجمالي. وهنا تم تخفيض التصنيف الائتماني للبلاد، لأول مرة من قبل مؤسسة فيتش ومن ثم من قبل وكالة موديز مما أدى على فقدان ثقة المستثمرين في الدولة، وارتفاع تكلفة الاقتراض ولذلك أصبح الوضع خارج نطاق السيطرة.

وهنا تدخلت دول أخرى في منطقة اليورو، في شكل ما يسمى “الترويكا” المكونة من المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي لدعم اليونان. وفي مايو 2010 وافق قادة منطقة اليورو والحكومة اليونانية على قرض إنقاذ بقيمة 110 مليار يورو، لكن الإنقاذ جاء مع شروط صارمة من بينها تحسين جباية الحكومة للضرائب وتقليص النفقات العامة في محاولة لضبط الميزانية العامة للبلاد.

ولأن قرض الإنقاذ الأول لم يكفي لتحسين الوضع في اليونان، وافقت الحكومة في فبراير 2012، على الحصول على قرض إنقاذ أخر، ليصل مجموع الأموال المقترضة إلى 246 مليار يورو. وتم الاتفاق على خطة تقشف جديدة ببنود أشد قسوة من الأولى.

ورغم ارتفاع المبلغ المستحق للمقرضين الدولية لنحو 135٪ من الناتج المحلي الإجمالي لليونان في الوقت الحالي، ازدادت الأمور سوءً لتصل معدلات البطالة لأكثر من 25%، وترتفع بين الشباب لكثر من 50%. وثمة حاجة إلى المزيد من المال لإنعاش الاقتصاد، وتخفيف عبء الديون، إذا كانت البلاد تُريد مرة أخرى الوقوف على قدميها. وحتى تحصل اليونان على مزيد من الأموال أصبح عليها أن توافق على مزيد من التقشف الذي يضغط على حياة المواطن اليوناني بالدرجة الأولى.

خطة التقشف الجديدة.. الأسوأ في تاريخ اليونان

تعتبر الصفقة الجديدة التي أقرها البرلمان اليوناني مؤخراً أسوأ بكثير وأكثر تقشفاً من تلك التي قال لها الشعب “لا” في الاستفتاء على خطة الإنقاذ في 5 يوليو. فالحكومة التي تقودها سيريزا، التي تعهدت مراراً بالكفاح ضد إجراءات التقشف الاقتصادية، لم توافق فقط على عدد من التدابير التقشفية للغاية، مثل مزيد من خفض المعاشات التقاعدية والإصلاحات العمالية، بل تم إجبارها على خطط جديدة للخصخصة وبيع أجزاء من البلاد للقطاع الخاص حتى تتمكن من إعادة رسملة القطاع المصرفي.

والمثير للدهشة هنا أن حزب “سيريزا” اليساري الحاكم حالياً كان المحرك الرئيسي لإضرابات ومظاهرات ضخمة ضد التقشف بين عامي 2010 و2014، أي لدى إقرار خطتي تقشف سابقتين فرضتاً على اليونان مقابل قروض بأكثر من 240 مليار يورو وافق عليها اليمين مع الاشتراكيين في ذلك الوقت. ومن ثم أصبح ائتلاف “تسيبراس” الحاكم يُعاني من بلبلة بسبب ذلك الاتفاق المبدئي، والذي أبقى أثينا داخل منطقة اليورو، لكن مع تجاوز الكثير من التعهدات الانتخابية التى أوصلت حزب سيريزا إلى السلطة، قد نجد اجتياح شعبي لا يُمكن السيطرة عليه يُطالب بعزل الحكومة التي يصفها الشعب بأنها خائنة.

تسيبراس زعيم حزب سيريزا ورئيس وزراء اليونان الحالي
تسيبراس زعيم حزب سيريزا ورئيس وزراء اليونان الحالي

فبعد ست سنوات من التقشف الذي أودى باليونان إلى خسارة ربع إجمالي الناتج الداخلي لها، وبعد أن خرجت اليونان من الانكماش في بداية 2014 لتعود إليه في الربع الأخير من 2014، بسبب عدم تسلمها الدفعة الأخيرة من القروض الدولية المقررة في الخطة الثانية للمساعدات التي قدمها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي. جاءت الترويكا لتفرض عليها جولة ثالثة من إجراءات التقشف الأكثر صرامة مقابل حزمة إنقاذ جديدة.

وبموجب الاتفاق؛ سيتعين على اليونان أن تحقق فائضاً في الميزانية أولاً حتى تتمكن من بدء التفاوض مع دائنيها بشأن تخفيف الدين العام البالغ نحو 180% من إجمالي الناتج الداخلي. ويقدر الدائنون الفوائض الأولية المطلوبة خلال الأعوام الممتدة من 2015 إلى 2018 بنحو 1% و2% و3% و3.5% على التوالي، لكن تحقيق اليونان فائضاً في ميزانية العام 2015 في ظل الظروف السياسية المضطربة والاجتياح الشعبي المتزايد ما هو إلا ضرباً من خيال.

ما المشكلة في قبول الاتفاق الأخير؟

المشكلة هنا لا تتمثل في تصرفات اليونان غير المحسوبة فحسب، بل تتعلق بإجراءات الاتحاد الأوروبي التي ينوي اتخاذها بهدف تخفيف دين اليونان، حتى أنه قد يضطر إلى شطب قسم من هذا الدين فقط من أجل المحافظة على عقد الاتحاد. ذلك في الوقت الذي ترى فيه المؤسسات المالية الدولي أن دين اليونان لا يمكن أن يكون قابلاً للمعالجة، إلا عبر إجراءات لتخفيف الدين تذهب أبعد بكثير مما تنوي أوروبا القيام من حيث ضخ نقود إنقاذ مقابل مزيد من التقشف الذي ينتهك أي نمو أو نشاط اقتصادي ممكن داخل اليونان، بعدما أوشك على أن يتخطي نحو 200% من إجمالي الناتج الداخلي خلال العامين المُقبلين بعدما بلغ حالياً نحو 180% بما يُعادل 312 مليار يورو.

والاتفاق المبدئي بين اليونان والقادرة الأوروبيين يقضي بمساعدة جديدة تتراوح بين 82 و86 مليار يورو على ثلاث سنوات، بشرط قيام أثينا بإجراء إصلاحات وهي زيادة عائدات الضرائب وترشيد الرواتب التقاعدية وتحرير سوق العمل.

هل الصفقة الجديدة حل جذري للأزمة اليونانية؟

رغم التوصل لذلك الاتفاق المبدئي الذي يقضي بمواصلة إسعاف اليونان، يرى صندوق النقد الدولي، المُساهم الرئيس في خطط الإنقاذ لليونان، أنه لا خيار آخر أمام أوروبا سوى تخفيف الدين اليوناني، وهو خيار تصدت له ألمانيا بقوة، وإلا فان الصندوق سيرفض المشاركة في تقديم أي مساعدة مالية مرتقبة لليونان.

فالصندوق، باعتباره طرفاً في “الترويكا” الثلاثية بجانب كل من البنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية، سوف يسهم بما بين 40 و50 مليار يورو لتغطية احتياجات التمويل لأثنيا، وستأتي إسهامات أخرى من صندوق النقد الدولي الذي يمكن لليونان أن تستفيد من تمويلاته في حدود 16 مليار يورو، بموجب برنامج ينتهي في مارس 2016، إلى جانب إيرادات محتملة من خصخصة أصول حكومية في اليونان.

وفي حالة عدم رضوخ القادة الأوروبيون، وبخاصة ألمانيا، للسبل التي يطرحها الصندوق من أجل الخروج من الأزمة بدلاً من تعزيزها، ربما نشهد تهديداً حقيقياً للصندوق بالانسحاب من خطة الإنقاذ، خاصةً أن دور الصندوق كمؤسسة مالية دولية ليس المساهمة بأموال ساخنة لإنقاذ دولة ما، بل يمنح الصندوق الدول المتعثرة أموال مقابل الالتزام ببرنامج مشروط يضعه الصندوق، وهنا يقترح الصندوق ثلاث خيارات لحل المشكلة اليونانية؛ أولها: مد فترة السماح لليونان من عشرة إلى ثلاثين عاماً لا تكون خلالها اليونان ملزمة بسداد دينها للأوروبيين، ثانيها: يكمن في تحويل أموال لليونان سنوياً، وثالثها: يقضي بشطب ديون اليونان نهائياً.

ويزيد من الأزمة في اليونان، ما يُعاني منه القطاع المصرفي من تعثر واضح في القيام بعمله كداعم رئيس للاقتصاد. فرغم الاتفاق المبدئي على إنقاذ أوروبا لليونان مُقابل مزيد من خطط التقشف، ورغم إعادة العمل في البنوك اليونانية بعد 21 من الإغلاق التام، هناك استمرار في تقييد الحد الأقصى للسحب النقدي، بل لا يزال العملاء غير قادرين على صرف الشيكات، إلا فقط من خلال إيداعها في حساباتهم. ولا يزال من الصعب للغاية بالنسبة للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم شراء المواد الخام الحيوية أو غيرها من السلع من الخارج، وذلك لأن البنوك لا تقدم قروضاً جديدة وهناك قيود شديدة على المدفوعات الخارجية. وذلك يُعني أن الوضع المالي للبنوك البنوك اليونانية يظل حرج.

وبالتدقيق في حيثيات الاتفاق المبدئي، المرتقب أن يدخل حيز التنفيذ في غضون أسابيع قليلة بعدما صدق البرلمان اليوناني على إجراءات التقشف، نجد أنه سيجنب اليونان من حدوث فوضى مترتبة على خروج اليونان غير المنظم من منطقة اليورو، وسيمكن القادة الأوروبيين أيضاً من تناول قضايا أخرى لبعض الوقت. ولكن من الجانب الأكثر شمولاً، نجد أن الاتفاق لا يتناول أيا من الحلول الهيكلية اللازمة للعديد من القضايا الجوهرية التي ألقت باليونان إلى ذلك المصير الكارثي، وكذلك لم يتضمن المشكلات والتحديدات العديدة التي أوقعت بأكثر من دولة في أوروبا في أزمات متعاقبة منذ عام 2009.

وهناك مشكلة أكبر تغرق بها منطقة اليورو، وهي عدم القدرة على التعامل مع اقتصادات متنوعة وغير متسقة كثيراً، وذلك على عكس ما يقوم به الاتحاد الأوروبي القادر على دمج العديد من الاقتصاديات شديدة التنوع، فإجمالي الناتج الداخلي بالنسبة للفرد في اليونان كان يكافئ قرابة نصف نظيره في ألمانيا وقت انضمامها لمنطقة اليورو عام 2001. ومنذ ذلك الحين تراجعت القدرة التنافسية لليونان مقارنة بألمانيا بمقدار يقارب 40%، لتصبح ألمانيا اكبر اقتصاد في المنطقة ككل.

أثر المزيد من التقشف على حياة المواطن اليونان

في الوقت الذي وافقت فيه الحكومة اليونانية على اتفاق من شأنه إبقاء اليونان داخل منطقة اليورو، أخذ المواطنون اليونانيون يُعدون أنفسهم لمجموعة واسعة النطاق من التغييرات الاقتصادية التي من المؤكد أنها ستمس جميع جوانب الحياة باليونان. بل تتجاوز تلك التغييرات إجراءات التقشف الحكومية مثل تقليص المعاشات وزيادة ضريبة القيمة المضافة، لتتضمن عناصر مثل إلغاء القيود الخاصة بالأسواق والمهن المغلقة.

وذلك يُعني أن التاجر اليوناني لن يتمتع بالحماية من المنافسين الآخرين من خلال ترخيص خاص يحمله لبيع منتجه، وتلك واحدة من التغييرات الكثيرة التي اعتبر أنها تضر بمهن كثيرة في اليونان وذلك في وقت تشتهر فيه آثينا بمشروعاتها الصغيرة.

وتشير بعض التقديرات إلى أن أكثر من ثلث اليونانيين يعملون في أنشطة تجارية خاصة بهم، وتتضمن حزمة الإجراءات التقشفية الجديدة إجراءات تسمح للمتاجر بفتح أبوابها أيام الأحد، المتعارف عليه كأجازة رسمية في بلدان المنطقة ككل، ونزع القيود عن أسواق الألبان والخبز، وفتح المهن المغلقة، وتوفير جهة واحدة لإنهاء الخدمات التي تجبر اليونانيين حالياً على الدخول في متاهة البيروقراطية الحكومية الضخمة.

ويرى المواطن اليوناني، الذي وثق في حكومة “سيريزا”، أن الاتفاق الأخير يعتبر بمثابة خيانة للإرادة الشعبية التي قالت لا للمزيد من التقشف في استفتاء الخامس من يوليو. فالشعب اليوناني اختار ” تسيبراس” رئيساً للوزراء في بداية العام بعد حملات انتخابية متزايدة تؤكد على عدم الرضوخ مجدداً لأي إجراءات تقشف من شأنها أن تُلقي على عاتق المواطن مزيد من الضغوط التي تمس الحياة اليومية له.

وعلى الرغم من شدة غضب المواطنون في اليونان، إلا أن معظمهم يرى أن الدائنين هم السبب الرئيسي لما يحدث في البلاد. فقد أظهر استطلاع أنجزه معهد “كابا سيرش” لحساب صحيفة “تو فيما”، وشمل 700 شخص، أن اليونانيين منقسمون حول المسئول عن “هذه الإجراءات الصعبة”، حيث رأى 48.7% أن الدائنين هم المسئولون، في حين يحمل 44.4% آخرين المسؤولية للحكومة.

لماذا لا يجب أن تخرج اليونان من اليورو؟

ترى ألمانيا أن اليونان لن تتمكن من استعادة مواردها المالية ونموها الاقتصادي دونما الخروج من منطقة اليورو، فألمانيا تصف بقاء اليونان في المنطقة بمثابة تحدي دائم للطرفين، من ناحية ستضطر المنطقة دائماً لتقديم المساعدات المالية، بلا جدوى، بحجة الحفاظ على نمو اقتصاد المنطقة، ومن ناحية ستضطر اليونان على مدى السنوات المُقبلة للرضوخ لتنفيذ مزيد من إجراءات التقشف لن يتحملها المواطن اليونان أكثر من ذلك.

لكن على الرغم من صواب ما تراه ألمانيا، ليس الوقت الحالي هو التوقيت المناسب لخروج اليونان من اليورو، فعند الخروج من اليورو ستضطر اليونان إلى العودة إلى عملتها القديمة “الدراخما”، وستقوم على الفور بخفض قيمتها وجها لوجه مع اليورو، ذلك في وقت تعاني فيه الدولة من نقص مزمن في الإنتاجية، انخفاض القدرة على التصدير، والمديونية الهيكلية. ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى مزيد من التضخم في وقت تستورد فيه اليونان نحو 48٪ من احتياجاتها الغذائية من الخارج. وتستورد اليونان أيضاً 80٪ من احتياجاتها من الطاقة، ولاسيما الوقود الأحفوري.

ومن ثم ستتمثل الآثار الاجتماعية المترتبة على مثل هذا التطور في مزيد من الاضطرابات الاجتماعية نتيجة لعدم المساواة الاجتماعية الكبرى التي سيعاني منها الاقتصادي اليوناني حال الخروج من اليورو دونما خطط ممنهجة للقيام بمثل ذلك التصرف الخطير. وتخفيف تلك الآثار يتطلب موارد مالية إضافية لدعم فئات معينة في المجتمع؛ ومن أين سيكون لليونان أن تحصل على تلك الموارد إذا خرجت من اليورو؟. فالاحتمال الأكثر واقعية هنا هو أن تكون اليونان منبوذة مالياً في أوروبا لسنوات قادمة، ومن ثم لن تكون اليونان قادرة على الاقتراض في أسواق رأس المال الدولية.

فعلى الرغم من محاولات التهوين من الآثار التي يمكن أن تلحق باليونان جراء خروجها، يقول تقرير البنك المركزي اليوناني الذي قدم للبرلمان في 17 يونيو الماضي، إن فشل اليونان في التوصل إلى اتفاق مع الدائنين سيقود حتما إلى خروج اليونان من منطقة اليورو، وذلك من شانه أن يُلحق أضراراً متزايدة بالاقتصاد اليوناني، بصفة خاصة تخلف اليونان عن سداد التزاماتها، وهو ما يعد إعلانا بالإفلاس من الناحية الفنية، وتحول أزمة ديون اليونان من أزمة يمكن التعامل معها من خلال اتفاقيات المساندة، إلى أزمة لا يمكن السيطرة عليها، بما لها من آثار خطيرة على النظام المصرفي والاستقرار المالي في اليونان.

وقال البنك أيضاً إن خروج اليونان لن يؤدي إلا إلى تعقيد الأوضاع الحالية في اليونان، مصحوباً بأزمة أسعار صرف خطيرة، ومشكلة تضخم خارج نطاق السيطرة. كل هذا سيؤدي إلى كساد عميق في اليونان، وانخفاض كبير في مستويات الدخول، وزيادة رهيبة في معدلات البطالة، وربما انهيار لكل ما حققه الاقتصاد اليوناني منذ التحاقه بالاتحاد الأوروبي وعضويته في منطقة اليورو، وستتحول اليونان إلى إحدى أفقر دول الجنوب الأوروبي.

متى تُفلس الدول، وهل ينطبق ذلك على اليونان؟

تُفلس الدول حينما تصبح غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية المستحقة للدول الأخرى، وفي حالة اليونان كون عملة الدولة مربوطة باتحاد نقدي وليست عملة محلية، ففي تلك الحالة لن تستطع الدول طباعة نقود محلية لسداد التزاماتها بل عليها استخدام نموذج إصدار السندات وبيعها على المؤسسات المالية والتجارية القائمة، وإن لم تستطع الدولة سداد مستحقاتها ولم تجد تمويل إضافي لسداد تلك المستحقات تعلن إفلاسها وتُتخذ الإجراءات المناسبة بعد ذلك التي منها ما قد يصل في حالات طرد الدولة من الاتحاد النقدي كاليورو.

وسبق وأن أعلنت الأرجنتين عن إفلاسها في عام 2001 بعدما فقدت الدولة القدرة على سداد ديونها بعد أن أهدرت ثرواتها التي ظنت أنها لن تنضب، ودخلت الأرجنتين في حالة من الكساد العميق، حيث عانت الدولة من ارتفاع معدل البطالة وارتفاع معدل التضخم ما تبعه انخفاض الناتج المحلي الإجمالي في العام التالي بنسبة 11%.

وحقيقةً، إن اليونان اليوم في حالة مشابهة للأرجنتين، فالدولة عاجزة عن سداد مستحقاتها للدول الدائنة، ولكن الفارق بين الحالتين أن الأرجنتين كانت مُجبرة على الإفلاس لعدم وجود منقذ مثل “الترويكا” يمدها بمزيد من حزم الإنقاذ لانتشالها من أزمة المديونية، لذا إذا أفلست اليونان فسيكون ذلك باختيارها وذلك لأن أوروبا ليس لديها الرغبة في فرط عقد اليورو بخروج إحدى دولها الـ 19، لما له من تأثير كبير على قوة عملتها الدولية التي تنافس بقوة الدولار الذي يعتبر عملة الاحتياط العالمية.

التخوف الأوروبي من خروج اليونان

صندوق النقد الدولي
صندوق النقد الدولي

أن تصبح عضواً في منطقة اليورو كان جزءاً من عملية انتقال طويلة من النظام السياسي اليوناني غير المستقر إلى الديمقراطية وسيادة القانون الموحد. لكن في المقابل حقيقة أن الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي يمارس المزيد من الضغوط على اليونان لتبقى على الطريق الصحيح من أجل الاستمرار في اليورو يعني أن هذا البلد يمثل أهمية سياسية عالية بالنسبة للمنطقة.

فالعالم الجيوسياسي تغير بشكل كبير منذ عام 2008. روسيا الآن معادية لأوروبا ​​بكثير عن أي وقت مضى. ووفقاً لتقارير صحفية ألمانية صدرت في الآونة الأخيرة، دخلت اليونان بالفعل في محادثات سرية مع روسيا بشأن التعاون العسكري في المستقبل، بما في ذلك إقامة مصنع لتصنيع بنادق كلاشنيكوف على الأراضي اليونانية، الأمر الذي يُزيد من القلق الأوروبي من إمكانية التقارب اليوناني من روسيا في وقت تتفاقم فيه الخلافات مع الأخيرة منذ ضمها لشبه جزيرة القرم في مارس 2014، التي أدخلت الطرف الروسي والأوروبي في سلسة مطولة من الصراعات.

وهنا تتخوف أوروبا من خروج اليونان لتصبح خارج سيطرتها مما يسمح بتهديد وجودي من روسيا الانتقامية. وتلك ليست مجرد حالة افتراضية، فرئيس الوزراء اليوناني ” تسيبراس” في اتصال دائم مع روسيا ذلك غير أن اليونان وصربيا وعدد قليل من دول المنطقة الأوروبية الأخرى لديها علاقات تاريخية عميقة لروسيا.

وعلى نحو آخر نجد أن قبرص هو شقيق اليونان الصغير، حيث يتحدث نصف مواطنيها اليونانية. ولا يقتصر الأمر على العلاقات العرقية والثقافية والسياسية والدينية، ولكن أيضا علاقات اقتصادية ملموسة حيث تمتلك البنوك القبرصية نحو 25 مليار دولار من سندات الحكومة اليونانية. وأكثر من ربع صادرات قبرص تذهب إلى اليونان.

وحينما تقود اليونان قبرص وصربيا خارج مدار الاتحاد الأوروبي، ففي ذلك قدرة أكبر لروسيا بتقديم ضربة كبيرة لأوروبا من خلال قطع مشروع الطاقة المُقام في جنوب وشرق أوروبا. وهذا لا يعني أنه إذا انحنت اليونان تجاه روسيا، سيتبعها بالضرورة البلدين الأخريين على الفور، لكن ذلك من شأنه أن يمنح روسيا فرصة كبيرة للتأثير على هذه الدول تدريجياً مع مرور الوقت.

ختاماً، صحيح أن معاناة اليونان من الإصلاحات المالية القاسية هو أمر حقيقي، لكنها في مجملها منطقية لبلد غارق في الديون، فكيف يمكن طلب إلغاء الديون وفي الوقت ذاته إلغاء سياسات التقشف التي يفترض أنها تضمن استدامة الوضع المالي اليوناني، لذلك كان أمراً طبيعياً أن يتمسك القادة الأوروبيون على خطة التقشف الجديدة حتى لو هددت اليونان بالانسحاب.

والانسحاب من منطقة اليورو لن ينقذ اليونان من مزيد من التقشف، فقد فرض الواقع ضرورة لإحداث تخفيضات متزايدة في حجم الإنفاق العام في اليونان، على الأقل في المدى القصير. فذلك التقشف رغم قسوته، لكنه سيؤدي أيضاً إلى آفاق الانتعاش الاقتصادي، والتي من شأنها تحسين وضع الميزانية، والأهم من ذلك أنه، في حال الالتزام به بشكل جاد، قد يدفع الاقتصاد اليوناني للنمو بشكل يجعله سيد مصيره. فاليونان تحتاج إلى وضع خطة ممنهجة بشأن الكيفية التي يُمكن بها إحداث توازن في الموازنة العامة وكيفية توليد نمو اقتصادي مستدام. وحتى تكون اليونان أكثر إنتاجية مرة واحدة فإنه من الواضح أن الإصلاحات الراهنة هي ضرورة اقتصادية، وليس شيئا تم فرضه على مجتمع مسلوب الإرادة.